باكولي

تعرفوا على باكولي المربي الفنان

هو رمز من رموز النّضال البيداغوجي ورائد من رُوّاد التّربية المختصّة (éducation spécialisée) المهتمّة بالمعاقين. مُربّ فنّان جعل الموسيقى مشروعا جامعا لكلّ الأنشطة التّربويّة.

لباكولي مع التّربية قصّة جدير بنا روايتها، وسيرة حريّ بنا حكايتها لما تضمّنه عمله التربوي الميداني من عبر وما جسّدته إنجازاته من مبادئ عجّت بها النّظريات وعزّ بها الواقع. فإلى هذه الرّحلة الشّيقة الشّاقة والمغامرة المرّة العذبة.
ولد باكولي Frantisek Bakulé بمقاطعة بوهيم Bohème في 17 من ماي من سنة 1877 التّابعة لجمهوريّة تشيكيا لأبوين يشتغلان بالفلاحة، وحين بلغ العشرين من عمره عُيّن معلّما بالرّيف، فكان متميّزا خصب النّشاط، خلاقا وكثير المبادرات لا يقبل التّنفيذ الأعمى للبرامج، مبجّلا مصلحة التلميذ على تطبيق التّوصيّات البيروقراطيّة للإدارة ممّا سبّب له مشاكل ومتاعب كثيرة. ولم يكن عزاؤه في كلّ ذلك سوى النّتائج المبهرة التي حقّقها تلاميذه رغم ظروف الرّيف القاسية.
اقتنع باكولي أنّ النظام التّعليميّ النّمساوي ( كانت تشيكيا خاضعة لمملكة النّمسا- المجر آنذاك) لا يأخذ بعين الاعتبار شخصيّة التّلميذ و لا محيطه الثّقافي-الاجتماعي وأنّ الممارسات التّربويّة التي تتشبّث بها الإدارة وإطار الإشراف التّربويّ موغلة في العقم والثّبوتيّة ومغالية في المحافظة والتّقنويّة. في حين يرى هو التّربية فنّا أكثر منها تقنية وكان يردّد شعاره المحبّذ : ” أحبّ أن أكون مُوقظ المؤهّلات والاستعدادات “ (Eveilleur d’aptitudes)
وفي عام 1913 عرض عليه الدّكتور رودلف Jedlika Rudolf  أن يشرف على معهده الخاصّ بتأهيل الأطفال المعاقين في براغ فكان ردّ باكولي: ” أقبل بشرط أن تمنحني حرّيتي التّامّة في عملي كمربّ ومعلّم، وتبعد عنّي ما استطعت أولئك المسؤولين الذين يفرضون علينا تكوين أطفالنا التشيكيّين كمواطنين نمساويّين.”
وانطلق باكولي في العمل بكلّ حُبّ وجدّيّة، وبرؤية تربويّة مضمّخة برياح التربية الجديدة التي هبّت على أوروبا في مطلع القرن العشرين، رؤية يمكن استشفافها من هذه الشّذرات من أقواله:
” ليس همّي تطبيق البرامج، إنّي أفكّر دون فتور كيف أخرج هؤلاء الأطفال من جحيمهم الرّوحيّ وأوصلهم إلى مكانهم صلب المجتمع، إذ لا ينبغي أن يظلّوا طفيليّات يتسامح معهم النّاس تعاطفا مع إعاقتهم أو على وجه الفضل، فأنا أريدهم منتجين وقادرين على تلبية حاجيّات عيشهم بأنفسهم. إنّي أقول في نفسي: هؤلاء الأطفال ينبغي أن يتعلّموا كيف يعيشون”
أخلص باكولي لعمله في معهد Jedlika وكان فيه خلاقا عندما قام بـتأهيل الكهول من معطوبي الحرب العالميّة الأولى مع أطفاله المعاقين (Co-éducation adultes mutilés-enfant handicapés) وكان من ثمار مبادرته الطّريفة هذه أن أسّس مع بعض الجنود بحسب اختصاصاتهم ورشا عُني بعضها بصناعة الأعضاء الاصطناعيّة التعويضيّة لأطفاله المعاقين، واختصّ البعض الآخر في صناعة اللّعب الخشبيّة والعرائس.
ورغم ذلك، حصل لباكولي خلاف تربويّ مبدئيّ مع Jedlika فاستقال عام 1919 وغادر المعهد غاضبا وتبعته مساعدته Lida Durdicova تضامنا معه واقتناعا منها بأفكاره ومبادئه التّربويّة وتبعهما 12 تلميذا.
ومن جديد تبدأ رحلة المتاعب، فسُدّت جميع الأبواب في وجه باكولي، إذ وجد نفسه شريدا في الشّارع بلا مأوى صحبة مجموعة من منظوريه المريدين لفنّه وتربيته. وكان لا بدّ أن يعوّلوا على أنفسهم: حمل الكبار من الأطفال القادرين على ظهورهم مسارح صغيرة للعرائس جابوا بها شوارع براغ ليعيلوا بما يتبرّع به المارّة رفاقهم الصّغار. لم تقهر هذه الظّروف باكولي ولم تثنه عن رسالته التي آمن بها فكوّن مجموعة كورال اشتغل مع أفرادها بكلّ جدّية ووضع كلّ موهبته الموسيقيّة على ذمّتهم، وشرع يقدّم عروضا محليّة إلى أن فاز بجائزة الصّليب الأحمر الأمريكي، فاقتنى بمبلغ الجائزة الذي كان قيّما مبنى واسعا فارها أسّس فيه معهد باكولي وتحقّق حلم من أحلامه.
لقد أصبح معهد باكولي في براغ قبلة الزّوّار وملتقى أنصار التّربية الجديدة، وحظي بدعم دائم من الرّئيس التشيكي ماصاريك Masaryk وحقّقت كورال باكولي نجاحا منقطع النظير وذاع صيتها في كافّة أنحاء أروبّا وأمريكا، وكتب النّقاد المختصّون في الموسيقى مقالات تشيد بالإنتاج المحترم لهذا المربّي الفنّان الذي اعتمد في اختياراته الموسيقيّة على الموسيقى الشعبيّة التّشيكيّة وشيء من الموسيقى الكلاسيكيّة موظّفا تقنيّات الهرمنة توظيفا كيّسا لطيفا أخذ بألباب كلّ من شاهد مجموعة الكورال واستمع إليها. لقد بات الآن خير سفير لتشيكيا في العالم وأصبحت المؤتمرات التربويّة الدولية لا تفتتح إلاّ بكورال باكولي و تهاطلت عليه الطّلبات لتقديم العروض، فهاك نبذة من رحلاته وصولاته التّربويّة المجيدة:

bakule 2

1923 :  150 عرضا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة من نيويورك إلى شيكاغو إلى فيلادلفيا إلى إنديانابوليس إلى واشنطن حين استقبله الرّئيس الأمريكي وارين هاردن Warren Harding وسلّمه باكولي رسالة من الرّئيس التشيكي ماصاريك.
1924: عروض بألمانيا.
1925 : العودة إلى ألمانيا لتقديم عروض بمناسبة المؤتمر العالميّ الثالث للتّربية الجديدة. رحّب به المربّي الشّهير فيريير Ferriere رئيس المؤتمر، معتبرا حضوره ومجموعته “حلية ذهبيّة في المؤتمر”.
1926 : رحلة إلى الدّانمارك لتقديم عروض ثلاثة، تحوّلت إلى ستّة وثلاثين عرضا بطلب من الجمهور.
1927: يلتقي باكولي بـبول فوشر Paul Faucher أحد المتحمّسين للتّربية الجديدة ورئيس المكتب الفرنسي للتّربية الذي أعجب بأفكاره وعقد معه صداقة أفادت فيما بعد التربية بفرنسا.
1929 : يدعو بول فوشر كورال باكولي إلى فرنسا لتقديم مجموعة من العروض بلغ عددها المائتين، وجابت جميع أنحاء فرنسا وقد كان لهذه الرّحلة تأثير بالغ في المشهد التّربويّ الفرنسيّ طال أجيالا كثيرة من المربّين والأطفال في فترة ما بين الحربين، وازداد هذا التّأثير تعاظما بعد زواج Lida Durdicova مساعدة باكولي من Paul Faucher عام 1932 وتأسيسهما دار نشر متخصّصة في الإنتاج للأطفال حملت اسم ” الأب كاستور” «Père Castor » وقد كانت Lida تكتب قصصا جميلة تحلّيها رسومات رائعة من إبداع Ruda و Chakran وهما من تلاميذ باكولي، فجسّم هذا المشروع أفكار باكولي الفنية والتربوية في القصّة والأناشيد المدرسيّة. وأحبّ ملايين من صغار الفرنسيّين القراءة والرّسم والغناء بفضل إنتاجات هذه المؤسّسة. وقد عبّر باكولي عن رضاه وغبطته بذلك حين زار فرنسا للمرّة الأخيرة عام 1947: ” Faucher و Lida خير امتداد لأعمالي البيداغوجيّة وقد بلغا بها مرتبة عالميّة. ” ووفاء لباكولي كتبت Lida كتابين تروي فيهما “ملحمته التربويّة ” هما : ” شاركان Charkan ” و ” الأطفال الجوّابون Les Enfants Baladins ”
في سنة 1933 وضعت الأزمة الاقتصاديّة العالميّة معهد باكولي في صعوبات ماليّة خانقة تصارع معها بشجاعة مدّة أربع سنوات وبلغت ذروتها عام 1937 حين أغلق المعهد وبيع في المزاد العلنيّ، وهي السّنة التي توفّي فيها الرّئيس Masaryk الذي طالما ساند باكولي .
في أواخر حياته، حاول باكولي تلخيص رؤيته البيداغوجيّة القائمة على الأعمال اليدويّة و الفنون كموجهة لكل الأنشطة البيداغوجية، فطاف محاضرا ببعض العواصم الأوربية.
ولم تمكّن الظروف السياسية ( الاحتلال النازي لتشيكيا ثم انتصاب نظام ستاليني ) باكولي من إعادة فتح معهده.

من مبادئ باكولي البيداغوجيّة

هذه أهم مبادئ باكولي وطريقته التربوية:

♦ الإتيان على البرنامج مسألة ثانوية أمام إنجاز المشاريع الفردية والجماعية.
♦ فتح القلوب قبل فتح الأذهان، وهذا لن يتم إلّا ببناء علاقة تربوية أساسها الحبّ الصّدق والثّقة المتبادلة.
♦ للتلميذ الحق في الشك والتحفظ وعلى المعلم الصدق و الصبر.
♦ مشروعات العمل اليدوي هي الموجهة للبحوث والأنشطة الأخرى.
♦ الأولوية لغنى القلب على غنى الذهن.
♦ روح الجماعة والتواصل الإيجابي بين أفراد مجموعة الفصل أمر جد هام وعلينا اختراع وسائل تذكيته والمحافظة عليه ( مشاريع وأهداف جماعية، تضامن، تعاون)
♦ الطّاقة الخلاقة مكنونة في كل طفل، وما على المعلم سوى إيقاظها ومنحها فرص التحقق عبر المشاريع الفنية التي تبدأ باللّعب لتتحوّل بسلاسة إلى أعمال جدية لا يشعر خلالها الطفل بالكلل ولا بالملل.
♦ الموسيقى وأخواتها الشّعر والرّسم والنّحت والتمثيل… تعابير فنية إنسانية، إذا ورطنا فيها الطفل أخرجناه من الغريزة إلى النبل و الثقافة ليصبح طالبا لما به يجود تعبيره وعندها يقبل على التعلمات الأخرى، بل ويطلبها بإلحاح لأنه يحتاجها.


روابـط مـفـاهـيمـيّة:
التّربية الجديدة / التربية الموسيقيّة/ إدماج المعوقين / الأقسام الدّامجة /التربية الدّامجة Co-éducation / بيداغوجيا الإيقاظ / التّنشئة الفنّية / البرامج التّعليميّة / بيداغوجيا المشروع.

مراجع للتعمق

Ferriere (Adolphe), Bakule et son œuvre éducatrice,Paris, Flammarion, 1929

J.Husson ,Bakulé, Editions de l’Ecole Moderne Française

CANNES (ALPES-MARITIMES) 1947.

François Faucher, FRANTISEK BAKULE L’enfant Terrible De La Pedagogie Tcheque, Éd PUF, Collection : PEDAGOGUES ET PEDAGOGIES,1998

البحث في Google:





عن شفيق الجندوبي

أستاذ علوم التّربية و متفقّد أوّل للمدارس الابتدائية بأريانة الجمهوريّة التّونسيّة

5 تعليقات

  1. شكرا .لقد أصبحت مدارسنا تحتاج بشكل ملح إلى بداغوجية باكولي.

  2. ابو اسامة

    كنت اكرر قولي الى اساتذة جدد كن انسانا بمغنى الكلمة فى سلوكاتك كلها تكن معلما ماهرا ناجحا.هذه قواعد التربية الواعية السليمة : داعبوهم..هذبوهم…صاحبوهم.لقد اجدت شكرا

  3. Mona_Hessin_Eed_Waer

    موضوع رائع ومفيد جدا … جزاك الله خيراً

  4. kamil abakarim

    موضوع شيق ، وهو بالمناسبة مدعاة لإعادة النظر في تراكماتنا المعرفية وؤانا الفكرية ،انها المقال ثورة على المستوى التربوي ،اذ يعتمد الانطلاق من المشروع بغية تحقيق هدف التعلمات بعيدا عن التعليمات الرسمية المعقدة أحيانا

  5. ما لفت انتباهي عبارة …ورطنا…
    و قلة من المربين و الاولياء الذين يسعون الى توريط الاطفال في التعابير الفنيةالانسانية بغاية تحسين الاقبال على التعلمات الاساسية .
    و احيانا نجد المربي يسعى و الطفل يرغب و الولي يُعيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *