تعليم المفاهيم

تعليم بغير أهداف: تعليم المفاهيم من منظور التربية الناقدة

تعليم بغير أهداف – تعليم جديد للمستقبل
الجزء الثاني: تعليم المفاهيم من منظور التربية الناقدة

بداية أود أن أشكر جميع من تواصلوا معنا بملاحظاتهم وتعليقاتهم على المقال السابق: والذي كان قد تناول فكرة تعليم المهارات ضمن مدخل التعليم ‏بغير أهداف (التعليم الناقد)، ولكن ماذا عن تعليم المفاهيم ضمن هذا المدخل؟ هذا ما سنتعرف عليه سوية في السطور القادمة.

إن ما قدمه “بيركنسون” في كتابه “Teachers Without Goals; Students Without Purposes” ما هو إلا رؤية مغامرة للعملية التربوية التعليمية … ولكننا جميعاً نعلم أن التربية كمؤسسة اجتماعية بطبيعتها تعتبر مؤسسة محافظة وعصية على التغيير، إضافة إلى أن قلب العملية التعليمية هو ذلك التفاعل بين المعلم و المتعلم والذي يعتمد على تفرد المشاركين. ونحن لا ندعو إلى تبني هذه المغامرة دونما دراسة وتمعن، إلا أنّنا يجب أن نوضح للمربيين الذين يتابعوننا ماهية الهدف الملائم للنظرية التي تتبنى فكرة التربية الناقدة والتي يؤكد الكتاب على كونها بلا أهداف، وهو ” ‏كفاية المتعلم الذاتية” ، ومع التسليم بأنّ التعليم في هذا المنحى هو إجراء يعتمد أسلوب تكرار المحاولة و حذف الخطأ، فإن المرء لا يستطيع أن يعرف إلى أين تتجه ‏العملية، كما لا يمكن أن يُحدد لها نهاية، فلا وجود لنقطة نهاية لتطوير المعرفة ولا وجود لاستيعاب كامل لها. ولكننا على أقل تقدير نود معرفة فيما إذا كانت ‏عملية تعديل المعرفة تحدث بالفعل من جانب الطالب أم لا.

1- استمرار المحاولة ليس مجرد تكرار:

لمعرفة الفرق بين تكرار الأداء ” الذي يكرّسه التعليم التقليدي” واستمرار المحاولة لتحسين الأداء ” الذي تدعو له النظرية البديلة التي نحن بصدد دراستها ” نطرح المثال الآتي:

لنفترض أنّ المتعلم يجري تجربة مخبرية، ففي حالة (تكرار الأداء) يُعيد التجربة ذاتها بنفس المدخلات، ويسير وفق نفس الخطوات في كلّ مرة، بحيث يكرِّر الأداء نفسه فيحصل بالنتيجة على نتائج متشابهة غالباً.
أمّا في حالة ( استمرار المحاولة لتحسين الأداء) فقد يقوم المتعلم بعدة محاولات منها مثلاً :

  • يجري المتعلم التجربة بطريقة مختلفة محاولاً الحصول على نفس النتائج وفق طريقة أكثر اختصاراً للوقت، أو أفضل، أو أكثر أماناً فهذا يُعد شكلاً من أشكال تحسين الأداء.
  • يجرب المتعلم استبعاد ما وقع من أخطاء في المرات الأولى ليحصل على نتائج أفضل وهذا أيضاً يُعد تحسيناً للأداء…

إنّ مهارة المتعلم في إجراء التجربة هنا تتحسن وتُنمى باستمرار … ولا نعرف فعلياً إلى أين يمكن أن يصل المتعلم فلا نهاية لتطوير مهارته، ولا يمكن توقع ماذا يمكن أن يبدع في طريقه مع استمرار المحاولة.

2- تعليم المفاهيم وفق النظرية البديلة:

يرى علماء نظرية المعرفة التطورية أنّ مفاهيمنا تتحسن وتتطور من خلال عمليات المحاولة واستبعاد الخطأ المستمرة أيّاً كان مُعدلها، وحينما نكشف عن الأخطاء في محاولة ” الفهم” عندئذ يمكن للمتعلم أن يُعدل ويُغير ذلك الفهم بواسطة استبعاد الخطأ وتعديل مسار التعلم من خلال ما يتلقاه من تعزيز و دعم على ضوء ما تمّ الكشف عنه من نواقص.
حينها لن تكون مادة الكتاب المدرسي هدفاً في ذاتها، إنّما تصبح وظيفة المادة العلمية ” إرشادية توجيهية” تساعد المتعلم على تحسين مفاهيمه وأفكاره. ومن أمثلة ذلك ما قامت به ماريا مونتيسوري من توظيف المادة الإرشادية في تعليم الأطفال الصغار. ففي هذه الحالة ومن منظور “التعليم بغير أهداف” يمكن أن تؤدي مادة الكتاب المدرسي ثلاث وظائف أساسية:

  • تُحدد الخطة الموضوعية والزمنية للمعلم: ” الأجندة” وهي تلك القائمة من البنود التي تتعلق بالطالب بحيث يجعل بؤرة اهتمامه جانباً محدداً من ‏جوانب معرفة الطالب في ‏بعض المهارات أو المجالات. أي أنها تحدد نوع المجالات المعرفية التي يجب أن نُحسّنها عند المتعلم.
  • تُظهر ما يمتلك المتعلم من مفاهيم: لدى المتعلم في أيّ عمر أو مستوى تعليمي مفاهيم و تكوينات نظرية عن المواد العلمية، مع افتراض أنّ مفاهيمه قد تكون ساذجة أولية تفتقر إلى الترابط والتناسق، وهنا يأتي دور مادة الكتاب في الكشف عنها.
  • تُوفر التغذية الراجعة الناقدة لأفكار و مفاهيم المتعلم التي يعرفها بالفعل: إنّ دور المعلم لا ينحصر في نقل المفاهيم، وليس هدف المهمة الناقدة للمعلم أن يُقنع المتعلمين بأنّ المادة المعرفية التي يتضمنها الكتاب تعتبر حقائق كاملة أو تامة، إنّما مهمته استخدامها ليتحدى و يكتشف و يختبر أفكار و مفاهيم الطلاب الراهنة، و يستخدمها أيضاً لمساعدة الطلاب في الكشف عن بعض أوجه الضعف أو القصور فيما يمتلكون من أفكار و مفاهيم.

3- كيف تكون المادة الدراسية توجيهية إرشادية ؟

تتكون المادة من مفاهيم مقبولة من الخبراء في المجال المعرفي المستقى منه موضوع الدراسة، وهي في الحقيقة فرضيات و نظريات ابتدعوها. فعندما يبدأ المعلم بتقديم الموضوع المعرفي المراد تدريسه أو أجزاء منه يؤدي ذلك إلى بعث ما في داخل الطالب من مفاهيم إلى الوجود كما فهمها في داخله، بناءً على ما تضمنته المادة من اعتبارات فكرية و في حدودها.

والجدير بالذكر أنّ كل واحد منا يبحث بطبيعته عن نظام معرفي، إمّا أن يتمثل بما يُقَدَّمُ له من مادة علمية بأيّ طريقة كانت من التقديم، أو يتجاهل ما لا يستطيع تمثّله، وبالتالي نحافظ على توازننا المعرفي. وحتى ننمي توازننا المعرفي نلجأ لقراءة الكتب والمقالات التي تقدم مواد معرفية شبيهة بأفكارنا.

في المدخل الناقد (تعليم بغير أهداف) لا نريد تقرير مفاهيم الطلاب الراهنة، بل نريد تحسينها من خلال مساعدتهم على أن يكشفوا مواطن الخطأ فيما لديهم. لذا قد يُوجه المعلم انتباه الطلاب إلى التركيز على الأفكار التي لا يوافقونه فيها أو لا يجدونها مقنعة أو أن الكتاب يحتوي أخطاء، حتى يقوموا بالنقد بشكل مباشر مع إبراز الأدلة والبراهين، فبهذا يكون النقد الذي يُبرزه الطلبة طريقة للكشف عن أفكارهم بشكل غير مباشر، مما يثير بقية الطلبة على تقديم النقد المقابل مدعماً بالأدلة، و نكون إذن قد أثرنا حواراً ناقداً ليس بين المعلم و الطلبة فحسب، بل بين الطلبة و المادة المعرفية.

4- إذن ماهي مهمة المعلم في هذه البيئة الحوارية النقدية؟

يرى بيركنسون أنّ المعلم يؤدي دور مدير الحوار و القاضي في نفس الوقت، وتتطلب هذه المهمة أن يتجاوز المعلم في مطالعاته المادة العلمية المقدمة في الكتاب المدرسي، بحيث يتوسع إلى مفاهيم ونظريات أخرى تكون مقبولة في المجال المقصود ليستطيع تقديم النقد المضاد.

قد يتساءل بعضهم قائلاً: وهل من المقبول أن ينتقد المتعلم ما هو مُثبت؟ أو هل يمكن أن يكون هذا المُثبت مادة للنقد والحوار حوله؟
ولكننا بالمقابل سنجيب بسؤال:
أليس غالبية إن لم تكن جميع المواد المعرفية المقدمة في الكتب المدرسية من صنع البشر؟ وهل يوجد مجال معرفي صنعه البشر يتصف بالكمال والتمام؟

إنّ الكثير من النظريات كانت متماسكة في زمانها، ولكنّها فيما بعد تراجعت ليحل محلها ذلك النقد الأكثر تماسكاً منها، وهكذا فإنّ الصيغة الجدلية الأكثر قوة والتي يستعملها المعلم الناقد في حواره الجدلي بين الطلبة ليس هدفها إقناع المتعلمين بأنّ حقائق الكتاب تامة، إنّما ينبغي عليه استخدام المادة المعرفية ليتحدى ويكتشف ويختبر أفكار و مفاهيم الطلبة الراهنة، وليُحدد مواطن القصور في أفكارهم.
ويجب أن يتعامل المعلم بجدية مع نقد الطلبة، ويُعيد صياغته ليجعله أكثر قوةً بالقدر الممكن، ليُحفّز من لم يقدموا نقداً، ويُثير أذهانهم للمشاركة في ساحة الحوار، حتى يستمر الحوار ثرياً متدفقاً، ولكي يُحقق بالنتيجة نمواً لمعرفة المتعلمين.

في الجدول الآتي تجدون أعزائي المعلمين أوجه الشبه والاختلاف بين “التعليم ذو الأهداف المحددة” و”التعليم الناقد بغير أهداف”:

مقارنة التعليم التقليدي و الناقد

 

5- مشكلات التعليم التقليدي ومقترحات حلها من منظور التعليم الناقد:

مشكلات التعليم التقليدي

أ- مشكلة الدافعية

إنّ المعلم التقليدي بحاجة دوماً لإثارة دافعية المتعلم حتى يتمكن من استقبال المعرفة ويتقبل ما يُقدم له. بينما في حجرة الدراسة الخاصة بالتعليم الناقد ليس ثمة ضرورة لإثارة دافعية المتعلمين، لأنّ الاهتمام يكون منصباً على مساعدتهم على تحسين معرفتهم، وسوف يُمارس المتعلمون هذا الأمر بمجرد أن يكتشفوا بأنفسهم أوجه القصور والخطأ، لأنّهم مزودون بجهاز داخلي طبيعي يُحذرهم من فقدان التوازن المعرفي. وبما أنّ البيئة الناقدة بيئة مُعلّمة مُربية مدعمة بشكلٍ كافٍ، فإنّ فقدان التوازن لن يجعل المتعلمين قلقين، بل سيقودهم ذلك الشعور نحو تحسين معرفتهم، فهذا بحدِّ ذاته كافٍ، ولا حاجة لإجراءات إثارة الدافعية.

ب- مشكلة مقاومة التعلم

يُعاني التعليم التقليدي من مشكلة مقاومة المتعلمين للتعلم، وأهم أعراضها رفض التعلم والشكوى منه و الفشل … وقد يساعد التعليم الناقد على التقليل من أعراض هذه المشكلة، وذلك لأنّ المُعلم لا يفرض على المتعلمين المعرفة، مع العلم أنّهم قد يقاومون النقد و يرفضون الاعتراف بالنقص المعرفي الذي يُعانون منه. لذا ينبغي على المُعلّم ألّا يؤكد على هذه الناحية بتوفير بيئة مُعلّمة مُعززة بحيث لا يُثير النقد مقاومة من قبل المتعلمين.

ج- مشكلة صلابة المادة الدراسية

يُبنى التعليم التقليدي على أسس جامدة أهمّها مادة الكتاب المدرسي، فنرى المعلّمين يُركّزون على تقديم المادة الدراسية وفق تسلسل ثابت للمفردات الواردة فيه، وتتابع لا يُخرق في كل فصل، مهما تغيرت أنماط المتعلمين واهتماماتهم ومواطن قصورهم المعرفي، مما يُثير ملل المتعلمين، ويقلل دافعيتهم نحو التعلم، ويزيد رفضهم لتقبل المعرفة.
في المدخل الناقد ليس هناك مادة دراسية مستقرة محددة بأساسٍ صلب، لأنّ المعرفة ليست بناءً يحتاج لأساس يُثبّته، بل هي أشبه ما تكون بالكائن الحي، تتكيف وتتلاءم مع معطيات البيئة. ولكنّها في النهاية بحاجة لنقطة بداية يختارها المعلم بدقة، ولا يمنع أن تكون خطته التربوية التعليمية متوافقة مع تتابع المادة الدراسية، ولكن بالنتيجة. ولأنّه ليس بالإمكان الجزم بالتسلسل الذي تنمو وفقه معرفة الطلبة، سيعمل المعلم على تعديل خطته تبعاً لمستويات أداء الطلبة، فالمعلم لا يستطيع أن يعرف في البداية الأفكار و مستويات الأداء عند الطلاب، لأنّه سوف يعمل على بعثها من داخلهم إلى الممارسة، ثمّ تنتقد وصولاً إلى تعديلها، وتحسينها.

6- التعليم التقليدي لا يشجع النمو المعرفي المستمر …. لماذا؟

يذكر هوارد جاردنر أنّ التعليم التقليدي لا يُشجع على النمو المستمر للمعرفة عند المتعلم سواءً على مستوى المهارات أو المفاهيم و ذلك عائد لسببين:

  • إنّ تحديد الأهداف الخاصة بأداء المهارات يتضمن إنشاء سقف لنمو المهارة، وسقف لتحصيل المفهوم الصحيح، كما أنّ المتعلمين أنفسهم سيتكون لديهم اقتناع بأنهم أتقنوا المهارة أو حصلوا على المفاهيم الصحيحة للمادة التعليمية، مما سيؤدي بالطبع إلى إعاقة نمو المعرفة.
  • لا يُشجع التعليم التقليدي على تكوّن النقد الذاتي عند المتعلمين والذي يمثل مفتاح نمو المعرفة، فيبقى المتعلمون مشدودين لإعلان السلطة التعليمية بأنّ أداءهم صحيح ومطابق للمعايير المُعدة سلفاً.

7- ولكن كيف نُعالج أزمة النزعة السلطوية للتعليم؟

يحاول المعلمون في الغالب التبرير والبرهنة على أنّ ما يقدمونه صحيح، ويقنعون المتعلمين بأنّ هذه المعرفة صحيحة باستخدام ألفاظ مثل” أثبتت التجارب” و”كشفت النتائج”، ويُعلّمونهم بأن يرفضوا كلّ ما لا يمكن تسويغه. ومع ذلك يُعاني المعلمون من الطلاب ذوي الكفاءة الذهنية العالية، والذين لا يفتؤون يُوجهون أسئلة تستنكر التبريرات، حيث تستمر التسويغات والتي تُغلَق بالاستشهاد بمرجعية المعرفة ” مرجعية الخبراء” أو مرجعية سلطوية ” فالمعلم كلّ ما يقوله صحيح!
عند القبول بأنّ الخطأ جزء من الطبيعة البشرية، سنمتلك قناعة بأنّ ما لدينا من معرفة ليست كاملة أبداً، وبالتالي لن تكون هناك نماذج لمهارات قابلة لأن تُقلَّد أو تُحاكى، وليست ثمة أفكار أو مفاهيم صحيحة بالمطلق.
و بالتالي عندما يُقدم معلم المدخل الناقد المهارات والأفكار والمفاهيم إلى التلاميذ، فهو لا يطلب منهم أن يقبلوا هذه المعرفة لجعلها معرفتهم الخاصة، إنّما باعتبارها مادة تعليمية تساعد على تحسين معرفتهم.

8- عندما نسمع بنظريات جديدة تقدم علاجاً للأمراض المستعصية في جسم التعليم، نتساءل هل هذه الأفكار جربت في ‏السياق الواقعي للعملية التعليمية؟ ‏وهل تراعي واقع الحجرة الدراسية؟

من الجدير بالذكر أنّه بالرغم من كون المؤلف “بيركنسون” يسعى لإيضاح مميزات النظرية البديلة وقدرتها على حل مشكلات العملية التعليمية، إلا أنّه من ناحية أخرى لا يُهمل ما تنطوي عليه الحجرة الدراسية من حقائق نذكر بعضها:

  • حجرة الدراسة أكثر من مجرد مجموعة من الطلبة، فهي مجتمع من الناس يتواصلون مع بعضهم البعض ويمارسون نشاطات، لذا يجب أن يدرك المدرسون جيداً احتياجات طلابهم وخصائصهم الاجتماعية والشخصية والعلمية.
  • يقضي الطلبة معظم يومهم في الحجرة الصفية وكذلك الحال بالنسبة للمعلمين، حيث يبقون معزولين، وقلما يتفاعلون مع زملائهم. فهذه العزلة التي يُعاني منها المدرسون تمنعهم من أن يحددوا مدى نجاح تدريسهم، فلا يمكن تحديد القواعد التربوية والتعليمية التي يتم على ضوئها تقدير النجاح. لذا يُضطر المعلمون إلى تحديد معايير و محكات يحتكمون إليها في تقييم نجاح نشاطاتهم.

ولكي يتمكن المعلمون من تطبيق التربية الناقدة ينبغي أن يضطلعوا بالعديد من المسؤوليات، ويشاركوا في كثير من النشاطات بفعالية، فينشؤون بيئات تعلّمية يشعر فيها الطلاب بأنّهم أحرار في الكشف عن مستوى أدائهم، وفي تكوين بيئة تعليمية متحررة من الأحكام التقييمية المسبقة، والنقد القاسي، بيئة يُساعد المعلم فيها الطلاب للتعرف على أخطائهم وجوانب القصور، ويترك لهم فرصة التعرف على النتائج الحقيقية لما يقومون به، وأن يدركوا أنّهم لا يعرفون الأداء التام أو الكامل الذي لا يعتريه النقص. ولا يوجد في هذه البيئة نتاجات و معايير محددة ولا أنواع الأداء المتوقعة.

فالمعلم في هذه البيئة هو: المُحاور، المُفسر، الحكم، المُجتهد، و العارف بمنطق مجال موضوع المناقشة، و صانعٌ للقرار وناقدٌ للمعرفة.

هل يمكن إيجاد معلمين بالغي الدقة، وذوي قيم ومعرفة، ومتمكنين من الربط المنطقي بين موضوعاتهم وبين المعرفة التي يتمّ الكشف عنها عند طلابهم، هل يمكن إيجادهم بسهولة ليُنشؤوا البيئة التعلمية الناقدة المطلوبة!!؟؟
في الواقع، يعتبر هذا أمرا بحاجة لبحث علمي موسع، وهو مبحث صعب بل شديد الصعوبة.
أمّا إذا تساءلنا هل من الممكن أن ننمي السمات الملائمة لتطبيق التربية الناقدة المجردة من الأهداف و المعايير عند المعلمين!؟
فالإجابة قد تكون أنّ ذلك ممكن، ولكن ليس قبل أن تتوفر كيانات وبنى معرفية أفضل تساعد في تنمية وتطوير مفاهيم عالية المستوى…

9- خاتمة:

بالرغم من أنّ غالبيتنا غير راضين تمام الرضى عن الوضع الراهن للتعليم، إلا أنّنا لا ننكر كون ما يدعو له “بيركنسون” هو دعوة مروّعة تقض مضجع المرء لأول وهلة، لأنّه يضعنا أمام قضية خلافية تمثل تحدياً واضحاً لمسلمات قائمة بالفعل عند العاملين في مجال التعليم، وفي مقدمة تلك المسلمات أنّ المعلمين من واجبهم أن يحددوا لتلاميذهم أهدافاً يسعون إلى تحقيقها. كما أن المعلمين لا يمكن أن يقيسوا فعاليتهم إلا على ضوء أهداف وغايات تعليمية وتربوية واضحة.
كما ينبغي ألا ننسى الفرق بين النظرية والتطبيق، وبين ما هو ممكن و ما ليس بالإمكان. فلو تمكّنا من تطبيق النظرية في بعض الصفوف و بعض المراحل الدراسية على مستوى المهارات أو حتى المفاهيم، ستظل التربية الناقدة تثير بعض المعضلات فيما يتصل بمسألة تقييم الطلاب والمعلمين على السواء. فالتقييم المحتمل في الغالب سيكون وصفياً، معتمداً على أمثلة أو نماذج من أداء كلّ طالب على حدة، أكثر من اعتماده على اختبار مجموعة من الطلاب وفق قواعد و إجراءات ضابطة. وقد تكون الاختبارات الفردية مناسبة أكثر للكشف عن مدى تحسن معرفة الطالب على المدى الزمني المطلوب، وهي بذلك تكوّن تقييماً جديراً بالثقة.

ولكن بالرغم من كلّ ما تقدم، يعتبر هذا النوع من التقييم أكثر صعوبة من الاستمرار في الوثوق بالاختبارات الموجهة بقاعدة من الأهداف التعليمية والتربوية، وذلك لأنّها ممكنة التطبيق.
كما إنّ المدخل الناقد لا يؤدي أبداً إلى معرفة يقينية، لأنّه فقط يكشف عن جهلنا، ويُعيننا على الوعي بأنّ ما فكرنا فيه بأنه صواب ليس كذلك. إنّ هذه الدعوة ربما تساعدنا من ناحية هامة، وهي أن نعمل جاهدين كمعلمين على جذب المتعلمين إلى الحوار الناقد، وأن التعليم لا يمكن أن يتحسن أو يتجدد إلا إذا وضع أكثرنا نصب عينيه ما نادت به ” جوان بير شتان” :

“علينا أن نصير أكثر تفكيراً في ممارساتنا”

البحث في Google:





عن أروى نادر بنيـان

مُدرسة علم أحياء و باحثة في التربية والتعليم،مشرف الفريق الوطني السوري لتصميم المناهج التفاعلية الإلكترونية سابقاً، عضو مُشارك و مُقرر في لجان تأليف المناهج الدراسية لمادة علم الأحياء في المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية.مُدوِنة في مجال التربية والتعليم مُتخصصة في التصميم التعليمي الإلكتروني و إستراتيجيات التعلم الحديثة.

7 تعليقات

  1. عبد الإله العريبي

    شكرا على الموضوع القيم، فعلا نحن في حاجة للتعليم الناقد.

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ونحن في خضم التغيرات الانفجارية في عصر التقنية نحتاج إلى كل ماهو جديد ليس فقط للمطالعة والمناظرة ، بل نحتاج إلى التجريب وتطبيق ماهو جديد للحكم عليه .
    أجد بان هذه الاطروحات قيمة جداً ورائعة لعلنا نجد بها مايتناسب مع الجيل القادم ” جيل المستقبل”
    بارك الله فيكم ولكم وجزيتم خيرا

  3. مقال مفيد للغاية شكرا

  4. ابدعتي والى الامام

  5. أحمد محمود عبد الباقي

    نظرية (تعليم بغير أهداف) لا يعدو أن يكون مجرد إلقاء حجر في ماء راكد! فالمؤسسات التعليمية لا سيما في عالمنا العربي عصية على التغيير كما أشارت لذلك الكاتبة؛ إلا أن مثل هذه النظريات قد تحرر العقل التربوي مما اعتاده من نمطية التفكير تجاه التعليم والتعلم. ومما لا شك فيه أن المؤسسات التعليمية ما زالت عاجزة عن مواكبة التغيرات الهائلة التي تحدث في العالم من حولها،ففي عصر الثروة المعلوماتية والتكنلوجية ما زال هناك من يتردد في جدوى استثمار هذه الثروة وتوظيفها في مجالات التعليم والتعلم،وظلت الحجرة الدراسية محتفظة بهيئتها التي كانت عليها منذ أكثر من قرن!إن مثل هذه النظريات ينبئ بالتغيير القادم ، وربما تكون بداية لتغيير حقيقي في الفكر التربوي ليقود المستقبل.
    مع شكري وتقديري للأستاذة أروى على هذا الانتقاء الجيد.

  6. عبد الله سك

    نستحسن جميع الأنشطة العلمية التي تقومون بها ونقدرها تقديرا ممتازا كما نشجعكم بمواصلة أعمالكم القيمة
    إن عملية التعليم في الوقت الحالي بحاجة ماسة إلى التجديد مواكبة للمستجدات التكنولوجيا لما لها من علاقة وطيدة بالتعليم واسباعا لمتطلباتها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *