الضبط والتشكيل

الضبط والتشكيل في مناهج العربية للناطقين بغيرها

تعاني العربية للناطقين بها وبغيرها من فوضى لغوية في طريقة التعامل مع ضبط النصوص وقراءتها في ضوء غياب نظريات تدريس مناسبة للنظام الصرفي العربي، وعلى الرغم من تدريس النظام الصرفي في المرحلة الابتدائية مروراً بالثانوية وانتهاء ببعض النصوص الجامعيّة.

وهي مشكلة قديمة حديثة، قديمة قدم العربية نفسها، ويعلم جل المضطلعين على العربية والمهتمين فيها قصة وضع الحركات وضبط القرآن الكريم حفاظاً عليه من اللحن والخطأ، حادثة زياد بن أبيه وأبي الأسود حيث يروى أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد بن أبيه عندما كان واليًا على البصرة أن يرسل إليه ابنه عبيد الله، فلما وصل عبيد الله عند معاوية وجد بأن معاوية يلحن في الكلام، فكتب معاوية إلى زياد لائماً له على وقوع ابنه في اللحن. فكلف زياد والي البصرة في عهد معاوية بن أبي سفيان أبا الأسود الدؤلي أن يضع طريقة لإصلاح القراءة ودار بين زياد وأبي الأسود حديث خشي فيه أبو الأسود أن يزيد على القرآن ما ليس فيه فحاججه زياد بأن عثمان قد كتب المصاحف قبل أن لم تكن مكتوبة. ومع ذلك فقد غلب الخوف على أبي الأسود فرفض طلب زياد وسأله أن يولي بذلك غيره. فأراد زياد أن يحفز أبا الأسود فوضع له في طريقه من يرفع صوته بالقرآن ويلحن فيه فقرأ رجل زياد (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بكسر لام رسوله. فحزن لذلك أبو الأسود وقال: “عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله” وعاد فوراً إلى زياد موافقاً. واختار كاتباً، ووضع الحركات.

وكانت حركات أبي الأسود مختلفة عما نعهده الآن، فقد كانت حركات أبي الأسود تختلف في رسمها عن الحركات اليوم فقد رسمها بحبر أحمر، وكانت على هيئة نقاط. وقد وصلنا ما أخبر أبو الأسود كاتبه أن يفعل إذ قال له: “خذ صبغاً أحمر فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه وإذا كسرت فانقط واحدة أسفله وإذا ضممت فاجعل النقط بين يدي الحرف (أي أمامه) فإذا اتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين” وأخذ يملي القرآن بتأنٍ والكاتب يكتب حتى وصل إلى آخر المصحف. وكان أبو الأسود يدقق في كل صحيفة حال انتهاء الكاتب منها. و لم يضع أبو الأسود علامة للسكون إذ رأى أن إهمال الحركة يغني عن علامة السكون. وانتشرت طريقة أبي الأسود ولكنها لم تتداول إلا في المصاحف.

وأضاف اللغويون على طريقة أبي الأسود علامةً للتنوين، فوضعوا له نقطتين فوق بعضهما. ويُذكر أنّ أهل المدينة زادوا علامة التشديد فجعلوها قوسين، فوضعوها فوق المشدد المفتوح، وتحت المشدد المكسور، وعلى يسار المشدد المضموم، ووضعوا نقطة الفتحة داخل القوس، والكسرة تحت حدبته، والضمة على يساره، ثم استغنوا عن النقطة، وقلبوا القوس مع الضمة والكسرة، وأبقوه على أصله مع الفتحة. كما زاد أهل البصرة السكون فجعلوها شرطة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه.

ثم قام الفراهيدي: الخليل بن أحمد في العصر العباسي بتغيير رسم الحركات حتى يتمكن الناس من الكتابة بنفس لون الحبر إذ أن تنقيط الإعجام كان قد شاع في عصره بعد أن أضافه إلى الكتابة العربية تلميذا أبي الأسود نصر بن عاصم ويحيى بن يَعْمَر فكان من الضروري تغيير رسم الحركات؛ ليتمكن القارئ من التمييز بين تنقيط الحركات وتنقيط الإعجام. فجعل الفتحة ألفًا صغيرة مائلة فوق الحرف، والكسرة ياءً صغيرة تحت الحرف، والضمة واواً صغيرة فوقه. أما إذا كان الحرف منوناً كـرر الحركة. كما وضع حركات أخرى. وبهذا يكون النظام الذي اتخذه قريباً إلى حد كبير من الرسم الذي تتخذه الحركات اليوم.

ولا يزال موضوع الضبط والتشكيل معضلة حتى عصرنا هذا، فعلى الرغم من ضبط الكتب المدرسية من الروضة إلى المرحلة الثانوية إلا أن ذلك لم يسعف الجيل من تمكينهم من قراءة النصوص المضبوطة وغير المضبوطة بشكل مقبول ومعقول.
وتعالت الصيحات التي تصف المشكلة بشكل عام، لكننا لم نر حلولاً واقعية تعالج المعضلة حتى اللحظة.
ولعل تجربتنا في تعليم العربية للناطقين بغيرها تسعف في حل المشكلة، وفق اتجاهات تعليم الضبط والتشكيل في مناهج العربية للناطقين بغيرها، فيا ترى ما هي مذاهب المشتغلين في هذا المضمار بشكل عام؟

المذهب الأول: لعل أكبر اتجاه في هذا الصدد هو اتجاه الضبط والتشكيل الكامل للنص، وهو نظام يحذو حذو القذة بالقذة – كما يقولون – للنظام العربي، بل إنهم يضبطون الساكن وما يسبق حروف العلة الطويلة، التي لا تكاد تشذّ عن القاعدة إلا فيما ندر، ولم تعكس نتائج التعلّم في هذا النظام قدرة أو مقدرة على قراءة مقبولة ولا معقولة لأي نص قرائي غير مشكول أو مضبوط على الرغم من الساعات والشهور والسنوات الطوال التي قضوها في دراسة العربية.

المذهب الثاني: مذهب الضبط الجزئي للنص، وهو مذهب لا يعتمد على قواعد بعينها في الضبط، مما لم يسفر عنه ملكة أو مقدرة عند الطلبة، تمكنهم من موضوع الضبط في القراءة، في حال غيابه، وأسوأ ما في أمر هذا المذهب أنه قد يتغير ضبط الكلمة الواحدة إذا تغير موقعها لأنه لا ضابط لها، وبالتالي يمكن القول بأنه مذهب لا قواعد له ولا أصول، يساعد الطالب في اكتساب مهارة القراءة الصحيحة.

المذهب الثالث: وهو مذهب تبنى نظاماً في الضبط بشكل عام، وهو على قسمين:

  • القسم الأول: وهو مذهب اعتمد على ضبط المفردات الجديدة في بداية كل وحدة تعليمية من الكتب التي يدرسها الطالب، حيث يتم تجريد الكلمات من نص القراءة الأساسي للوحدة، ويُطلب من الدارس حفظها والتمكن منها مضبوطة ثمّ يتم نزع الضبط عن المفردات فيما بعد، بل يقدّم النص كاملا غير مضبوط. وقد أظهر هذا الاتجاه تمكناً مقبولا لدى الدارسين خاصة عندما يترافق مع هذا المذهب تقديم نظام الصرف العربي القائم على الأوزان العشرة.
  • القسم الثاني: هو القسم الذي يضبط بعض المواقع ويترك أخرى وفق نظام مدروس، ومن ذلك تقديم بعض الضوابط للطلبة في موضوع التشكيل، فعلى سبيل المثال يُعلم الدارسون أن الحروف التي تسبق حروف العلة الثلاثة الألف والواو والياء تكون من جنسها، فلا داعي لوضعها وظهورها إلا ما ندر، وفي حال كانت الكلمة على غير ذلك، فإنها تُضبط رفعاً للبس، ومثال ذلك، تظهر هذه الكلمات كالآتي: نور، نار، نير، فيما تظهر كلمة بَيْت هكذا. وكذلك الحال أن ما يسبق التاء المربوطة فتحة دائماً، كقولنا مَدْرَسة، ويتزامن هذا مع تقديم نظام الأوزان العشرة التي تعوّد الدارسين على القراءة الصحيحة والسليمة التي تعتمد على القواعد والقوانين التي تعلموها شكلاً ومعنى، فعندما يُعلم الدارسون صيغة صرفية يُدربون على قراءتها، فحين يتعلمون على سبيل المثال اسم الفاعل والمفعول، فإنه يُضبط في المرة الأولى فيعرفون كيف يقرؤون مكتوب ومحمول ومدروس ومقهور ومسجون إلخ.
    وهذا من المذاهب المحمودة التي أنتجت طلبة يُحسنون القراءة دون ضبط وتشكيل ليس لنصوص حديثة وحسب بل لنصوص كلاسيكية تفتقر إلى الضبط والإعجام في بعض الأحيان، خاصة إذا علمنا أنّ اللغة العربية لغة اشتقاقية تقوم على الميزان الصرفي الذي يمثل مصنع إنتاج المفردات بشكل عام وكيفية قراءتها ونطقها.

ولعل أفضل طريقة لإيضاح هذه المسألة وتفصيلها هو أن يقوم دارس من طلبة الدراسات العليا في برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها بتبني هذه المسألة وعقد دراسة متفحصة دقيقة حول موضوع الضبط ودوره في الكفاءة والقراءة الصحيحة والسليمة لغوياً.

البحث في Google:





عن د. خالد حسين أحمد أبو عمشة

دكتوراه الفلسفة في مناهج اللغة العربية وطرائق تدريسها للناطقين بغيرها، وعلى وشك الانتهاء من الدكتوراه الثانية في الدراسات اللغوية (اللسانيات). يشغل منصب المدير الأكاديمي لمعهد قاصد – عمان – الأردن، مستشار Amideast لبرامج اللغة العربية في الشرق الأوسط، والمدير التنفيذي لبرنامج الدراسات العربية بالخارج (CASA) الأردن، عمل أستاذاً زائراً في جامعة بريغام يانغ في يوتا أمريكا، و محاضراً للغة العربية للناطقين بغيرها لمدة عشرين سنة، ومدرّبا وخبيرا لها في جامعات ومعاهد ماليزيا والسعودية والأردن والولايات المتحدة.

2 تعليقات

  1. موضوع جدا مهم وشيق أشكركم على شرح قصة ضبط الكلمات بالشكل لان الكثير اعتقد بأنه يجهلها .
    هذا وبكوني معلمة لتلاميذ غير ناطقين باللغة العربية فإنني قمت بتعويد التلاميذ بشكل تدريجي على قراءة الكلمات والجمل من السبورة من غير تشكيل وفي أحسن الأحوال أقوم بشكل الحرف الأخير من الكلمة .. وقد لاحظت مهارة تلاميذي بقراءة الكلمات بسهولة ومن غير اي صعوبات بينما تلاميذ الصفوف الاخرى اللذين اعتادوا ان يقرأوا الكلمات مضبوطة بالشكل لايستطيعون قراءة الكلمة مجردة ويطالبون بوضع التشكيل على الكلمات ليستطيعوا قراءتها .
    الملاحظة وهي ان جميع الدورات التعليمية للمدرسين اللتي نقوم بها هنا في بلاد الغربية
    يطالبون المعلمين بشكل دائم بالالتزام بضبط الكلمات بالشكل بحجة ان التلميذ لن يستطيع قراءة الكلمة بشكل صحيح من دون حركات التشكيل وهذا ما يتعارض مع تجربتي الخاصة!

  2. Abdullah Yekta /عبد الله يكتا

    نحن أيضا نعترض بهذه المشكلة. الطلاب لا يستطيعون أن يقرئوا الكلمة دون الحركة. نحن لا نعرف كيف نعلم القراءة للأبناء. هذه مشكلة جدا. بإذن الله تعالى ساقرا المناجم في هذه المشكلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *