التعبير الإبداعي الرقمي

رؤى جديدة في تدريس التعبير الإبداعي الرقمي

مقدمة

التغيير هو حركة، حدث دائم مستمر يعتري الطبيعة، الأفراد والمجتمعات، وهو قضية حتمية نمارسها سرا وعلانية، في نومنا وفي صحونا، بإرادتنا ورغما عنّا. الأرض تدور “والشمس والقمر كل في فلك يسبحون”، وكل ظواهر الطبيعة، المحيّر منها والمألوف كلها في تغيير وحركة. والإنسان نفسه ثمرة تحول وتغيير، في جانبيه الجسدي المادي والعاطفي الوجداني. تتشكل شخصيته “وتحطم شرنقتها” مرة تلو الأخرى.  والتغيير لا يقتصر على كونه تدرجا فحسب، أو حالة يمكن ربطها بالتطور التلقائي العفوي فقط، بل هو – في كثير من مراحله- سعي وصراع وتأزم، حتى يتحول الشيء إلى نقيضه.

و”كلما تطور الفكر البشري تطورت آليات تفكيره وتغيرت أشكال تعبيره، ومن ثمة تغيرت إدراكاته للأشياء والحياة والعالم“( 1)

فإذا كان التغيير سُنة الحياة ومنهج الكون فهل تبقى مناهجنا الدراسية بمنعزل عنه، سالمة منه؟ والسلامة في هذا السياق لا تعني الأمن، بل الذبول والاندثار بأرض الواقع المتغير. من هذا المنطلق كانت الحاجة إلى رؤى جديدة في تدريس التعبير الإبداعي تستمد حاجتها من واقع جديد مهيمن على الساحة الثقافية.

ولو أخذنا بمفهوم الإبداع على أنه خروج عن المألوف والمتعارف عليه ( 2 )، وعلى أنه انحراف بالمعايير النمطية التقليدية، لأمكن اعتبار التعبير الإبداعي الرقمي – موضوع سأخوض غماره في مقالي هذا-  إبداعا يتجاوز حدود اللغة إلى البعد الفني والوجداني، الكلمات فيه تشكل مسرحا لفن الصوت والصورة والحركة واللون من خلال وسائط رقميّة.

ما أنشده في مقالي هذا، تقديم طرح جديد في تدريس التعبير الإبداعي الرقمي ، يواكب العصر وينسجم مع ملامحه. إن الواقع المتغير من حولنا يطالبنا ويفرض علينا بإلحاح صارم عنيد أن نواكب المستجدات ونراعي المتغيرات، وإلا اتهمنا بالتخلف والتخلف صفة قد ترقى لحد الشتم لا أعتقد أننا كحاملي راية العلم والتطور، نرضى بها.

ما هو التعبير الإبداعي الرقمي ؟

التعبير الإبداعي الرّقمي هو منجز أدبي فني يُعدّه الطالب بواسطة الحاسوب ووسائط رقمية تمكنه من تحرير وإنشاء أفلام يمزج بها الكتابة والملفات الصوتية والموسيقى والصور ومقاطع الفيديو… الهدف من ورائه تطوير مهارات الطلاب في التعبير عن أفكارهم وطموحاتهم في إطار فني مبدع ومبتكر ومن ثمّ مشاركته مع الآخرين عبر الشبكة العنكبوتية.

ما وراء الحاجة إلى تعبير إبداعي رقمي

نحن في زمن نشهد به انتصارا للثقافة الرقمية، التي غزت حياتنا وغيرت اتجاهات تفكيرنا، عبر الانصهار في شبكة عنكبوتية متشعبة ممتدة في كل أصقاع العالم. إنه عصر الشاشة وما تبثه من كلام مصحوب بحركة وصوت وألوان وصور زيادة للمعنى وإثارة للمشاعر.

هذه الإمبريالية الرقمية لم تُبق الأدب بمأمن أو بمنعزل عن الرغبة الشرهة في السيطرة والاستحواذ، فولّدت ما يسمى بالأدب الرقمي، والأدب الإلكتروني والتفاعلي. ونشطت التحليلات  والدراسات النقدية  لرصد علاقة الأدب بالوسائط التكنولوجية وخصوصا شبكة الإنترنت.

يؤكد الناقد د.عبدالمنعم تليمة أن تطور المجتمعات البشرية يصاحبه دائماً تطور في النوع الأدبي، ما ينتج عنه وجود أشكال أدبية جديدة تصاحب هذا التطور، على اعتبار أن الأدب يمثل صورة للمجتمع، وحاضناً رئيساً لفعل النهضة .( 3 )

نحن في زمن نشهد فيه محاولات جادة من الكتابة للتبرؤ من حاملها الورقي التقليدي لصالح حامل مجرّد أكثر نفوذا وأشد سيطرة، فكيف نتهيأ إذا لليوم الذي تتحرر فيه الكتابة كليّا من حاملها الورقي؟ وهل بوسع الكتابة في سطوة الرقمية أن تفتح آفاقا جديدة أمام الإبداع الأدبي؟

يقول في ذلك محمد إسليم: “إذا كان ظهور الدفتر قد شكل ثورة عظيمة في تاريخ الكتابة والقراءة، فالتحولات التي تلحقها الوسائط الرقمية اليوم بالكتابة والقراءة هي أعظم بكثير من سابقتيها لأنها بصدد العصف بالكثير من المقولات والأنشطة.. وأشكال الإبداع الأدبي..” (  4 )

ولعلّ أهم التغييرات التي تُلحقها التكنولوجيا الرقمية بالكتابة هي إكسابها ميزة الانتشار السريع واللامحدود وجعلها مسرحا مفتوحَ المصراعين أمام إمكانيات متعددة مثل: دمج الصورة والصوت والحركة والأفلام والمؤثرات الأخرى في النّص المرئي أو المسموع. هذه الإمكانيات التكنولوجية تفرض الخروج من الشكل الفضائي المعهود الذي يعكسه كل من الكتاب والصفحة.

إن حاجة العصر إلى أشكال ومضامين أدبية جديدة، خارج الأطر المعهودة، هي حاجة ملحة، فكيف لا نأخذها بالحسبان ونحن بصدد مراجعة مناهجنا ورسم استراتيجياتنا في التدريس؟… مسؤوليتنا لا تكمن في نقل المعارف والتجارب الموجودة والمتوفرة فحسب، بل في توقع ما هو آت والتهيؤ له من خلال رؤى مستقبلية.

تجاوز الحدود اللغوية في التعبير الإبداعي الرقميّ

الأدب والفن على حد سواء يعبران عن المعاني والدلالات تعبيرا مصورا، فيهما تنصهر وتمتزج الأفكار والعواطف لترسم صورا حسية نابضة بالحياة، هي في الحقيقة انعكاس للتجربة الوجدانية للفنان المبدع وانطلاق منها. لقد شهد تاريخنا الإنساني تداخلا وامتزاجا بين العديد من ألوان الفنون، فقيل الرسم شعر صامت، والشِّعر رسم متكلم (بلوتارخ).  في هذا الامتزاج تنشأ أنماط أخرى للتعبير عن رؤى فنية مبتكرة.

يقول حمود أمين العالم:

“إذا كان الأدب والفن يلتقيان على أساس نظري واحد هو أنهما تعبير عن الفكر والوجدان أو عن التجربة الإنسانية تعبيراً مصوراً، وإذا كانا يلتقيان كذلك في الوحدة العضوية لبنائهما الداخلي، وفي أنهما يستمدان الدلالة من الحياة الإنسانية… إذا كانا يلتقيان في هذا كله، فما وجه الخلاف بينهما، أو بتعبير أصح: ما وجه التمايز؟ إن التمايز بين الفنون جميعاً من أدبية وتشكيلية وصوتية وغيرها يتحقق فحسب بالأداة المستخدمة في التعبير والتصوير. فالأدب يستعين بسياق اللغة، والموسيقى بالصوت والزمن، والنحت بالكتلة وهكذا”.‏ ( 5 )

فإذا تقبلنا جدلا أن الأدب والفن خلقا من نطفة الفكر والشعور، وإذا أدركنا إدراكا يقينيا هيمنة الثقافة الرقمية على واقعنا الحضاري، وإذا كانت حوامل الكتابة والقراءة قد اتخذت أبعادا فضائية جديدة وميزة انتشار مغايرة، فحاجتنا إلى ألوان أدبية جديدة وإلى أدوات ملائمة للتعبير الإبداعي هي وليدة هذا الواقع وابنته الشرعية.

يبقى الإبداع قاصرا إذا تجرّد من بُعده الرمزي الإيحائي الذي يكسبه عمقا ويمده بمساحة أوسع للتعبير عن خلجات النفس وأغوار الفكر. في التعبير الإبداعي الرقمي تتحول الألوان والأصوات والحركات والصور ومقاطع الفيديو إلى رموز توحي بها الكلمات. هذا التكاثف بين اللغة من جهة، والعناصر الفنية من جهة أخرى، من شأنه إثراء التجربة الوجدانية لدى الطالب وتمكينه من منجز أدبي جميل ورائع بواسطة وسائط رقمية.

يقول Friedman ( 6) (وهو شاعر، مصور، وموسيقي) صاحب القصيدة الرقمية  Forever Trespass  “اعتداء إلى الأبد”  إنّ القصيدة الرّقمية تأخذ المُشاهدَ إلى منبع الشعر، إلى مكان التفاهم الداخلي، فتثير العقل بطرق مختلفة غير مقتصرة على النص وحده.

فن الصوت والصورة وراء الكلمات المنطوقة يساهم في تحرر الجانب المنطقي للدماغ وتنشيط الجانب العاطفي من خلال المشاهد الانفعالية، وذلك بهدف التفاعل مع التجربة الشعرية بعدة طرق. القصيدة الرقمية تعصف بالأحاسيس والمشاعر وتحدث انبهارا من خلال الأمور الرمزية الإيحائية التي تعكسها الأصوات وحركة الكلمات والصور فيها. عملية المزج المتناغم بين أنماط الإبداع في عمل فنّيّ يجذب المشاهد إلى رحلة يُغَيَّب بها العقل الأيسر فلا منطق ولا حقائق ولا تسمية للأشياء بأسمائها الحقيقية.

و يشير الناقد د. صلاح السروي إلى أن “المستقبل ليس للفن الثابت في الشكل، وإنما في الشكل الأدبي القادر على المشاكسة والمغامرة، والذي يمتلك طواعية الانتقال والاستفادة والتأثير أيضاً في الفنون الأخرى”. علينا زرع رؤية مستقبلية في وعي طلابنا من خلال التربية الثقافية، وحملهم على إدراك “أن الخبرة الاجتماعية في حالة حركة وتطور دائمين بفعل التراكم المعرفي والحضاري، وبالتالي فالشكل هو الآخر دائم الصيرورة.” ( 7 )

كيف يطور التعبير الإبداعي الرقمي من أداءات الطالب؟

1- في مراحل التخطيط والإعداد للمنجز الرقمي يفعّل الطالب عمليات تفكير مختلفة، بدءا من فهم أهداف المشروع وتنظيم المعرفة، وصولا إلى التفكير بمستويات عليا مثل: إعمال الخيال للحصول على صور ذهنية مجردة، إبداع وابتكار أفكار جديدة، التعبير عن الأفكار والمشاعر كلاميا وفنيّا وتقنيا.

2- يوظف استراتيجيات مناسبة لحل مشكلات تواجهه، فيعدل ويغير ويحسن ما يراه مناسبا استجابة للتقييم الذاتي، والتقييم المحرز نحو الانتهاء من منجزه.

3- تعلم ذاتي، حيث يعتمد على خبراته السابقة ومعلوماته المرتبطة بالمهمة الموكلة إليه، وخصوصا تلك المرتبطة بالجانب التقني.

4- تعلم تعاوني، يشارك زملاءه المعلومات والمعرفة، يتلقى ويعطي ملاحظات حول الإنجازات الإبداعيّة.

5- إثارة الدافعية، فالطالب يكون في شوق لمعرفة ما سيحدثه منجزه في نفس المتلقي من انفعالات وإثارة، وهذا الترقب يدخله في عالم من المتعة والشغف والزهو.  

استعمال آمن للشبكة العنكبوتية واستغلال مفيد للوقت.

لا يخفى على أحد التحديات الجمة التي تكمن بين خيوط الشبكة العنكبوتية والوسائط التي توفرها، ولا نبالغ إذا قلنا إنها سيف ذو حدين: منبع الفرص والتطور، ومرتع للمخاطر وإضاعة الوقت إذا ساء التعامل معها.

في حوار مع د. سعيد يقطين قال “إن الشباب والأطفال أسرع استجابة وتفاعلا مع هذه الوسائط الجديدة من آبائهم. وهذا الوضع بقدر ما هو إيجابي لأنه يجعل الأجيال الجديدة مؤهلة أكثر للتعامل مع هذه المنجزات بلا مركبات ولا مخاوف، نجد له آثارا سلبية، لأن هذه الأجيال تتفاعل بصورة عفوية مع هذه الوسائط، وبالأخص الفضاء الشبكي. هذه العفوية تجعلهم لا يتوجهون إلا إلى عوالم خاصة تستجيب لأهوائهم الظرفية الخاصة: إنهم يبحرون في محيطات بلا شطآن، وهم غير مزودين بدفة الإبحار المحكم والموجه عن غايات مرسومة”. ويضيف يقطين في إشارة إلى دور المسؤولين: “هنا يأتي دور المثقفين والكتاب ورجال التربية لوضع معالم وملامح لهذا الفضاء الثقافي الجديد تنظيرا وتطبيقا وتوجيها…( 8 )

اندفاع طلابنا وانغماسهم في العالم الافتراضي وتقنياته نهر متدفق، لا نستطيع إيقاف جريانه، ولكننا بتدبر وحكمة ورؤى جديدة نستطيع حتما التدخل في مسار تدفقه. التعبير الإبداعي الرقمي هو خطوة عملية في هذا الاتجاه.

 


المراجع:

1 زهور كرام، الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية

2 أسوار مباركي، خواطر معلمة في التعبير الإبداعي

3 http://www.arab-ewriters.com/data.php?topicId=17

4 http://www.aslim.ma/pdf/aslim/aslim18022207.pdf

5 http://www.startimes.com/?t=29744188

6 https://mdfriedman.wordpress.com/

7 http://www.startimes.com/f.aspx?t=25186392  

8 http://dahimohamed.unblog.fr/2008/06/17/46/

 

البحث في Google:





عن أسوار مباركي

مدرّسة ومرشدة لغة عربية، حاصلة على ماجستير في تدريس اللغات تخصص لغة عربية. متخصصة في الاستشارة الإداريّة من خلال تحليل مشاكل ووضع خطط لتحسين التنظيميّة القائمة.

6 تعليقات

  1. ربيع ربيع

    درا دررت ودا ذررت، مبارك قفزك على شاهق الاسوار أستاذة مباركي أسوار بالتوفيق.

  2. مقال جدير بالقراءة والتأمل لما بين ضلوعه من عمق الفكر وصحة افتراضه وعملية تطبيق غحواه فهنيئا لكاتبته وطوبى لقارئه النشط.
    عافاك الله ايتها الكاتبة

  3. فايزة عبد السلام

    موضوع غاية فى الأهمية. جهد مشكور أختى العزيزة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *