هل تستطيع التكنولوجيا تعويض المدرس المتميز؟

التكنولوجيا، ذلك المكون الذي غير حياة الناس على سطح الأرض و أعاد تعريف كل جزئية من مناحي وجودهم، التكنولوجيا كلمة بسيطة في معناها لكن لا تكاد تمر ساعة بل لحظة دون أن نستفيد من مزاياها، كلمة قربت كل بعيد و سهلت كل صعب شديد، بل و حلت محل الإنسان -أو قلصت وجوده في أحسن الأحوال- في الكثير من الميادين التي ما كان أحد منا يتصور أن تستغني عنا نحن البشر، ليحل محلنا برامج معلوماتية و ربوتات و عناكب الويب التي تقوم بما لا يطيقه البشر..

نعم فعلتها التكنولوجيا في الصناعة و الاتصالات و الفلاحة و ميادين كثيرة لا يسعنا المجال لذكرها، فهل تفعلها في ميدان التعليم و تحل محل المدرس؟ ذلكم سؤال يجد مشروعيته في الثورة التكنولوجية التي أصبح يعرفها هذا المجال الاستراتيجي، و يكفي في هذا الإطار التذكير بما ورد في التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، و الذي تم وضعه بالتعاون مع مجموعة بوسطن كونسلتينج جروب، و خلاصته أن الاستثمار الخاص في تكنولوجيا التعليم يشهد توسعا ملحوظا على المستوى العالمي، حيث ارتفع منذ العام 2011 بمعدل وسطي سنوي يبلغ 32 % لينتقل بذلك من 1,5 مليار دولار أمريكي خلال نفس السنة إلى 4,5 مليار دولار سنة 2015، مما يفيد بما لا يدع مجالا للشك بوجود اتجاه عالمي لمكننة التعليم و إعادة النظر في التجربة التعليمية التعلمية برمتها.

في محاولتنا للإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نعرج أولا على إيجابيات إدماج التكنولوجيا في التعليم، و التي جعلت بلدا كالولايات المتحدة الأمريكية تستأثر لوحدها بنسبة 77 % من إجمالي الاستثمارات في مجال تكنولوجيا التعليم منذ العام 2011.

 1- مزايا إدماج التكنولوجيا في التعليم

لا يكاد يخفى على أحد دور التكنولوجيا في الرفع من جودة التعليم و تكييفه مع الحاجيات الفردية لكل طالب، كما أن اعتماد الحلول الرقمية يسر على العاملين في حقل التربية تطبيق العديد من النظريات التربوية الحديثة التي تؤمن بمركزية المتعلم في العملية التعليمية التعلمية و دوره الحاسم في اكتساب المعرفة  و التفاعل معها، و قد سبق لنا الحديث عن هذا الأمر بالتفصيل في مقال: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تدعم البيداغوجيا الفارقية ؟ حيث عرضنا لدور تكنولوجيا الإعلام و الاتصال في إعادة تعريف السياق التربوي و ترقية العلاقة التربوية الثنائية الأقطاب إلى سيرورة تفاعلية متعددة الأطراف.

و عموما يمكن تلخيص أهمية إدماج التكنولوجيا في الممارسة التعليمية و التعلمية اليومية في النقط التالية:

  • إدماج التكنولوجيا في الفصول الدراسية يؤدي إلى تحفيز الطلاب و ردم الهوة التكنولوجية بين نمط حياتهم داخل المدرسة و خارجها.
  • يُمَكِّنُ اعتماد الحلول الرقمية من الحفاظ على الموارد الطبيعية و ترشيد استهلاك الطاقة و من تم تحقيق التنمية المستدامة في إطار ما يعرفبالتعليم الأخضر.
  • الحلول التكنولوجية تنمي الإبداع و تشجع التفكير النقدي لدى الطلاب.
  • تزخر التكنولوجيا بإمكانات هائلة تتحول معها الفصول الدراسية التقليدية إلى فصول إفتراضية تحاكي الواقع بل و تتجاوز إمكاناته في الكثير من الأحيان، و يكفي في هذا الصدد التذكير بالإمكانات الواعدة لتكنولوجيا الواقع المعزز و التي ما فتئت تتطور يوما بعد يوم.
  • تتميزالحلول الرقمية بالكثير من المرونة في الوضع و التعديل و التكييف عكس المقررات الورقية التي يتطلب تعديلها و تحيينها إمكانات هائلة و حيزا زمنيا مهما.
  • تتجاوز التكنولوجيا حدود الزمان و المكان مما يتيح إمكانات تواصلية غير محدودة، يعاد معها بناء مفهوم الزمن المدرسي.

إن ما سبق ذكره لا يمثل إلا نزرا يسيرا من إيجابيات التحول نحو المدرسة الرقمية، خصوصا إذا استحضرنا الوثيرة التي تتطور بها التكنولوجيا و آفاقها الواعدة، و هي الآفاق نفسها التي تثير مخاوف البعض من أن تحل التكنولوجيا محل المدرس كما حلت من قبل محل العامل و شرطي المرور و المزارع و هلما جرا.. فهل تفعلها التكنولوجيا كدأبها ؟

2- هل تستطيع التكنولوجيا تعويض المدرس المتميز؟

bill-gates-tech-quote

إن الحديث عن حلول التكنولوجيا محل المدرس فيه الكثير من المبالغة في نظرنا، و لا يكون هذا حديثَه من خبر التعليم و سبر أغواره. فمهما بلغت التكنولوجيا من مستويات التطور و الذكاء فلن تستطيع أبدا تعويض المدرس الكفء بإنسانيته و مشاعره و حدسه التربوي و قدرته على فهم طلابه و التفاعل معهم. فالمدرس الناجح ينتقل من مستوى نقل المعارف و المهارات – الذي يتساوى فيه كل من الإنسان و الذكاء الاصطناعي، بل و يتفوق فيه هذا الأخير- إلى مستوى الإلهام، ذلك الشيء الروحي الخفي الذي تعجز التكنولوجيا عن محاكاته، و لعل في تجاربنا الشخصية خير دليل على ذلك، فالكثير منا مازالوا يتذكرون مدرسين – و إن كانوا قلة – تأثروا بهم بشكل كبير و غيروا حياتهم إلى الأفضل بفضل قدرتهم على خلق السحر في نفوس طلابهم.

الإلهام إذن هو ما يميز المدرس في مواجهة التكنولوجيا، لكنه ليس العامل الوحيد، فاعتماد الحلول الرقمية لا يؤدي إلى تعطيل دور المدرس، بل إن دوره يزداد أهمية في بيئة تعج بالتكنولوجيا التي تحتاج إلى مدرس كفء يعرف متى و كيف و لصالح من سيوظفها، مدرس يلعب دور المايستروالذي في غيابه تعجز أفضل الآلات الموسيقية و أغلاها عن عزف لحن متناسق، بل و تتحول معزوفاتها إلى نشاز يُؤدِي الأذن أكثر مما يطربها، و يحضرني في هذا الإطار قول كاتلين دونيللي Katelyn Donnelly المحررة المساعدة لتقرير “بيرسون” حين صرحت أن للتكنولوجيا أثرا كبيرا في تقوية و تعميق الأشياء التي نتعلمها، موضحة أن سبل التعليم الرقمي الموجودة في السوق تجعل من الصعب إدراك أيها أكثر فائدة للمدارس و الطلاب، ما يدعم و يؤكد الدور المركزي للمدرس في هذا المجال.

إن الجيل الذي ندرسه في مدارسنا اليوم، قد نشأ و تربى في بيئة تكنولوجية بامتياز، بيئة مليئة بالوسائط المتعددة، و تكاد تسيطر فيها وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الإنسانية. بيئة تجعل الطفل يعيش في الواقع الافتراضي أكثر مما يعيش في العالم الحقيقي.. و دور المدرس المتميز في واقع هذا حاله، دور مركزي و هام أكثر من أي وقت مضى، فالمدرس الخبير ببيئة عيش طلابه و المتمكن من التكنولوجيا التي باتت تُسير أدق تفاصيل حيواتهم، هو فقط من يستطيع رسم حدود في المكان المناسب بين العالم الافتراضي و الآلي الذي ما فتئت تجرنا إليه التكنولوجيا و يأبى إلا أن يجردنا من إنسانيتنا، و بين العالم الواقعي بعلاقاته الاجتماعية و دفئه الأسري، و بمشاعره و أحاسيسه التي لا يمكن محاكاتها في العالم الإفتراضي. فالإنسان في آخر المطاف اجتماعي بطبعه و لا يمكن أن يكون غير ذلك، و لعل هذا الأمر ما جعل السيدة ليلى حطيط الشريكة و المديرة الإدارية في مجموعة بوسطن كونسلتينج جروب في الشرق الأوسط تقول في تصريح لها:

« يمكن أن تمثل التكنولوجيا أداة في أيدي الآباء و المدرسين و المربين قابلة للتسخير في استكمال و توسيع تجربة تعلم الأطفال برمتها، و لا سيما في ضوء توفر مجموعة واسعة من التكنولوجيات الناشئة التي تتجاوز الشاشات التقليدية، و هذه الابتكارات قادرة على مزج العالمين الواقعي و الافتراضي معا و توفير أشكال و أنماط من التفاعل البشري كانت مستحيلة قبل عقد من الزمن. »

و نحن إذ أكدنا على هذا الأمر و مازلنا نؤكد عليه في موقع تعليم جديد، فإننا مع ذلك نؤمن بمحورية دور المدرس في اختيار التكنولوجيا المناسبة و تخصيصها حسب الحاجيات الفردية لطلابه، كما نؤمن بدوره كقدوة و مصدر إلهام لطلابه، الأمر الذي لا تستطيع التكنولوجيا أن تفعله مهما بلغ تطورها، غير أن أهمية المدرس المتميز يتمثل أساسا – في نظرنا – في الحفاظ على إنسانية الإنسان و خلق التوازن بين الواقع الافتراضي و العالم الحقيقي بكل مكوناته العاطفية و الاجتماعية. و لعلنا و في ضوء ما سبق ذكره نجد أنفسنا مضطرين لإعادة صياغة الإشكالية موضوع هذا المقال على شكل سؤال جديد: هل سيعوض المدرس المتميز و المتمكن من التكنولوجيا و القادر على توظيفها بشكل صحيح المدرس التقليدي؟

 

 


المراجع:

-أنيس ديوب،  صناعة التعليم: مصيدة «البزنس»، موقع arabianbusiness،  ـ 12 مايو 2016

– تقرير دولي: الإنفاق على تكنولوجيا التعليم في الإمارات ضمن الأعلى عالمياً، موقع emaratalyoum.com، ـ 15 أغسطس 2013

البحث في Google:





عن د. الحسين اوباري

مستشار في التوجيه التربوي، دكتوراه الدولة في القانون العام وعلم السياسة، مدون و مهتم بالعلوم القانونية وعلم السياسة وبالتقنيات الحديثة في التوجيه والاستشارة والتعليم، عضو الجمعية المغربية لأطر التوجيه والتخطيط التربوي (AMCOPE)، عضو الجمعية الأمريكية للاستشارة (ACA)، عضو مؤسس و محرر بموقع "تعليم جديد"، أستاذ معتمد من مايكروسوفت (MCE) و حاصل على شهادة متخصص مايكروسوفت أوفيس (MOS)، و عدة شهادات في تكنولوجيا الإعلام والاتصال.

8 تعليقات

  1. ايمان ياسين الرواشده

    افكار ملهمه وآراء سديده….يعطيك العافيه

  2. ابتسامم

    مساىل مميزة وطرح منهجي

  3. عبد الحفيظ بن الشيخ...استاذ ومدير مؤسسةتعليمية

    مقال اكثر من رائع ومع ذالك لا يمكن ان تعوض التكنولوجيا المدرس مهما بلغت من تطور لاسباب متعددة واهمها الجانب الواجدني وما له من تاثير في كافة عناصر العملية التعليمية

  4. د . اخلاص محمد

    طرحت سؤالا مهما
    واصبت فى التحليل فلا تعويض لانسانية المعلم

  5. د. محمود أبو فنه

    أتّفق مع الكاتب الحسين أوباري في خلاصة مقالته الهامّة:
    لا يمكن الاستغناء عن المعلّم الإنسان الملهم، وفي الوقت نفسه
    لن تكون العمليّة التعليميّة التعلّميّة ناجحة وناجعة بدون
    توظيف التكنولوجيّا ومستجدّاتها في هذه العمليّة!

  6. عيسى علي

    نحن متفقون على انه لا يمكن الاستغناء عن المدرس المتميز في العملية التعليمية والله يعطيك العافية يا استاذ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *