البحوث الاثنوجرافية

توجهات بحثية جديدة في الميدان التربوي: البحوث الاثنوجرافية

من التوجهات التي أخذت تظهر أكثر فأكثر في البحوث التربوية في الآونة الأخيرة المنهج الاثنوجرافي في البحث. والسبب الرئيسي في الاهتمام المتزايد بالبحوث الاثنوجرافية هو غالباً عدم الارتياح للطرق التقليدية في بحث بعض المشكلات التربوية. ورغم أن تطبيق المنهج الاثنوجرافي توجه حديث في التربية، إلا أنه ليس استراتيجية بحثية جديدة. فقد استخدمه الأنثروبولجيون -مثل مارجريت ميد  (Margaret Mead 1901-1978) وهي واحدة من أكثر علماء الأنثروبولوجيا الثقافية شهرة في الولايات المتحدة الأمريكية -استخداماً واسعاً منذ سنوات طويلة كطريقة لدراسة ووصف الثقافات الإنسانية، وكانوا يطلقون عليه المنهج الأنثروبولوجي.
وهنا يأتي تساؤل ما مفهوم المنهج الاثنوجرافي، وماهي مسمياته وأنواعه وأدواته؟
و بمراجعة الأدبيات العلمية تظهر صعوبة تحديد مفهوم المنهج الاثنوجرافي على نحو قطعي الدلالة، نظرا إلى الطبيعة الخاصة التي ترتبط بتصميمه وأساليب تنفيذه، ولذلك فإنه لا يوجد تعريف موحد متفق عليه بين الباحثين. (السلطان 1430ه، ص:10)
وهناك من يرى أنه يوجد شبه إجماع على إرجاع بداية المنهج الاثنوجرافي وتطوره وتطبيقاته العلمية إلى علم الأنثروبولوجيا. إذ تم استخدامه من قبل الباحثين الأنثروبولوجين، بوصفه طريقة للتعرف على الثقافات الأخرى، وعلى وجه الخصوص الثقافات البدائية. وبالتالي استمدت الاثنوجرافيا قواعد تنظيمها وأسسها من علم الأنثروبولوجيا. (العوفي 1425ه، ص:292)
أما أبو علام (2001م، ص: 348) فيرى أن مصطلح الاثنوجرافية (ethnography) يستخدم ليشير إلى العمل المتعلق بدراسة الثقافة وكذلك نتيجة البحث النهائية. ولقد انتقلت الاثنوجرافية من الأنثروبولوجيا إلى فروع المعرفة الأخرى، بما في ذلك التربية، حيث أضافت منظوراً بحثياً جديداً يؤكد الطريقة الكلية في جمع ومراجعة البيانات، وطريقة استقرائية في تحليل البيانات.
أما زيتون (2006م، ص:124) فبين أن المعنى الحرفي للفظة “اثنوجرافي” هو: “الكتابة عن مجموعات من الأفراد“، فباستخدام هذا التصميم الكيفي، يمكن تحديد مجموعة من الأفراد، ودراستهم في منازلهم أو في أماكن عملهم، وملاحظة كيف يسلكون ويفكرون ويتحدثون، ونضع تصورا كلياً لهذه الجماعة. فالمنهج الاثنوجرافي هو منهج لوصف الواقع واستنتاج الدلائل والبراهين من المشاهدة الفعلية للظاهرة المدروسة. ويتطلب هذا المنهج من الباحث معايشة فعلية للميدان أو الحقل موضوع الدراسة (2006م، ص:306)
وعرف أبو علام (2001م، ص: 348) البحث الاثنوجرافي بأنه نموذج من نماذج البحوث الكيفية، يتضمن جمعاً مكثفاً للبيانات، أي جمع البيانات عن العديد من المتغيرات على فترة ممتدة من الزمن وفي وضع طبيعي، ويقصد بمصطلح “وضع طبيعي” أن متغيرات البحث يجري استقصاؤها في الموضع الذي تحدث فيه بشكل طبيعي وأثناء حدوثها. وليس في بيئة وضعها الباحث في ظروف شديدة الضبط.
أما (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 115-116) فيرون أن الاثنوجرافيا مصطلح يطلق على البحث الميداني الذي يعتمد على ملاحظة الباحث المشارك للأحداث في سياقها الطبيعي، كما يطلق أيضاً هذا المصطلح على البحث الظاهراتي (phenomenological) أو الملاحظة الطبيعية (الاستقصاء). وأن الاثنوجرافيا وصف تحليلي للمشاهد الاجتماعية، (الأفراد والجماعات) يعيد بناء مشاعرهم المشتركة ومعتقداتهم وممارستهم والمعرفة لديهم. كما أنها دراسة الاستراتيجيات التفاعلية في حياة الإنسان.
وتتعدد مسميات المنهج الاثنوجرافي فقد يطلق عليه البعض: الأنثروبولوجيا التربوية، وملاحظة المشارك والبحث الميداني والاستقصاء الطبيعي. ويوصف البحث الاثنوجرافي أيضاً بأنه بحث تفاعلي يتطلب وقتاً طويلاً للملاحظة والمقابلة وتسجيل العمليات كما تحدث بشكلها وفي مواقعها الطبيعية. (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 116)
“وقد يطلق على هذا البحث “البحث الطبيعي” أو “الاستقصاء الطبيعي” أو “البحث الميداني“، إلا أن بعض الباحثين يفضلون استخدام مصطلح “البحث الكيفي” وذلك بسبب المنهج المستخدم والذي يعتمد على ملاحظة المشاركين، وبعض الباحثين الآخرين يستخدمون مصطلح “البحث الاثنوجرافي” ليعني “البحث الكيفي”، أي أنهما يستخدمان هذين المصطلحين كمصطلحين بديلين. (أبو علام 2001م، ص: 349)

أولا- أنواع المنهج الاثنوجرافي

ذكر زيتون (2006م، ص:125) أن البحث الاثنوجرافي متعدد الأنواع، لكن الباحث الجديد في هذا المجال يحسن أن يركز على نوعين رئيسين هما:

أ- البحث الاثنوجرافي الواقعي

مدخل مألوف يستخدمه الأنثربولوجيون الثقافيون (von maanen, 1988) وهو يعكس شواهد مُستقاة من توجه الباحث نحو دراسة الأفراد. فالبحث الاثنوجرافي الواقعي هو إحصاء موضوعي للموقف يكتبه الشخص بصيغة المتحدث الثالث؛ أي أنه ليس متضمناً في الموقف بل مجرد ملاحظ، ويقرر بموضوعية المعلومات المتعلمة من المشاركين في هذا المضمار بأسلوب قياس لا يتأثر بالتحيز الشخصي أو الأحكام أو الأهداف السياسية.

ب- دراسات الحالة

تعد دراسة الحالة نوعاً مهماً من البحث الاثنوجرافي؛ هذا برغم اختلافها عنه في نقاط كثيرة، فقد يركز الباحثون في دراسة الحالة على برنامج أو حدث أو نشاط يضم الأفراد وليس المجموعة (stake, 1995). كما أن باحثي دراسة الحالة عندما يتناولون جماعة بالبحث، قد يولون اهتمامهم لوصف نشاطات الجماعة، كما قد لا يهتمون كثيراً بتحديد موضوع ثقافي يختبرونه في بداية الدراسة خاصة من الأنثربولوجيين؛ لكنهم بدلاً من ذلك يركزون على الاستكشاف المتعمق للواقع الفعلي للحالة.

ثانيا- تساؤلات البحث الاثنوجرافي

الباحث الاثنوجرافي يبدأ بأسئلة بحثية أولية متوقعة، وعادة ما يقوم بإعادة صياغتها أثناء عملية جمع البيانات. وهي عبارة عن أسئلة بحثية مصاغة بشكل عام حول موقف ما (أي الأفراد، الزمان، المكان، والأحداث). ما الذي يحدث؟ لماذا حدث ذلك؟ وكيف؟
وقد يعتمد الباحث الاثنوجرافي عدة مصادر في توليد أسئلة من مثل الأحداث اليومية الشائعة، والخبرات الشخصية، والأيديولوجيات والفلسفات والنظريات والأدب السابق والمشكلات والأفكار التي يحددها الآخرون في الموقف، بالإضافة إلى حدس الباحث بإثارة التساؤلات مثل: ماذا سيحدث الآن؟ ماذا يعني الحدث للمشاركين؟ كيف يمكن التعامل مع هذا الحدث؟
ويسعى الباحث الاثنوجرافي إلى اكتشاف المعاني المتعددة لدى المشاركين حول الأحداث والعمليات دون أن يحاول التحكم بالموقف، أو إجراء أي معالجة. (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 119-129).

ثالثا- الفرق بين منهج البحث الاثنوجرافي والمناهج البحثية الأخرى

الفرق الأساسي بين المنهج الاثنوجرافي وغيره من المناهج التقليدية، هو أن مراجعة البحوث السابقة، لا يترتب عنها صياغة فروض قابلة للاختبار، ويتم قبولها أو رفضها بعد الحصول على النتائج، إذ يترتب عن مراجعة البحوث السابقة، وضع فروض واستراتيجيات توجه عمل الباحث. فالباحث الاثنوجرافي لا يريد أن يتأثر تأثراً كبيراً بنتائج حصل عليها من بحوث أخرى أجريت غالباً في بيئات أخرى غير البيئة التي يجري فيها بحثه، والتي ينوي أن يعمم عليها نتائجه. (أبو علام 2001م، ص: 349)

رابعا- متى يلجأ الباحث التربوي إلى استخدام البحث الاثنوجرافي؟

نلجأ إلى البحث الاثنوجرافي لأجل دراسة جماعة دراسة تجعلنا نفهم موضوعا ما أكثر تعقيدا. كما نجريه عندما تتوفر مجموعة مشتركة الثقافة، بشرط أن تكون استمرت معاً لفترة من الوقت وتحمل بعض القيم المشتركة والمعتقدات واللغة. فأنت تقوم بتحديد قواعد السلوك، مثل العلاقات غير الرسمية بين المعلمين الذين يفضلون أماكن محددة ليقضوا فيها نشاطهم الاجتماعي. وقد تكون المجموعة مشتركة الثقافة محدودة الإطار، مثل: (المعلمين، التلاميذ، أو طاقم العمل) أو قد تكون واسعة الإطار؛ مثل: (دراسة مدارس بأكملها، ونجاحها، ومبتكراتها) وقد تقوم على أسرة.
فالباحث يقوم بالبحث الاثنوجرافي عندما يحظى بمعرفة طويلة المدى بهذه المجموعة مشتركة الثقافة؛ حيث يمكن بناء سجل مفصل لسلوكياتها ومعتقداتها بذات الوقت. (زيتون 2006م، ص:125)

خامسا- أدوات البحث الاثنوجرافي

يُعتبر الباحث الأداة الرئيسية في المنهج الكيفي بتصميماته المتعددة “ويستخدم طريقة الملاحظ غير المشارك أو الملاحظ المشارك أو كليهما، كما يتميز بأنه بحث متعدد الأدوات، يستخدم فيه الباحث الاثنوجرافي ألواناً مختلفة من استراتيجيات جمع البيانات المرتبطة بالملاحظة. فهناك الملاحظة بالمشاركة الأولية التي توفر بيانات للباحث تساعده على اختيار طرق أخرى مناسبة يمكن له استخدامها في بحثه، مثل استخدام الأساليب اللفظية والأساليب غير اللفظية (pelto & pelto, 1978). وتتضمن الأساليب اللفظية التفاعل بين الباحث والأشخاص في بيئة البحث، ويمكن فيها استخدام بعض الأدوات مثل الاستبيانات والمقابلات ومقاييس الاتجاهات وبعض المقاييس النفسية الأخرى. أما الأساليب غير اللفظية فهي أقل تغلغلاً، فمن المحتمل أنها أقل تأثيراً في السلوك الذي يدرس، وتتضمن استراتيجيات أخرى مثل أدوات التسجيل وفحص السجلات المكتوبة. (أبوعلام 2001م، ص: 349)
أما (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 122-123) فيرى أن هناك ستة أدوار محتملة للباحث في البحوث النوعية الميدانية، وهي كما يلي:
1-ملاحظ بالكامل complete observer.
2-مشارك بالكامل full participant.
3-ملاحظ مشارك participant observer.
4-ملاحظ داخلي insider observer.
5-مقابل interviewer.
6-باحث مشارك participant researcher.
ويتنوع تأثير هذه الأدوار على المشهد أو الموقف الاجتماعي وعلى الأشخاص موضوع الدراسة. فدور الملاحظ (فقط) هو دور الشخص الغائب مادياً ومعنوياً، فهو كالشخص الذي ينظر من نافذة ذات اتجاه واحد. ودور المشارك الكامل هو دور الشخص الذي يمر بالتجربة أو الخبرة، ويقوم بتذكر الأحداث وكتابة أفكار وآراء شخصية عن الموقف أو الخبرة التي عاشها. ولكون كلا الدورين غير تفاعليين فإنهما غير ملائمين للبحث الاثنوجرافي، لكن يمكن استخدامهما في أشكال أخرى من البحث النوعي. وتلائم أدوار الملاحظ المشارك والمقابل معظم أشكال أو أنماط البحث النوعي الميداني؛ وتحديداً البحث الاثنوجرافي. وينحصر دور الباحث كملاحظ مشارك في جمع البيانات.
وبالنسبة للملاحظ الداخلي، فهو شخص يمتلك دوراً في الموقع مثل المدير، المشرف، المرشد، المعلم. ومثل هؤلاء الأشخاص موجودون حتى لو لم يتم إجراء الدراسة في ذلك الموقع. أما المقابل فيتحدد دوره بالهدف من الدراسة، حيث يبدأ هذا الدور بالاتصال مع الشخص المراد مقابلته لطلب موعد مسبق وشرح هدف الدراسة وتبيان مدى السرية، ثم يختار الشخص الذي سوف تتم مقابلته الوقت والمكان. بعد ذلك يزور الباحث هذا الشخص عدة زيارات وذلك من أجل التوصل إلى فهم عميق لموضوع الدراسة.
إن الباحث الاثنوجرافي باحث متعدد الأدوار، وهذه الأدوار تتضمن قدراً من المرونة في التواصل مع المشاركين وإنشاء العلاقات الاجتماعية والانتقال من دور مناسب لمجموعة أو فرد، إلى دور يناسب مجموعة أخرى أو فرداً آخر. كما أن بعض الدراسات الاثنوجرافية تتطلب دوراً مزدوجاً للباحث كباحث مشارك أيضاً في الدراسة.
كما يعتبر الباحث الاثنوجرافي ملاحظاً حساساً، مسجلاً للظواهر بأمانة قدر المستطاع، وعلى العكس من أدوات التسجيل الميكانيكية يستطيع الباحث الاثنوجرافي طرح تساؤلات إضافية و مراجعة إحساساته، ثم الانتقال بعمق نحو تحليل الظواهر.
ويتنوع العمل الميداني للباحث وفق ستة أبعاد dimensions كما يراها (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 132-133)
1-دور الباحث role of the observer
فقد يتخذ الباحث دور المشارك الكامل بالحدث، أو دور المشارك الملاحظ بشكل جزئي، وقد يقتصر دوره على الملاحظ الخارجي (المتفرج onlooker).
2-منظور الباحث (observer perspective).
إن الباحث الذي ينتهج المنحى الداخلي emic approach يركز على لغة و سلوكيات الأفراد والجماعات، في حين الباحث الذي يعتمد على تصنيفه هو للغة المشاركين وسلوكياتهم من منظوره هو باحث ينتهج المنحى الخارجي etic approach
3-دور فردي أو تشاركي solo and team
يقوم بالعمل الميداني الباحث نفسه كفرد أو مجموعة من الباحثين، وقد يستعين الباحث أو مجموعة الباحثين بأفراد في الموقع الذي يجري العمل فيه.
4-الظهور العلني أو الخفي overt versus covert observations
يمكن أن يؤدي الباحث دوره في العمل الميداني بشكل علني أو صريح أو معلن لدى الأفراد والجماعة في الموقع، ويمكن أن يتخذ دوراً مخفياً لا يدركه هؤلاء الأفراد. ولكل من هذين الدورين إيجابيات وسلبيات.
5-الفترة الزمنية duration of observations
تختلف الفترة الزمنية التي يقضيها الباحث في الموقع لجمع البيانات حسب طبيعة البحث ونوع البيانات، وقد تستمر بعض الأبحاث لسنوات أحياناً في بعض الدراسات الاثنوجرافية لمجتمعات معينة (patton, 2002, p.273)، وقد تستغرق بضعة أسابيع؛ كما أن هناك مقابلات تمتد لساعات ومقابلات لمدة زمنية لا تزيد عن الساعة؛ كما أن دراسة أدوار مدير المدرسة ونشاطاته تمتد لمدة عام دراسي كامل.
6-تركيز المشاهدات focus of observations
قد يكون اهتمام الباحث التركيز على عنصر واحد في الموقع. كأن يركز على أسلوب المعلم في طرح الأسئلة على الطلبة، أو على إجابات الطلبة على أسئلة المعلم، وقد يكون اهتمام الباحث واسعاً بحيث يشمل كل أنواع التفاعلات والسلوكيات التي تتم داخل الغرفة الصفية.

سادسا- وسائل جمع البيانات في المنهج الاثنوجرافي

يتم جمع البيانات النوعية من خلال ثلاث وسائل، وفيما يلي وصف مختصر لكل منها:( أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 125-132)

أ- الملاحظة

لعل أهم طرق جمع البيانات في الدراسات الاثنوجرافية هو ملاحظة المشارك، حيث يكون الملاحظ جزءاً من الموقف الذي يقوم بملاحظته، ويصبح فرداً في المجموعة التي يشاهدها و يشاركها نشاطاتها وسلوكياتها. والفلسفة وراء هذا الأسلوب أن مشاهدة الموقف من الداخل في بعض الحالات تكون أكثر دقة من مشاهدتها من الخارج. وهناك درجات لمشاركة الباحث، فقد تتم الملاحظة بطريقة ظاهرية أو خفية.
ويتوقع من الباحث الذي يقوم بالملاحظة توخي الموضوعية ما أمكن.
والملاحظة بالمشاركة تتميز بالمزايا التالية:
– تحدث الملاحظة في الموقع، ولعل أهم متطلبات البحث الاثنوجرافي تواجد الباحث في الميدان لمدة طويلة، مما يسمح له بوصف واستقصاء العمليات، وملاحظة التغيرات في الموقف موضوع الدراسة.
– جمع البيانات المطول:  يستمر الباحث في جمع البيانات حتى يشعر أنه وصل إلى حد الإشباع وأن هدفه قد تحقق؛ فمثلاً قد يستغرق تجميع البيانات حول برنامج مدرسة صيفي ثلاثة أسابيع، بينما قد تصل إلى عشرة أسابيع إذا كان البرنامج حول دراسات في الطب النفسي مثلاً.
– التوصل إلى الحقائق: تساعد ملاحظة الباحث في التوصل إلى ما يدركه الناس من خلال أفعالهم ومشاعرهم ومعتقداتهم، وقد يتوصل إلى ذلك من خلال إدراكات الناس اللفظية وغير اللفظية وتعبيراتهم الجسمية واللفظية، إذ قد تقود كل من تعابير الوجه و نبرة الصوت و حركات الجسم وغيرها من التفاعلات الاجتماعية غير الملحوظة إلى المعنى الدقيق للغة.
– التحقق من الملاحظات الميدانية: حيث يسعى الباحث الاثنوجرافي إلى معرفة وجهات نظر مختلفة للأحداث والأشياء من قبيل المشاركين المختلفين وذلك من أجل الدقة والمصداقية.

ب- المقابلة الاثنوجرافية ethnographic interview

تتكون المقابلات الاثنوجرافية من أسئلة ذات إجابات مفتوحة، وذلك من أجل الحصول على معلومات ذات صلة بحياة المشاركين وإدراكهم لعالمهم، ولأحداث مهمة في حياتهم.
وتأخذ المقابلات النوعية عدة أشكال، منها مقابلات غير رسمية ومقابلات شبه رسمية وأخرى رسمية، والمقابلات المفتوحة المقننة. وتختلف هذه المقابلات في بنائها وتخطيطها؛ ففي المقابلة غير الرسمية تطرح الأسئلة بشكل عفوي بحيث تنسجم مع السير الطبيعي للأحداث. أما فيما يخص المقابلة شبه المقننة فيتم اختيار المواضيع التي سيتم جمع البيانات عنها بشكل مسبق، وتطرح الأسئلة بترتيب يقرره الباحث، كما يقرر مدى العمق الذي يمكن أن يذهب إليه في جمع البيانات. أما في حالة المقابلة المقننة فيتم طرح الأسئلة بنفس الترتيب الذي أتت به دون تغيير، وذلك للتقليل من تحيز المقابل. و يبقى الهدف من إجراء المقابلة هو المنحدد لنوعها.

ج- الوثائق

إن جمع الوثائق والعينات المادية وغير المادية هي طريقة غير تفاعلية في الحصول على البيانات. ويسعى الباحث باستخدام هذه الطريقة إلى الحصول على معلومات من الوثائق والعينات المادية وغير المادية.
فالوثائق والملفات والعينات المادية وغير المادية تمثل انعكاساً للمعتقدات والسلوكيات التي تشكل الثقافة، فهي تصف الخبرات الإنسانية والأفعال والقيم، فالاثنوجرافي في هذا المجال يتبنى أساليب المؤرخين في تحليل الوثائق وأساليب علماء الآثار في دراستهم الأشياء التي أوجدها القدماء، ومن هذه الوثائق:
1– الوثائق الشخصية: وتتضمن المفكرات والرسائل الشخصية والسجلات القصصية.
2– الوثائق الرسمية: تأخذ الوثائق الرسمية أشكالاً متعددة منها وثائق المؤتمرات ونصوص الاجتماعات وأوراق العمل ومسودات المخططات. وتعتبر هذه وثائقا غير رسمية تبرز وجهة نظر داخلية صادرة عن مؤسسة ما لوصف الوظائف والقيم، ويمكن أن تزود الباحث بإشارات حول أسلوب الإدارة والقيادة.
3– الأشياء: وهي عبارة عن رموز وكيانات محسوسة تكشف عن العمليات الاجتماعية والمعاني والقيم، ومن الأمثلة عليها: المجسمات و الكؤوس الرياضية و الشهادات والملصقات والشعارات الرسمية.
4– مؤشرات القدم والتلف: تشير هذه المقاييس إلى درجة تآكل بعض المرافق العامة. في المدرسة مثلاً، فإن تآكل الممرات المدرسية والقاعات والساحات وغيرها تعتبر مؤشراً على القدم والتلف، ولها معاني محددة للباحث.

سابعا- خطوات بناء المنهج الاثنوجرافي

لخص ( أبو علام 2001م، ص: 350-351) تتابع الخطوات التي تشكل منهج البحث الاثنوجرافي على النحو التالي نقلاً عن spradley 1980:
1-اختيار مشروع اثنوجرافي: ويختلف مجال هذه المشروعات اختلافاً كبيراً عن دراسة مجتمع كامل معقد، مثل جماعات صيد الإسكيمو في ألاسكا، إلى موقف اجتماعي محدود أو مؤسسة صغيرة، مثل أحد النواحي الرياضية أو ملعب المدرسة.
وللموقف الاجتماعي دائماً ثلاثة مكونات: المكان والممثلون والأنشطة.
2-طرح أسئلة اثنوجرافية: يحتاج الباحث إلى أن يكون لديه مجموعة من الأسئلة لترشده فيما يسمع أو يرى وفي جمع البيانات.
3-جمع البيانات الاثنوجرافية: يقوم الباحث بدراسة ميدانية لمعرفة الأنشطة التي يقوم بها الناس والخصائص الفيزيائية للمكان وكيف يكون شعور المرء عندما يكون جزءاً من الموقف. وهنا يستخدم الباحث ملاحظة المشارك والمقابلات المتعمقة، وغير ذلك من أساليب جمع البيانات.
4-عمل سجل اثنوجرافي: وتتضمن هذه الخطوة أخذ لملاحظات و رؤوس أقلام  وصور ميدانية وعمل الخرائط واستخدام أية وسائل أخرى لتسجيل الملاحظات.
5-تحليل البيانات الاثنوجرافية: يتبع الدراسة الميدانية دائماً تحليل البيانات، مما يؤدي بالتالي إلى أسئلة جديدة وفرضيات جديدة، ويتبع ذلك مزيد من جمع البيانات، وتحليل أكثر لهذه الأخيرة، وتستمر هذه الدورة حتى يكتمل المشروع.
6-كتابة التقرير الاثنوجرافي: يجب أن يكتب الباحث التقرير الاثنوجرافي بحيث يجلب الثقافة موضوع المشروع إلى الحياة أمام القارئ ليشعره بأنه يفهم الناس وطريقتهم في الحياة.
ويمكن للباحث تبسيط هذا العمل بأن يبدأ الكتابة في وقت مبكر أثناء جمع البيانات بدلاً من الانتظار إلى النهاية.
ومما يسهل مهمة الكتابة أيضاً أن يقرأ الباحث التقارير الاثنوجرافية الأخرى الجيدة قبل أن يبدأ في كتابة تقريره.
أما زيتون (2006م، ص:125) فذكر أن سبرادلي spradley  1980 قد قدم تتابعاً من اثنتي عشرة مرحلة لإجراء البحث الاثنوجرافي، ويمكن بلورتها في خمس خطوات على النحو الآتي:
1-تحديد المقصد من التصميم ونوعه وربط المقصد بمشكلة البحث.
تعد هذه الخطوة من أهم و أول خطوات إجراء البحث، وتتمثل في تحديد السبب الذي يدفع الباحث للقيام بالدراسة التي تحدد شكل التصميم الذي يخطط لاستخدامه، وكيف ارتبط مقصده بمشكلة البحث.
ففي البحث الاثنوجرافي الواقعي: يكون التركيز منصباً على فهم الجماعة ذات الثقافة المشتركة
وبالنسبة لدراسة الحالة: ينصب التركيز على تنمية فهم عميق للحالة مثل: الحدث أو نشاط أو عملية.
وفي البحث الاثنوجرافي الناقد يتغير المقصد عن سابقيه فهو يسعى لمواجهة عدم المساواة في المجتمع أو المدارس والتخطيط لاستخدام البحث بهدف الدفاع والمناداة بالتغيير. ويحدد موضوعاً محدداً لدراسته مثل القمع، والسيادة والمساواة.
2-مناقشة الاعتبارات المحددة والاستحسان.
تتبع نفس الإجراء للأنماط الثلاثة للتصميم حيث يكون الباحث بحاجة لتلقي الاستحسان من الجهة المؤسساتية المراجعة. كما أنه بحاجة لتحديد نوع البيئات المستهدفة المتاحة، والتي تجيب بالشكل الأمثل عن تساؤلات البحث والمشاركين في الدراسة.
3-استخدام الإجراءات المناسبة لتجميع البيانات.
تتمتع التصميمات الثلاثة للبحث الاثنوجرافي بملامح مشتركة مع التأكيد على تجميع البيانات بشكل واسع، واستخدام إجراءات متعددة لتجميع البيانات.
– ففي البحث الواقعي: يكون التركيز على تدوين الملاحظات، وملاحظة المشهد الثقافي. لذلك تكون المقابلات الشخصية والحقائق الفنية كالرسم والتخيل والترميز ذات أهمية كأشكال للبيانات.
– وفي دراسة الحالة: يكون الهدف متجهاً نحو الوصول لفهم عميق للحالة أو الموضوع.
– أما في البحث الاثنوجرافي الناقد، فإن التركيز على تجميع البيانات يكون أقل أهمية، في حين ينصب الاهتمام الأكبر على التعاون النشط بين الباحث والمشاركين أثناء الدراسة.
4-تحليل البيانات وتفسيرها في ظل التصميم.
ينخرط الباحث –في كل التصميمات الاثنوجرافية– في العملية العامة للقيام بالوصف والتحليل لبيانات الموضوعات، والقيام بتفسير معنى المعلومات. وتلك هي الإجراءات التحليلية والتفسيرية للبيانات المتواجدة في الدراسات الكيفية.
5-كتابة التقرير بشكل يتماشى مع التصميم.
يتم كتابة البحث الاثنوجرافي الواقعي كتقرير موضوعي للمعلومات المتعلقة بالجماعة ذات الثقافة المشتركة. فرؤى الباحث الشخصية وتحيزه موجودان في ظل تلك الخلفية. ولابد أن تشير المناقشة في نهاية الدراسة إلى مدى إسهام البحث في المعرفة المتعلقة بالموضوع الثقافي القائم على فهم النماذج المشتركة من السلوك أو التفكير أو اللغة للجماعة ذات الثقافة المشتركة، في حين أن دراسة الحالة قد تركز على الوصف المفصل للحالة. أما في البحث الاثنوجرافي الناقد، فإن الباحث يتوصل للنتائج والتقارير ويختتمها بالموضوع الناقد الذي بدأ به دراسته ويوضح كيف أنه بمعية المشاركين قد تغيروا أو استفادوا من البحث.

ثامنا-معايير تقويم المنهج الاثنوجرافي

وضع (أبو زينة وآخرون 2007م، ص: 122-123) عدة معايير لتقويم المنهج الاثنوجرافي وهي كما يلي:
1-هدف الدراسة ومشكلتها: هل كانت المشكلة محددة تماماً في البداية أم أنها تبلورت بشكل أكثر أثناء جمع البيانات؟
2-هل تنطلق الدراسة من منظور مفاهيمي ونظري واضح؟ وهل تستند مشكلة البحث إلى خلفية مرتبطة ببحوث ودراسات سابقة أو جارية؟
3-هل وضح الباحث أفكاره أو آراءه مسبقاً، وربما تحيزاته، وهل تأثر بهذه الأفكار والآراء أم أنه نحاها جانباً؟
4-هل كانت استراتيجية المعاينة المقصودة واضحة ومناسبة؟ وهل توفر الدراسة العدد الكافي من المشاركين الذين لديهم المعلومات الكافية للبحث؟
5-هل قدم الباحث وصفاً تفصيلياً للموقع، ودوره في البحث، واستراتيجية في جمع البيانات؟ وإلى أية درجة انغمس الباحث في الموقف، وبنفس الوقت لم يؤثر وجوده وتفاعله في أحداث الموقف وآراء المشاركين؟
6-هل كانت المدة التي قضاها الباحث في الميدان كافية، وهل قدمت بيانات ونتائج صادقة وغنية بالمعلومات؟
7-هل تناول الباحث قضايا الصدق والموضوعية، ووضح الاستراتيجيات التي استخدمها لتعزيز الصدق والموضوعية في النتائج التي حصل عليها؟
8-عرض النتائج والاستدلالات: هل تم تقديم وجهات نظر وآراء المشاركين المختلفة بشكل واضح؟ وكيف تم التعامل مع البيانات للتوصل إلى الاستنتاجات بالطريقة الاستقرائية؟
9-هل الاستنتاجات التي توصل إليها الباحث تنبع منطقياً من النتائج التي توصل إليها؟ وهل تتفق هذه الاستنتاجات مع المعتقدات والمفاهيم أو النظريات السائدة؟
10-أسلوب الكتابة والتوثيق: هل تم عرض أجزاء تقرير البحث بأسلوب واضح، وبتفصيل كاف، يوضح إجراءات البحث حتى يتمكن الآخرون من الاستفادة من نتائجه في مواقع أخرى؟

تاسعا- عيوب ومزايا المنهج الاثنوجرافي

ذكر (أبو علام 2001م، ص:350) أن المنهج الاثنوجرافي كغيره من مناهج البحوث له عيوب من أبرزها أن التطبيق العملي السليم لهذا المنهج يتطلب التالي:
-تدوين بيانات هائلة دقيقة، خلال فترة زمنية طويلة، بواسطة أشخاص مدربين تدريباً عالياً على أساليب الملاحظة. كما أن النتائج صعب تحليلها، وبالنظر إلى كمية البيانات فإنه من الصعب تكرار النتائج.
-البحوث الاثنوجرافية تميل إلى أن تكون أكثر تكلفة من مناهج البحث الأخرى.
-حجم العينة كثيراً ما يكون فرداً واحداً أو فصلاً أو مدرسة واحدة. ولذلك فإن النتائج كثيراً ما تكون خاصة بالعينة فقط.
-بزيادة عدد الباحثين الذين تحولوا إلى البحوث الاثنوجرافية، ومنهم من لم يتدرب على إجرائها، زاد عدد البحوث الضعيفة التي يعتبرها أصحابها خطأ بحوثاً اثنوجرافية، ويتصف هذا النوع من البحوث بأنه مختصر، إذا أن الوقت الذي يقضيه الباحث في موقع البحث قصير جداً.
ويرى علام أيضاً أن من أبرز مزايا المنهج الاثنوجرافي التالي:
-البحوث الاثنوجرافية إذا أحسن إجراؤها يمكن أن تكون بحوثاً قوية توفر للباحث فهماً للبيانات غير متاح في الأنواع الأخرى من البحوث.
-الفرضيات التي تصاغ في البحوث الاثنوجرافية كثيراً ما تكون أكثر صدقاً من الفروض القائمة على النظرية وحدها.

وختاماً

يمكنني القول أن الحاجة لهذا النوع من البحوث تزداد يوماً بعد يوم، فالمتأمل في الميدان التربوي يتضح أمامه قصور البحوث الكمية، عن معالجة العديد من المشكلات التربوية، وذلك لأن المحور الرئيس للتربية هو الإنسان. والطبيعة الإنسانية من الصعب التحكم فيها وفق متغيرات معينة، من خلال البحوث الكمية كما هو الحال في العلوم الطبيعية. كما أن الطعن الإحصائي يقلل كثيراً من قيمة نتائج البحوث الكمية، ولعلي أتفق مع ما ذهب إليه بعض علماء المنهجية من أهمية الجمع بين البحوث الكمية والبحوث النوعية بأنواعها المتعددة، ومنها البحوث الاثنوجرافية في علاج بعض المشكلات التربوية، وفي الوقت نفسه مناسبة البحوث الكمية فقط لمشكلات تربوية محددة، في حين تناسب البحوث الاثنوجرافية مشكلات أخرى.
ويبقى من المهم أن يحرص الباحث على اختيار الأسلوب المنهجي الأمثل، الذي يساعده في حل مشكلته البحثية بكل موضوعية، بما يجعل نتائج بحثه تمثل إضافة حقيقة للمعرفة، تخدم الميدان التربوي بفعالية، وتسهم في تطوير البحث العلمي.


المراجع

– أبو زينة، فريد كامل، الابراهيم، مروان، قنديلجي، عدس، عبد الرحمن، عليان، خليل. (2007م). مناهج البحث العلمي – طرق البحث النوعي. عمان: دار المسيرة.
– أبو علام، رجاء. (2001م). مناهج البحث في العلوم النفسية والتربوية. القاهرة: دار النشر للجامعات.
– السلطان، فهد. (2008م). المنهج الاثنوجرافي، رؤية تجديدية لواقع البحث التربوي. مجلة رابطة التربية الحديثة. العدد الرابع. ديسمبر.
– العوفي، عبد اللطيف. (2002م). البحوث النوعية في الدراسات الإعلامية. الرياض: مطابع التقنية للأوفست.
– ﺯﻳﺘﻮﻥ، ﻛﻤﺎﻝ. (٢٠٠٦م). ﺗﺼﻤﻴﻢ ﺍﻟﺒﺤﻮﺙ ﺍﻟﻜﻴﻔﻴـﺔ ﻭﻣﻌﺎﳉـﺔ ﺑﻴﺎﻧاتها ﺇﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻴﺎﹰ، ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ: ﻋﺎﱂ ﺍﻟﻜﺘﺐ.

البحث في Google:





عن د. مريم محمد الشهري

حاصلة على دكتوراه تخصص أصول تربية، مهتمة باقتصاديات التعليم والبحث العلمي وعضو الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، مشرفة تربوية بوزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية.

4 تعليقات

  1. هنالك خطأ في التوثيق.. راجع مثلا السلطان في النص والمراجع.. أيضا اعتماد كامل على دراسة أو دراستين.

    • مريم الشهري

      المقالة تنوعت مراجعها وليست فقط دراسة أو دراستين كما ذكر الأخ ثامر .
      أتمنى لكم قراءة ممتعة ومتمعنة.

  2. أبو الحمام

    جهد بحثي وتحليلي واضح ومحل تقدير، خصوصا وأن هذا المحور ما يزال مستجدا…
    بارك الله في جهدك

  3. المقال رائع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *