صورة الطفل العربي في البرامج والكتب المدرسية: تونس مثالا

يفيد لفظ المدرسة في التّعريف الحديث تلك المؤسسة الاجتماعية التي توكل إليها مهمّة التّربية الحسيّة والفكريّة و الأخلاقيّة للأطفال والمراهقين في شكل وفيّ أو مطابق للمشروع المجتمعيّ الذي تمّ التواضع عليه. ويحدّد خطاب الغايات التّربويّة، باعتباره خطابا سياسيّا بامتياز، الصّورة المرام تحقيقها أو استقدامها في ملامح خرّيج المدرسة عند نهاية تمدرسه. و هي من هذا المنظور صورة منشودة ترسمها اختيارات تربويّة كبرى تستند بدورها إلى فلسفة تجلّي تصوّرا للإنسان في بعديه المحلّي والكونيّ.
فما هي أبرز مكوّنات صورة خرّيج المدرسة التّونسيّة؟ وهل تصنع البرامج والكتب المدرسية صورة للطفل التونسي بناء على هويّة مخصوصة، أم وفق ثقافة كونيّة هي مطمح قد يكون بعيد المنال؟
هذا ما سنحاول تلمّس إجابة عنه من خلال قسمين في هذه المداخلة، يتناول أوّلهما بلورة المنشود عبر قراءة تلخيصيّة في صورة الطفل التّونسيّ المروم تحقيقها كما يحدّد ملامحها المكوّن التّشريعيّ للمنظومة التّربويّة المتمثّلة في الدستور والقانون التّوجيهيّ للتربية والتّعليم المدرسيّ وكذا البرامج الرّسميّة، ويتناول ثانيهما قراءة نقديّة في المكوّن التّربويّ ممثّلا في الكتب والأجهزة البيداغوجيّة وكذا الممارسات التّعليميّة التي يُـزمَع من خلالها تحقيق صورة مرتادي المدرسة.

1- صورة الطفل في المكوّن التشريعي للمنظومة التربوية

أ- من خلال الدستور الجديد للجمهورية التونسية

يُجسّد دستور الجمهوريّة التونسيّة 27 المختوم في يناير/كانون الثاني 2014 والذي تمّ التّوصّل إلى صياغته النّهائيّة عبر مسار طويل وشاقّ، توافقا حول الملامح المنشودة لخرّيج المدرسة التونسيّة. كما تجلّت في الفصل 39 الذي كان محلّ تجاذب بين القوى المحافظة وقوى الانفتاح إذ ينصّ على ما يلي:

” … تعمل (الدولة) على تأصيل الناشئة في هويّتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطني وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها والانفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات الإنسانية ونشر ثقافة حقوق الإنسان.”

ب- من خلال القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي

رغم أن القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 يوليوز/تموز 2002 والمتعلّق بالتربية والتعليم المدرسيّ سابق في تاريخ صدوره للدّستور الجديد إلا أنّه لا يزال ساري المفعول ومعمول به ومحتكم إليه في كلّ الممارسات التربويّة الرّاهنة، وقد سبّقنا في عرضنا إيراد الدستور عليه احتراما لتراتبيّة القوانين. ولا يسعنا في هذا الصّدد إلا التنويه بأنّ دوائر الانتماء التي يحدّد القانون التّوجيهيّ ضرورة تنشئة الطّفل عليها أجلى وأكثر تفصيلا و هي تعكس إلى حدّ بعيد، كما نعتقد، موقع تونس الحضاريّ والجغرافيّ:
الوطن؛ بلاد المغرب؛ العالم العربيّ؛ العالم الإسلاميّ؛ إفريقيا؛ البحر الأبيض المتوسّط؛ الحضارة الإنسانيّة.
وعلى صعيد القيم يوجّه القانون التوجيهي الفاعلين التربويّين إلى ضرورة تشكيل صورة الطفل التّونسيّ وفق القيم التّالية:

  • العلم والعمل والتضامن والتسامح والاعتدال.
  • قيم الحداثة المستلهمة من المثل الإنسانية العليا والمبادئ الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

وتلك هي الصّورة المنشودة كما وردت في الفصل 3 من القانون التّوجيهيّ وفيه نقرأ:

” تهدف التربية إلى تنشئة التلاميذ على الوفاء لتونس والولاء لها وعلى حب الوطـن والاعتزاز به وترسيخ الوعي بالهويّـــة الوطنية فيهـــم وتنمية الشعور لديهم بالانتماء الحضاري في أبعاده الوطنية والمغاربية والعربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية ويتدعم عندهم التفتح على الحضــارة الإنسانية.
كما تهدف إلى غرس ما أجمع عليه التونسيون من قيم تنعقد على تثمين العلم والعمل والتضامن والتسامح والاعتدال وهي الضامنة لإرساء مجتمع متجذر في مقومات شخصيته الحضارية متفتح على الحداثة يستلهم المثل الإنسانية العليا والمبادئ الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.”

ج- من خلال البرامج الرّسميّة لسنة 2004

تقرّ البرامج الرّسميّة بأنّ:

” القانون الّتوجيهي للّتربية والّتعليم المدرسيّ يمثل المرجع الأساسي لتحديد ملامح المتخرّج من كلّ مرحلة من مراحل الّتعليم. فمن مزايا هذا القانون وخصائصه المميّزة مباشرته لمسألة الغايات التربويّة المنشودة ومقاصد التعليم من زواياها المختلفة بنظرة شاملة متكاملة. فقد اعتنى بالأسس والمبادئ التي
تقوم عليها وبتجلياتها في ما تنهض به المدرسة من وظائف وبالمحتويات التعليميّة الكفيلة ببلوغها والكفايات التي يتعيّن اكتسابها لتكتمل صورة المتخرّج وتتحقق جميع أبعادها. وهكذا فإنّ الملامح المرتقبة في نهاية كلّ مرحلة تعليميّة تشكل العمود الفقري للقانون التوجيهي وخيطه الناظم و تكاد تُستجلى من كلّ فصوله التي جاءت مترتبة بعضها عن بعض. ويُقصد بملامح المتخرّج مجموعة مندمجة من الكفايات المنتظر تمّلكها من قبل المتعّلم في نهاية مرحلة تعليميّة معيّنة والتي في ضوئها تصاغ البرامج التعليميّة، وهي تعبير عن انتظارات المجتمع وحاجيات مختلف حرفاء المدرسة بالّنظر إلى مقتضيات مواجهة تحدّيات المستقبل.” (وزارة التربية، البرامج الرّسميّة، لسنة 2004، ص 10 )

كما تفصّل صورة الطفل- التلميذ من حيث أبعاد الشّخصيّة المنشود تنميتها عبر البرامج التّعليميّة إلى أربعة أبعاد ترتبط كلّ منها بجملة من التّجليات السلوكيّة نوردها في الجدول التّالي:

tab1(وزارة التربية، البرامج الرّسميّة، لسنة 2004، ص ص 11، 12 ، 13 )

وبذلك تكتمل ملامح الصورة “المثالية” المنشودة للطفل التونسي كما أرادتها التشريعات التربوية التي كنّا بصدد تقديمها عبر عرض تلخيصي للمكون التشريعي من المنظومة التربويّة. ولم يبق إلا أن تترجم هذه التطلعات والآمال والمطامح إلى مواد ومناشط وإجراءات بيداغوجية عملية ينحت عبرها المنشود لاستقدام تلك الصّورة وتحقيق المراد.
فإلى أيّ مدى كان التّوفيق حليف المراهنين من أصحاب القرار والميدانيين في تحقيق هذه الصّورة؟ هذا ما سنعمل على استجلائه من قراءتنا النّقديّة للمكوّن البيداغوجيّ للمنظومة التربوية التونسية.

2- صورة الطفل ومدى تحقيقها عبر المكوّن البيداغوجي للمنظومة التربوية

ينبهنا D’hainaut1 إلى أنّ النظام التربوي لا يطابق أبدا الصّورة التي وضعها له مصمّموه، إذ
يوجد في الحقيقة نظامان، أحدهما واقعيّ والآخر نظريّ أو مثاليّ ويفترض أن يحدّد الأوّل الثّاني غير أنّ الأحداث المفاجئة تحول دون ذلك.
وفي هذه الصّدد يؤكّد (Morgan و 1974 Katz ) وقد أوردهما D’hainaut في نفس المرجع إلى وجوب تمييز المرغوب عن الملحوظ فعلا لوجود فرق دائم بين الحاصل والمأمول. ومن ثمّ تتأتّى ضرورة التّعديل عندما يفرض الواقع مراجعة التّصوّرات.
ويخلصان إلى أنّ للنّظام التربويّ ثلاثة صور في واقع الأمر تختلف المسافات بينها ويكون تطابقها أمرا بعيد المنال هي:

  • الصورة المثاليّة للنّظام: كما ورد في خطاب الغايات والتشريعات والبرامج.
  • الصورة النفس-اجتماعيّة للنظام: وهي صورته كما تمثّلها المشتغلون فيه.
  • صورة النظام واقعا: كما هو موجود فعلا.

وجميع هذه الصّور متفاعلة متبادلة التأثير كما في الخطاطة التالية:

tab2

وكنا قد عرضنا في القسم الأول من مقالنا صورة المنظومة التربويّة التونسية المثالية والتطلعات التي ترنو إلى تحقيقها عبر صورة الطفل التونسيّ حين تخرّجه من المدرسة.
وسنقف من خلال الصّورتين الباقيتين للمنظومة على مدى المسافة بين المنشود والموجود.

أ- الصورة النفس اجتماعية للمنظومة التربوية التونسية

هذه الصّورة هي نتاج تفاعل القيم المضمّنة في المشروع المجتمعيّ الذي تبشّر به المنظومة التربويّة مع التمثّلات الشخصيّة الخاصّة للأفراد المشتغلين في المنظومة (الموارد البشريّة) فتكون الحصيلة هي: المنظومة كما تمّ تمثّلها Le système tel qu’il est perçu.
وترتهن المسافة الفاصلة بين الصّورة المثاليّة للمنظومة والصّورة النّفس اجتماعيّة بمدى مهنية الموارد البشريّة المشتغلة في المنظومة التي تحقّقها برامج التّكوين. وغنيّ عن القول هاهنا أنّه متى كانت نوعيّة الموارد البشريّة جيّدة من حيث تكوينها، فإنّها لا تبتعد في تمثّلها للمنظومة كثيرا عن انتظارات وغايات الفعل التربويّ كما سطّرتها المنظومة المثاليّة، وبالتّالي تكون مؤهّلة لتحقيق صورة الطفل التونسيّ في ملامحه المنشودة. والواقع أنّ سنوات طويلة من الارتجال في عمليّة انتداب المدرّسين نجمت عن إغلاق دور ترشيح المعلّمين أو المعاهد العليا لتكوينهم منذ ما يزيد عن عقد ونصف إلى اليوم لا تجعلنا نطمئنّ في هذا الصّدد. ورغم غياب إحصاءات رسميّة متاحة فإنّنا نقدّر أنّ الضّرر كان جسيما وأنّ عشرات الآلاف من مدرّسي الابتدائيّ والإعداديّ والثانويّ ضخّوا في المنظومة التّربويّة التّونسيّة ضخّا وألقي بهم إلقاء في مغامرة التّدريس دون أدنى تكوين!
وإلى ذلك يمكننا إضافة العوامل التّالية:

  • ضعف منظومة التّكوين المستمرّ.
  • كثرة الغيابات.
  • وجود عدد كبير من المعلّمين والأساتذة النّوّاب الذين يعملون بعقود وفترات محدودة.

وهو ما سينعكس سلبا على مخرجات المنظومة التربويّة وصورة خرّيج المدرسة كما سنرى لاحقا.

ب- صورة الطفل في النظام التربوي الواقعي

النّظام الواقعي هو ما يحدث فعلا في الواقع من ممارسات يأتيها كلّ الفاعلين فيه عبر ما تمثّلوه من صورته المثاليّة. ويكون أداء هؤلاء الفاعلين محصّلة لائتلاف عناصر المدخلات الميسّرة للإنجاز. وتشمل هذه المدخلات في ما تشمل الخصائص المهنيّة للمعلّم والموارد التّعليميّة كالبرامج والكتب المدرسيّة والوسائل والتّجهيزات والبنية الأساسيّة للمدارس التي تستثمر في سيرورة الإنجاز تحقيقا لمخرج يفترض ألا يكون بعيدا عمّا سطّر لملامحه من غايات وأهداف.(انظر الخطاطة الموالية)

خطاطة1
ويجدر بنا في هذا الصّدد، وإن بعجالة، استقراء صورة الطفل من خلال الكتب المدرسيّة بالمرحلة الابتدائيّة باعتبارها ترجمة من درجة ثانية لما يرام تحقيقه من أبعاد في شخصيّة الطفل التّونسيّ، وهي أبعاد تتراوح بين الخصوصيّ والكونيّ بما يعنيانه من تجذّر في الهويّة الوطنيّة التّونسيّة وانفتاح على الثّقافة العالميّة. وتتوزّع هذه الكتب على موادّ تعليميّة صنّفت في مجالات كما يلي:

جدول 1
وصورة الطفل التي يراد تحقيقها من خلال سيرورة الإنجازهي من باب التّذكير، الفضائل الحسنى التّالية:

tab3

ولئن عدّت الكتب المدرسية موردا من جملة الموارد البيداغوجيّة الموضوعة على ذمّة المعلّمين قصد توظيفها في المناشط المحقّقة لصورة الطفل، فإنّنا نعدّها من حيث الأهميّة على رأس تلك الموارد وذلك للأسباب التّالية:

  • ضعف الموارد البديلة ممثّلة خاصّة في الوسائط التكنولوجيّة الحديثة لتواضع البنية الرّقمية الأساسيّة ونقص التّجهيزات. ( شبكة الإنترنت والآلات الطابعة والنّاسخة…)
  • حظر وزارة الإشراف للكتب الموازية.
  • اعتماد صيغة الكتاب الموحّد لكلّ أنحاء الجمهوريّة.
  • عدم تجانس الكفايات المهنيّة للمدرّسين بما يضمن بدائل بيداغوجيّة ناجعة.
  • كثرة الموادّ التّعليميّة بالمرحلة الابتدائيّة للمعلّم الواحد ( من10 إلى 13 مادّة).

ومن ثمّ تأتي أهميّة الكتب المدرسيّة التي لا غنى عنها في كلّ الممارسات البيداغوجيّة باعتبارها المورد الأساسيّ في هذا المجال.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الكتب التي تصدر عن المركز الوطني البيداغوجي تحت إشراف إدارتين مركزيّتين هما الإدارة العامّة للبرامج والتّكوين المستمر و إدارة بيداغوجيا ومواصفات المرحلة الابتدائية، تعدّ ترجمة أمينة للقانون التوجيهي للتربية والتّعليم المدرسي والبرامج الرسمية. وهي بذلك تنسجم انسجاما عاليا مع القيم والمبادئ التّنشيئيّة للمنظومة التّربويّة التّونسية.

وفي ما يلي جرد لهذه الكتب كما وردت في آخر منشور وزاري في الغرض:

tab

هذا إلى جانب عدد من الأدلّة المرجعيّة والمنهجيّة التي تساعد المدرّس ليؤمّن بها وساطة بيداغوجيّة ناجعة ومحقّقة على الأقلّ للحدّ الأدنى المطلوب ويبلغ عددها 60 مرجعا بين كتب وأقراص مضغوطة وأشرطة مصوّرة.
والحقيقة أنّه ليس بوسعنا في هذه المداخلة توخّي منهجيّة تحليل المحتويات لنتوسّل عبرها الوقوف على مضامين كلّ الكتب والتدقيق في انسجامها مع صورة الطفل المنشودة للاعتبارت التالية:

  • الكمّ المعتبر لعدد الكتب بالمرحلة الابتدائيّة. ( 39 كتابا)
  • تعدّد الاختصاصات والموادّ مع ما يستلزمه التّدقيق من إحاطة بالقضايا الابستيمولوجيّة والديداكتيكيّة لكلّ مادّة في علاقتها بالخصائص النشوئية للطفل والمقاربات البيداغوجية المؤمنة للوساطة التعليمية. وهي مهمّة تنهض بها لجان المراجعة والتّعديل والتأليف التي تشكلها وزارة التربية.

ومع ذلك فبالإمكان اعتمادا على ما يسمّى اصطلاحا بجداول التّخصيص Tableaux de spécification تعرّف المواد والكتب التي تشكّل أبعاد صورة الطفل. وتعرّف المعاجم المختصّة في علوم التّربية جدول التّخصيص بأنّه ” أداة من أدوات تخصيص الأهداف وتحديد المفاهيم المراد إكسابها للمتعلّم ونسبة أهمّيتها….ويتكوّن هذا الجدول من مدخلين، يكون أولهما أفقيا، يهتم بالأهداف العامة أو المقولات المعرفية والسيكو-حركية والوجدانية، أمّا ثانيهما فيكون عموديا ويهتم بمضمون المادة.” (معجم علوم التربية، مصطلحات البيداغوجيا و الديداكتيك، الفاربي وجماعة، دار الخطابي للنشر الجديدة، المغرب 1994)

tab5

ولا بدّ لنا في هذا المقام من التّنويه بأنّ صورة الطفل تتشكل عبر التنشئة الاجتماعية التي لا تتوقف على الأنشطة والكتب المدرسيّة فحسب، بل عن طريق التفاعل الاجتماعي مع الأنداد والمعلّم الموكل إليه مؤسّسيا تمرير القيم والمعايير التي تواضع عليها جيل الكهول إلى جيل الأطفال كما يقول دوركهايم.
ويتمّ مشروع تشكيل صورة الطفل بتضافر عوامل جهات أربعة هي العائلة والمدرسة وزمرة الأنداد ووسائل الإعلام. وغنيّ عن القول أنّه كلّما تناقضت هذه العوامل اضطربت شخصية الطفل وعراها ما يطلق عليه المختصّون في علم النفس الاجتماعي التربوي( Festinger خاصّة) النشاز المعرفي، وهو حالة التّوتّر والحيرة التي تصيب الطفل نتيجة ضربين من التّناقض أوّلهما خارجي يطرأ بين المدرسة وهيئات التّنشئة الثلاث الأخرى (العائلة وزمرة الأنداد ووسائل الإعلام) وثانيهما داخليّ يحدث بين رسائل المدرّس و سلوكاته وهذه أمثلة استقيناها من المعاينات الميدانيّة:

tab6

ومهما تكن نسب تواتر السّلوكات التربوية المؤدية إلى النّشاز المعرفي، فإنّ نكرانها بالجملة لا يساعد على تخفيض انعكاساتها السّلبية على تشكيل صورة الطفل، بل الوعي بخطورتها وممارسة اليقظة في الأفعال والمواقف التربويّة هما الكفيلان بضمان التأثير الإيجابي. وقد علّمنا فرويد أنّ أخطر ما يصدر عن سلوكاتنا هو ذاك الذي ينبجس من اللاوعي باعتباره يفلت من المراقبة.

فالتّربية، من هذا المنظور، ليست عملا قصديّا إراديّا فحسب، بل هي أيضا عمل غير إرادي. يقول Philip H. Phenix في هذا الصّدد :

” إنّ كثيرا من أعظم الدّروس أهميّة نتعلّمها من أولئك الذين ليس لهم نيّة تعليمنا إيّاها.” ( فيليب فينكس: فلسفة التّربية، ترجمة محمّد لبيب النجيمي، دارالنّهضة، القاهرة، 1965، ص38)

وتتوطد أهميّة هذا الطرح إذا علمنا أنّ من آليات غرس القيم أو استدماجها لدى الطفل آلية التشبه أو التقليد وأنّ موضوع التّشبه في المدرسة هو “سيّدي” أو “سيّدتي”. فهل يعي المربّي غير المهني أنه موضوع هذا التّشبه؟

وخلاصة القول، فإنّ صورة الطفل التّونسيّ المرام تحقيقها تنبني عناصرها على مقولتي التّجذّر في المحلّي والانفتاح على الكوني، وهما مقولتان اشتقّت منهما القوانين والغايات والأهداف والبرامج التربويّة والكتب المدرسيّة في إطار ما أسميناه المنظومة التّربويّة المثاليّة غير أنّ المنظومة الواقعيّة تفصلها مسافة معبّرة عن حجم ضغوطات الواقع المتحكّم في الإمكانات الماديّة والبشريّة العائدة بدورها إلى القرارات العليا الرّاسمة للأولويّات الوطنيّة. (ميزانيّة وزارة التربية تمثّل 5,14 % من ميزانيّة الدّولة سنة 2015) من ناحية، وانعكاسات هذا الواقع على مستوى المنظومة الفرعيّة للتّكوين، وانتداب الموارد البشريّة من ناحية أخرى. وصورة الطفل يشكّلها المعلّم بصفة حاسمة أكثر ممّا تشكّله البرامج والكتب التي تظلّ حبيسة الحبر ولا تخرج إلى واقع الأمر إلا متى كان هذا المعلّم مهنيّا وذا كفايات عالية فيقي بفضلها الاحتراف كلّ المنظومة من منزلقات الانحراف.

 


المراجع:

– دستور الجمهوريّة التوّنسيّة 14 جانفي/يناير 2014
– القانون التّوجيهي عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 جويلية/يوليوز 2002
– وزارة التربية، البرامج الرّسميّة لسنة 2004
– D’hainaut(L) Analyse et régulation des systèmes éducatifs,Ed Labor,20001
– وزارة التربية، دليل التنظيمات البيداغوجية بالمدارس الابتدائية
– وزارة التربية، المنشور عدد43 – 10 – 2015 المتعلّق بقائمة الكتب المدرسيّة والأدلّة المرجعيّة للمدرّسين للسنة الدراسيّة 2015 – 2016
– معجم علوم التّربية، مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك، الفاربي وجماعة، دار الخطابي للنشر الجديدة، المغرب 1994
– فيليب فينكس: فلسفة التّربية، ترجمة محمّد لبيب النجيمي، دارالنّهضة، القاهرة، 1965، ص38

البحث في Google:





عن شفيق الجندوبي

أستاذ علوم التّربية و متفقّد أوّل للمدارس الابتدائية بأريانة الجمهوريّة التّونسيّة

تعليق واحد

  1. هذا التحليل الدقيق لا يتعرض لضعف الكثير من محتويات الكتب المدرسية و هو الأمر الذي يجب درسه و الوقوف مليا عنده..فلا بأس من وقفة تأملية لتقييم مصالح وزارة الإشراف..
    مع تثميني لهذا البحث المتكامل، منهجا و تنظيرا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *