كتاب سكينر

من أفكار سكينر حول تكنولوجيا السلوك البشري

يطرح كتاب سكينر  “ما وراء الحرية والكرامة”، الذي صدر في عام 1976، قضايا مشابهة نوعا ما لتلك التي طرحتها رواية “والدن تو Walden Two” فهذا الكتاب ليس ضربا من ضروب الخيال، ولكنه دراسة حول حاجة المجتمع إلى التكنولوجيا السلوكية ( أو الهندسة السلوكية) و المشكلات التي قد ينطوي عليها تطوير مثل هذه التكنولوجيا.
سنبحث من خلال هذا المقال في بعض القضايا الرئيسة التي يتناولها الكتاب. وعلى القارئ المهتم بآراء سكينر بالتفصيل أن يرجع إلى كتاب ” ما وراء الحرية والكرامة”.
يشير سكينر إلى أن تطورات هائلة حدثت في العلوم المختلفة مثل علم الحياة وعلم الفيزياء، الأمر الذي سمح بتطوير تكنولوجيا بالغة التعقيد فيما يتعلق بأساليب منع الحمل، الأسلحة، الزراعة، الطب، وغير ذلك. ولكن تكنولوجيا السلوك لم تشهد سوى تطورا محدودا نسبياً. فقد كان انبثاق علم السلوك الانساني الذي يمكن أن تُستمد منه التكنولوجيا السلوكية بطيئاً للغاية، ولهذا تبقى المؤسسات الحكومية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية الأُخرى حيث كانت، دون أي تحسن ملموس عبر السنين. وفي الوقت الحاضر تطور هذا العلم باستخدام تكنيكات تعديل السلوك المستندة إلى مبادئ سكنر وزملائه، وهذا يشكل دفعة قوية لتكنولوجيا السلوك.

لماذا تخلف علم السلوك عن العلوم الأُخرى؟

في رأي سكينر أن السبب الرئيس وراء ذلك هو أننا نفتش عن أسباب السلوك في غير مكانها. فنحن نميل إلى البحث عن أسباب داخلية، تكمن داخلنا: النيات، الأهداف، القرارات، الغايات، القيم، الخطط، وما إلى ذلك، إذ يتم النظر إليها جميعا على أنها القوى المحركة لأفعالنا. وفي محاولتنا لتفسير أسباب سلوك الناس فنحن نركز على المشاعر وحالات العقل، ولكننا قليلا ما نهتم بالظروف البيئية السابقة أو الحالية. ويعتقد سكنر أن هذه الظروف تشكل الأرضية التي يجب تشييد علم السلوك عليها.

و لماذا نستمر في التأكيد على الدوافع الداخلية للسلوك بدلاً من التعمق في تحليل الأسباب البيئية؟

يقترح سكينر سببين رئيسين لذلك هما:

  1. بما أن لدينا مشاعر، ومشاعرنا قوية وفورية في معظم الأحيان، فهي تبدو على أنها هي سبب السلوك.
  2. إن المؤثرات البيئية في السلوك غالباً ما يكتنفها الغموض، فهي ليست واضحة ومن الصعب ملاحظتها، و لذا فمن السهل تجاهلها.

وليس من الصعب تفهم الأسباب التي تدعونا إلى الاعتقاد بأن المشاعر تسبب السلوك. فهي تحدث فوراً داخلنا، وكثيراً ما تكون عنيفة و تصاحب أفعالنا. لذا فإنه لأمر مثير للدهشة إذا لم نعتقد بأنها تسبب سلوكنا. ولكنها، في رأي سكنر، مجرد نواتج لذات الظروف البيئية التي تشكل سلوكنا؛ و سنقدم مثالا بسيطا في هذا الصدد:

المثال:

إنك إذا عززت بالثناء و الموافقة على قيامك بشيء ما، فأنت لا تصبح أكثر قابلية لعمل ذلك الشيء فحسب، ولكنك ستشعر بالارتياح أيضاً. ومن ناحية ثانية، فإذا ما عوقبت على قيامك بشيء ما، فعلى الأغلب أنك ستشعر بالذنب، أو الاستياء، أو الغضب، أو أي انفعالات أُخرى اعتماداً على خصوصية الظرف. إن النقطة الهامة التي يوضحها سكينر أن ” الشعور بالارتياح” و ” الشعور بالذنب” لا يسببان السلوك، فهذه المشاعر نتاج للعوامل البيئية كالتعزيز والعقاب، مثلها في ذلك مثل السلوك الظاهر تماماً.
إن أثر البيئة على السلوك كثيراً ما يكون غامضا، ولذا فهو لا يشكل بالنسبة لنا تفسيرا بديلاً واضحاً. فآثار البيئة غالباً ما يساء فهمها. فسكنر لا يرى أن البيئة تحركنا إلى الأمام أو إلى الخلف، ولكنها تختار بعض الأنماط السلوكية بسبب نتائجها. فالسلوك يُختار ( أي تزداد احتمالات تكراره) إذا عُزز.
إننا نُظهر العديد من الأنماط السلوكية في حياتنا ولكن بعضا منها فقط يصبح جزءاً من أنماطنا السلوكية الراسخة. وهذه هي الأنماط التي لها نتائج تعزيزية ( أي أنها معزِّزة ايجاباً أو سلباً).
إن هذه الطبيعة الانتقائية للبيئة غالباً ما تعمل بطريقة غير واضحة، أي أنها لا تتضح بقوة كبيرة كما هو الحال بالنسبة لمشاعرنا، لذا فإن معظم الأثر الضابط للبيئة لا تتم ملاحظته، في حين أننا نركز على المشاعر وهي أكثر وضوحا (وهنا يشير سكينر إلى التماثل بين نظرية داروين في النشوء والارتقاء ونظريته الخاصة، فنظرية النشوء والارتقاء تركز على الطبيعة الانتقائية للبيئة فيما يتعلق بالخصائص السلوكية).

إن إدراكنا لحقيقة أن البيئة تختار السلوك اعتماداً على طبيعة نتائجه يقودنا إلى:

  1. نبذ التفسيرات المعتمدة على المشاعر وحالات العقل الداخلية الأُخرى والعمل على تحليل أثر العوامل البيئية بعناية.
  2. أن التغيرات السلوكية المرجوة تحدث نتيجة لتغيير الظروف البيئية التي يتعرض لها الأفراد.

ويشير سكينر أنه سار على هذا الدرب هو وزملاؤه، وأن تطورات هائلة قد حدثت في السنوات القليلة الماضية فيما يتصل بتطوير التكنولوجيا السلوكية. وما يقف في طريق استخدام هذه التكنولوجيا هو بعض الأفكار التقليدية السائدة في مجتمعنا والتي تطغى على نظمنا القانونية والاقتصادية والتربوية والمؤسسات الاجتماعية الأُخرى. وتتصدر فكرة استقلال الفرد قائمة الأفكار التي تعيق تطور التكنولوجيا السلوكية واستخدامها. وتتضمن فكرة استقلال الفرد ” الحرية” في اختيار أو تقرير ما يتم القيام به، و ” الكرامة” أو “القيمة الشخصية” التي تمنح للإنسان الذي يتغلب على الصعاب بنجاح أو يحقق نجاحات باهرة.
إن الجدل الذي ينشأ عن تحدي الحرية والكرامة يحول دون تقييم فوائد التكنولوجيا السلوكية بموضوعية. فعنوان الكتاب ” ما وراء الحرية والكرامة” يشير إلى القضية المركزية التي يعتقد سكنر أن تبني التكنولوجيا السلوكية يتضمنها. فهو يقترح علينا أن نذهب إلى مفاهيم الحرية والكرامة التقليدية، أو التوقف عن العمل وفقا لمفهوم الاستقلال الذاتي. وأنه علينا دراسة الظروف البيئية و تنظيمها على نحو يقلل من الاكتظاظ السكاني و تفشي الأمراض و التلوث البيئي و العلل الاجتماعية الأُخرى، و يزيد من السلام و الصحة و المحافظة على المصادر الطبيعية و الأهداف الاجتماعية النافعة الأُخرى.

وطالما نظرنا إلى الإنسان على أنه مخلوق مستقل يمتلك حرية تقرير مصيره، و تعتمد كرامته أو قيمته الشخصية على الأفعال الجيدة التي تصدر عن طبيعته الداخلية الخاصة، فإن العوامل البيئية الضابطة لن تحظى بقدر كاف من الانتباه. ولهذا، ستفوتنا فرص تطوير مجتمع أقوى وأحسن حالا وذلك بتحسين الظروف التي تؤثر على سلوكنا.
وفي مناقشته للحرية، يشير سكينر إلى أنه ينظر إليها في العادة على أنها حالة من الفعل أو الشعور، وينظر إلى الناس عموما على أن لديهم الإرادة ليكونوا أحراراً. ولهذا فهناك تأكيد على الحاجة إلى التخلص من الضبط المنفر ليصبح الإنسان حراً في أن يعيش الحياة التي يرنو إليها. ولسوء الحظ فإن هذا التعليل يقودنا و بسهولة إلى الاستنتاج بأن كافة أشكال الضبط سيئة، و إلى تجاهل أو رفض إمكانية ضبط الظروف الاجتماعية لتحقيق الأهداف النافعة. وفي رأي سكنر، فإنه علينا عدم الاكتفاء بتحرير الناس من الضبط المنفر ( وهو يوصي به أنصار الحرية)، ولكن علينا أن نخطو الخطوة التالية فنخلق الضوابط التي ستترتب عليها نواتج ايجابية. فإذا بقينا نشعر بالتهديد من جميع أشكال الضبط، فإننا نخسر الفوائد التي تستطيع التكنولوجيا السلوكية تزويدنا بها.

إن مفهوم ” الكرامة” التقليدي، والذي يشتمل على النظر إلى الناس على أنهم جديرون بالاحترام عندما يفعلون ما يستحق التقدير، هو الآخر مفهوم تهدده التكنولوجيا السلوكية. فمن وجهة نظر سكنر، فالسلوك كله تحدده العوامل الجينية والبيئية، وليس هنالك ” سلوك متميز” ينبع من أعماق الشخصية المتميزة للإنسان. وبمعنى آخر، فإن ما نفعله ( سواء أكان متميزا أم لا ) هو من وجهة نظر سكنر نتاج ظروف ( جينية وبيئية) لا نسهم في اختيارها أو تقريرها، ولذا فمن غير المناسب إرجاع الفضل للإنسان وكأنه يتصرف كما يشاء. وقد اعتدنا تكريم الآخرين على إنجازاتهم و إرجاع الفضل لهم، و التماس تكريم أنفسنا إلى درجة كبيرة بحيث تبدو اقتراحات سكنر اقتراحات غريبة.
وفي الحالات التي يُعطى فيها الفضل أو يُؤخذ بسبب الإنجازات ليست واضحة بسهولة. فثمة أمثلة عديدة على السلوك البطولي، والفني والابتكاري والدؤوب، والذي يبدو أن التفسير الوحيد الذي يُقدم له هو وجود خاصية متميزة للبطل والفنان والمبتكر والعامل الذي يعمل بجد. أما العلم السلوكي الذي يتبناه سكنر فيهتم بدراسة الآليات التي تستخدمها البيئة لتشكيل هذه الأنواع من السلوك. فافتراضه الأساسي هو أن الظروف البيئية، مهما كانت دقيقة أو غير واضحة، تؤثر على السلوك. وإذا اكتُشفت الظروف البيئية ذات العلاقة، فإن هذه المعرفة يمكن استخدامها لتحقيق المزيد من الإنجازات الاجتماعية المفيدة. إلا أن المسألة تصبح صعبة اذا رفضنا هذا المنحى لأنه يبدو و كأنه يقلل من كرامتنا.
إن سكينر يرى أننا لا نريد حقا اكتشاف الظروف الخارجية المسؤولة عن أفعالنا ” الجديرة بالاحترام” لأنه لا يكون باستطاعتنا أن نعزو أسباب النجاح إلى أنفسنا، ولذلك فإن شعورنا ” بالقيمة الشخصية” على النحو الذي ندركه حالياً، سوف يضعف. وهذا الموقف يسد الطريق في وجه التكنولوجيا السلوكية القادرة على تحقيق المزيد من الإنجازات الإنسانية.

وفي كتاب، ما وراء الحرية والكرامة، يعرض سكينر لقضية أُخرى كان قد ناقشها في رواية ” والدن تو” ألا وهي دور العقاب في المجتمع.. فهو يعود و يُذكِّر بأن الناس يحاولون التأثير في بعضهم باستخدام الأساليب العقابية المختلفة مثل التهديد، والمقاطعة والسخرية والانتقاد أو الإيذاء البدني. وكذلك فإن المؤسسات الاجتماعية بما فيها المؤسسات الحكومية و الدينية، والأشخاص الآخرين يستخدمون غالباً العقاب ( أو التهديد بالعقاب) كوسيلة لكبح السلوك غير المرغوب فيه.

ومع أن العقاب يكون غالباً فاعلا على المدى القصير، وقد يستمر في كبح السلوك ما دام مُستَخدِم العقاب موجوداً ( أو إذا كان العقاب شديداً للغاية)، يشير سكنر إلى أنه أسلوب فاشل على المدى البعيد. فهو لا يزيل النزعة نحو السلوك بطريقة تتم معاقبتها، فالشخص المُعاقَب تبقى لديه الرغبة في القيام بما عوقب من أجله، وعلاوة على ذلك، فإن استخدام العقاب قد ينجم عنه التجنب أو التهرب. فالناس الذين يُعاقَبون أو يهددون بالعقاب يسلكون الطريق الذي ينقذهم من العقاب: فالطالب قد يتغيب عن المدرسة، والعامل قد يقدم استقالته أو يتمارض، والزوج والزوجة قد يهجر أحدهما الآخر، وما إلى ذلك. ومن الأمثلة الجديدة الأُخرى التي يتحدث عنها سكنر هي القوانين التي تعتمد فاعليتها على الإجراءات العقابية و الضبط المنفر. فالسرعة القانونية مثلا، يتم الحفاظ عليها أساساً بمخالفة السائق الذي يتجاوزها، أو بالتهديد بالمخالفة، أو بمجرد وجود شرطة المرور، أو بالتلميح بأن أجهزة معينة تستخدم لهذا الغرض، وفي غياب هذه الظروف كثيرون هم من يتجاوزون السرعة القانونية. وكذلك فقد يستخدم السائق تكنيكات مختلفة لتجنب العقاب المتمثل في الحصول على مخالفة.

و لعل تطبيق مبادئ سكينر يقودنا إلى استخدام أساليب مختلفة للحفاظ على السرعة القانونية تشمل تعزيز تخفيف السرعة ايجابياً. وقد تبدو الفكرة بعيدة الاحتمال، ولكن لعل المسؤولية الأساسية التي يجب إلقاؤها على عاتق شرطي المرور هي الانتباه إلى من يتقيدون بأنظمة السير والتعبير عن الارتياح لذلك ( بدلاً من توجيه كلمة نابية للسائق أو مخالفته). إضافة إلى ذلك، فمن الممكن إصدار رسائل شكر وتقدير ( على الرغم من أن فاعلية هذا النوع من التعزيز قد تكون محدودة لأنه ليس فورياً. فكلما كان التعزيز مباشرا كانت فاعليته أكبر). وطريقة أُخرى قد تكون مفيدة، هي وضع علامات على جهاز السرعة في السيارة تشير إلى كمية البنزين المستهلك في الميل الواحد، بحيث تُعَزَّز السرعة المعقولة مباشرة وذلك بإعطاء مؤشر على أن كمية البنزين المستهلك جيدة.

و عودة إلى رأي سكينر في العقاب، فهو يقترح إمكانية بناء مجتمع لا يحدث فيه السلوك الذي يستحق العقاب أو أنه يحدث نادراً فقط. بمعنى آخر، إذا كان للتكنولوجيا السلوكية أن تضبط السلوك بأساليب غير عقابية، فإن السلوك المرغوب فيه سيصبح شائعا ولن يكون هناك حاجة للعقاب.
و يشير سكينر على أن هذا الاقتراح لا يقبله أولئك الذين يؤمنون بحرية الاختيار والذين يقبلون بفكرة الكرامة الإنسانية المستمدة من تحكم الانسان بإنجازاته ذاتيا. وبكلمات بسيطة، فإن الاعتراض هو أنه إذا كان السلوك الجيد للإنسان نتاج الظروف البيئية، ما الذي يحدث لحريته في اختيار ما هو جيد، وكيف له أن يكرم على السلوك على نحو جيد؟
مرة أُخرى، تظهر فكرة الاستقلال الشخصي في الصورة، وتدعم واقع الأمر -بطريقة غير مباشرة- استمرارية الأساليب العقابية. ففي مجتمع يمارس العقاب، إذا تصرف الناس على نحو جيد، فذلك لأنهم اختاروا أن يكونوا جيدين وهم يستحقون التكريم. وما يتضمنه ذلك هو: ” إذا لم تتحمل المسؤولية الشخصية عن سلوكك ولم تتحكم بنفسك بطريقة مناسبة فسوف تُعاقَب. إن الخيار خيارك، وإذا أحسنت التصرف فذلك يعني أن شخصيتك قوية وأنك جدير بالاحترام”.
و يعتقد سكينر أن هذه الطريقة غير فعالة نسبياً لحث الناس على السلوك على نحو جيد ( كما يتضح لنا بمجرد النظر إلى كل الأنماط السلوكية غير المقبولة التي يبديها الناس). وعلى أية حال، فهي تتيح لأنصار الحرية والكرامة إمكانية الشعور بالراحة، لأن الناس يبدون و كأنهم يمتلكون حرية اختيار عمل الأشياء الجيدة أو عدم عملها، وبالتالي فإن من يحظى بالتقدير هم الذين ” يتخذون القرارات المناسبة”. و إذا ما بدأنا بتطبيق تكنولوجيا سلوكية فاعلة وغير عقابية، و تصرف الناس على نحو جيد بسبب تنظيم الظروف البيئية، فلن يكون هناك ” مسؤولية شخصية” عن السلوك الجيد، أو “الحرية” لاختيار السلوك الجيد أو “تكريم” للناس على إنجازاتهم.
و بالطبع، فإن ذلك لا يعني أن الشعور بالمسؤولية والحرية والكرامة سوف يتلاشى، ولكنه يعني ببساطة أن الاعتماد التقليدي على هذه المفاهيم التي تطغى على المجتمع حاليا سيتم استبدالها بالأساليب السلوكية. وكما أشار سكنر مرارا وتكرارا، فإن عماد منهجه السلوكي هو التعزيز الايجابي، فهذا هو أسلوبه المفضل لضبط السلوك، وهو في رأيه، لا يحث الناس على القيام بالسلوك الجيد فحسب، ولكنه يجعل شعورهم جيداً أيضاً.

إن سكينر نفسه يعتقد بأن سلوكه هو نتاج بيئته، وهو لا يرى نفسه مستثنى من قواعد علمه في السلوك. وعلى الرغم من حقيقة أنه نتاج ظروفه البيئية ( مثلا، النواتج التعزيزية لبحوثه وكتاباته) إلا أنه يشعر بأنه حر. وهذا الشعور بالحرية لا يعتمد في الحقيقة على كونه حراً فعلاً ( فسكنر لا يعترف بهذا الشيء)، ولكنه ينشأ عن البيئة المعززة ايجابياً.
وهكذا، ففي المجتمع السكينري المستخدم لتكنولوجيا السلوك فإن الناس سيشعرون بالحرية أيضاً و بالكرامة و بالمسؤولية، على الرغم من أن سلوكهم ليس حراً فعلا ( نقطة هامة: يعتقد سكنر أن سلوكنا تتحكم فيه بيئتنا اليوم و ستتحكم فيه غداً، ولذا فإن الهدف يجب أن يتمثل في تصميم الظروف البيئية البناءة غير العقابية التي ستؤدي إلى تحسن الفرد و المجتمع و المشاعر أيضاً).
وفي المجتمع الذي يلجأ للعقاب بكثرة للتحكم بسلوك الأفراد، فإن قدراً كبيراً من الوقت والجهد يذهبان هباءً بسبب محاولة الناس الهرب من العقاب أو تجنبه ( وبالطبع، فالعقاب يولد مشاعر سلبية لدى الانسان المعاقِب أيضاً). وهذا يضعف المجتمع، فالمجتمع القوي هو ذلك الذي يستخدم التعزيز الايجابي على نحو مدروس لتشكيل السلوك البناء والنافع وللمحافظة على استمراريته).
و في مجتمعنا، رغم أن العقاب يستخدم بكثرة، إلا أن هناك عدداً غير قليل من الأشخاص الناجحين الذين يحققون ذواتهم ويسهمون في بناء مجتمعهم. ولكن هل نكتفي بذلك؟ كذلك، أليس هناك نزعات مضادة ( مثل: تلوث البيئة، وانحراف الأحداث، والجريمة، والبطالة) تحتاج إلى تصحيح لكي لا ينهار المجتمع؟ إن التكنولوجيا السلوكية التي يقترحها سكنر تهدف إلى تحسين ظروف المجتمع باستخدام منحى منظم و علمي. بمعنى آخر، إن خطة سكنر لا تترك الأمور للصدفة. ومع أن بعض الأشخاص المحظوظين يتعرضون حالياً لظروف بيئية مواتية، فإن سكنر يقترح توسيع هذه الظروف. وإذا كان سكنر مصيباً، وإذا نُفِّذت خطته على نطاق واسع، فسوف تتفجر الطاقات الإنسانية إلى مستوى يفوق بكثير مستوى الآمال الحالية.

وفي مناقشته لقضية بقاء الثقافة على المدى البعيد، يؤكد سكنر على أهمية حث الناس للمحافظة على بقائها. فهو يقترح أننا لا نستطيع الاعتماد على القرارات الحكيمة، والاهتمام والانتماء، أو الحالات العقلية والانفعالية الأُخرى، لتنقذنا. ولكن الأفكار البناءة، والمشاعر الحماسية ( والأهم من ذلك كله) الأفعال التي تصون الثقافة، تعتمد جميعها على كيفية توفير الثقافة للمعززات الإيجابية والسلبية، مع التركيز على التعزيز الايجابي للذات.

في ” والدن تو” يطرح سكينر آراءه في مجتمع خيالي يتم التحكم فيه بتربية الأطفال، والعمل، والترفيه، والنشاطات الانسانية الهامة الأُخرى، عن طريق التحكم بالظروف البيئية على نحو نافع. وفي ” ما وراء الحرية والكرامة” تتمثل النقطة الأساسية التي يحاول سكنر إيضاحها باعتبار مفاهيم الحرية والكرامة التقليدية، والتي تتعارض و كافة أشكال الضبط الخارجي، عوائق تحول دون تطور علم السلوك و تعيق استخدام التكنولوجيا السلوكية. فأنصار الحرية والكرامة، من وجهة نظره، قد انهمكوا في الحد من الأساليب الضبطية العقابية إلى درجة أصبحوا فيها غير قادرين على رؤية فوائد الضبط البيئي البناء. وحسب اعتقاد سكنر، فإنها حقيقة مثبتة أن سلوك الناس جميعاً يخضع للضبط طوال الوقت. ولهذا فإن الأفضل استبدال الضوابط المنفرة أو العقابية بضوابط إيجابية، وتشكيل الأنماط السلوكية التي تتضمن استمرار حضارتنا.
إن النقاط التي أشرنا إليها في هذا المقال لا تغطي كل ما قاله سكينر عن المجتمع المعاصر، ولكن تمت مناقشة بعض النقاط الرئيسية فقط.

سيرة سكينر


المرجع:

كتاب “في النظرية السلوكية ما الذي يقوله ب. ف. سكنر حقاً؟”
تأليف: روبرت دي لي.( 1974)
ترجمة: د. جمال الخطيب عام ( 1991)
مكتبة الصفحات الذهبية للنشر والتوزيع
السعودية – الرياض
الطبعة الأولى

البحث في Google:





عن أ. مالك الرشدان

حاصل على ماجستير في علم النفس التربوي، و خبير في في مجال صعوبات التعلم.

2 تعليقات

  1. الصابرعلى قضاء الله وقدره

    موقع رائع

  2. شكرا على المجهود..عمل تلخيصي مفيد..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *