عاد للدراسة… فأصبح طبيبًا!

منذُ التحقْتُ بمهنة التدريس آمنتُ أنّني أؤدّي رسالةً ساميةً، ولا يقتصرُ عملي على حشوِ أدمغةِ الطلابِ بالمعلوماتِ والمعارف – مهما كانت قيّمةً وجديدة – التي تعلمتُها وحفظتُها من قبل!
آمنتُ أنّ جميعَ الطلابِ يستطيعون النجاحَ والتقدّمَ، كلُّ واحدٍ على قدرِ موهبتِه واجتهادِه.
آمنتُ بطلابي ووثقتُ بهم وبقدراتِهم، وكانت توقّعاتي منهم عاليةً، فأنا مِمَّن يحلو له تطبيقُ العبارةِ المشهورةِ: “النبوءةُ التي تحقّقُ ذاتَها”!
آمنتُ أنّ عليَّ أن أساعدَ طلابي على استثمارِ طاقاتِهم ومواهبِهم الكامنةِ، لذلك سعيتُ لإكسابِ طلابي مهاراتِ التعلّمِ الذاتيِّ، ومهاراتِ التفكيرِ العالي – من تحليلٍ واستنتاجٍ ونقدٍ ومقارنةٍ وإبداعٍ وو… – وعدمِ الاكتفاءِ بتمريرِ المعلوماتِ وتلقينِها!
كان شعاري الأثيرُ: “أعطِني صنّارةً وعلّمني الصيدَ بدلًا مِن إعطائي السمكَ!”.

انطلاقًا من هذا التوجّهِ، كنتُ أحرصُ على إشراكِ طلابي، أثناءَ الحصصِ، في النقاشِ والحوارِ وطرحِ الأسئلةِ وإبداءِ الآراءِ والمواقفِ الذاتيّةِ، كما كنتُ أكلّفُهم، وهم في الصفِّ التاسعِ، بكتابة البحوثِ والوظائفِ الكتابيّةِ حولَ موضوعاتٍ منبثقةٍ أو مرتبطةٍ بالموادِّ التي يتعلّمونَها، ليقوموا بالاستعانةِ بالمصادرِ والمراجعِ والرجوعِ إليها، وتحديدِ ما يلائمُ البحثَ، والتلخيصِ والتحليلِ وإصدارِ الأحكام…

كنتُ أقترحُ عددًا من المواضيعِ للبحث ليختارَ كلُّ طالبٍ الموضوعَ الذي يروقُه ويتفاعلُ معه.
لم أكنْ أتوقّعُ منَ الطلابِ في هذه السنِّ المبكرةِ أن “يُبدعوا” أو يتوصّلوا إلى أحكامٍ ونتائجَ أصيلةٍ ودقيقةٍ في بحوثِهم، بل يكفي أنْ يراعُوا أصولَ كتابةِ البحوثِ من مقدّمةٍ وفصولٍ وإجمالٍ، وأن يُحسنوا استخدامَ المصادرِ والمراجعِ وتبويبَها في نهايةِ البحث، وأن يكونَ أسلوبُهم في الكتابةِ بلغةٍ واضحةٍ صحيحةٍ قدرَ الإمكانِ، وخاليةٍ منَ الأخطاءِ الإملائيّةِ، وأنْ يطرحوا بعضَ الأسئلةِ والآراءِ النابعةِ منَ البحث…

وفي هذا السياقِ، أذكرُ أنّ أحدَ طلابي الأذكياءِ المجتهدين – منَ الصفِّ التاسعِ – أعدَّ بحثًا حولَ “المعلّقات”، وقدّمَ لي هذا البحثَ مراعيًا قواعدَ إعدادِ البحوثِ، ومضمّنًا بحثَه استعراضًا لجميعِ المعلّقاتِ؛ أصحابِها، مطالعِها، أهمِّ موضوعاتِها وأغراضِها… وجاء البحثُ بلغةٍ جيّدةٍ سليمةٍ مع قائمةٍ بالمصادرِ والمراجع.
ولكن استحوذَ على اهتمامي وتقديري ما وردَ في خاتمةِ البحثِ من تساؤلٍ، فقد كتب الطالبُ ما يلي:
“بعدَ أنْ اطّلعتُ واستعرضتُ وحلّلتُ “المعلّقات” ووقفتُ على ما فيها من معانٍ وخصائصَ وبلاغةٍ وجمالٍ أتساءلُ: كيف يمكنُ أن نفسّرَ هذا المستوى الرفيعَ للمعلّقات بينما كانتِ الحياةُ في الجاهليّةِ عاديّةً وربّما متخلّفةً إذا قورِنت بما تحقّقَ في عصرِنا من تقدّمٍ وازدهار؟!”
أُعجبتُ بهذا البحثِ بشكلٍ خاصٍّ وقرّرتُ الاحتفاظَ به كنموذجٍ لبحثٍ جيّدٍ يمكنُ أنْ أعرضَه على الطلابِ لتشجيعِهم وتحفيزِهم على كتابةِ البحوث!
انتهى العامُ الدراسيُّ وجاءتِ العطلةُ لنعودَ بعدَها لأحضانِ المدرسة، ولكن يا للأسفِ أو يا للعجبِ!

الطالبُ الذي كتبَ ذلك البحثَ الجيّدَ لم يَعُدْ للمدرسة، وبعدَ الاستفسارِ اتّضحَ أنّه تركَ مدرستَنا وانتقلَ لمدرسةٍ عبريّةٍ مُعتقدًا – كما قيلَ – أنّه سيحقّقُ طموحَه هناك، ويضمنُ له مستقبلا أفضلَ!
مرّ عامٌ ونصف أو أكثرُ وبلغني أنّ الطالبَ لم يحالفْه النجاحُ في المدرسةِ العبريّةِ بسببِ صعوباتِ لغةِ التدريسِ العبريّةِ – فهيَ ليست لغته الأمّ – وبسببِ الأجواءِ المختلفةِ وصعوبةِ التكيّفِ لبيئةٍ جديدةٍ وأترابٍ جددٍ، وما حزّ في نفسي أنّ الطالبَ تسرّبَ منَ الدراسةِ وتوجّهَ للعمل كنادلٍ في أحدِ مطاعمِ المدينة…

وشاءتِ الظروفُ أنْ ألتقيَ بوالدةِ الطالبِ، فاستوقفتْني وناشدتْني أنْ أقنعَ ابنَها بالعودةِ لمقاعدِ الدراسةِ لئلا “يضيع مستقبله”!
وعدتُ الوالدةَ أنْ أحاولَ، وطلبتُ منها أنْ يزورَني ابنُها في نهايةِ الأسبوع عندَ عودتِه منَ المدينة، وبالفعلِ استجابَ الطالبُ لرغبةِ أمِّه ووصل إلى بيتِنا قبلَ صلاةِ العصر وهو يمشي بخطًى خجولةٍ متردّدةٍ، وكان وسيمًا، ووجهُه أملسُ أمردُ، وقد أطالَ شعرَ الرأسِ، لذلك لمّا همَّ بمصافحةِ والدي رفضَ ظانّا أنّه شابّةٌ في ريعانِ الشباب، ومصافحتُه ستبطلُ وضوءَه، فتداركتُ الأمرَ، وعرّفتُ والدي به، فقامَ بمصافحتِه والترحابِ به!

رحّبتُ ب”طالبي”، واستفسرتُ عن أحوالِه، وتدريجيًّا استعادَ هدوءَه وراحَ يحدّثُني بأسًى عن أوضاعِه، ممّا جعلني أنتقلُ للحديثِ عنِ التعليمِ والطلاب ونشاطاتِهم وبحوثِهم، فأخرجتُ بعضَ البحوثِ التي أحتفظُ بها، وكان بحثُه ضمنَ تلكَ البحوثِ، وأخذتُ أعرضُ عليه تلك البحوثَ وأتوقّفُ لأقرأَ أمامَه مقتطفاتٍ منها ليُبديَ رأيَه فيها، وأخيرًا وصلتُ لبحثِه – دونَ أنْ أخبرَه بذلك – وقرأتُ ما خطّه كاتبُ البحثِ من تساؤلٍ في نهايةِ البحث، ثم طلبتُ منه أن يُبديَ رأيَه في ذلك:
أجاب الطالبُ: يبدو أنّ كاتبَ البحثِ، كما أستنتجُ من تساؤله، طالبٌ ذكيٌّ وأتوقّعُ له مستقبلًا باهرًا!
أثلجتْ صدري الإجابةُ، فأخبرتُه أنّه هو كاتبُ البحث!
كم كانت دهشتُه عظيمةً عندما عرف ذلك، ولمحتُ قطراتٍ من الدمع تترقرقُ في عينيه وتنحدرُ على وجنتَيْه!

هنا تقدّمتُ وسألتُه: ألا ترغبُ في العودةِ لمقاعدِ الدراسةِ لتحقّقَ المستقبلَ الباهرَ الذي تتمنّاه؟
أجابني بلوعةٍ: أجلْ أجل، أرغبُ في العودةِ للمدرسة، ولكن كيفَ أعودُ لأحضانِ المدرسةِ مع بدايةِ العامِ القادمِ بعدَ انقطاعٍ دامَ عامَيْن عنها؟!
واستطرد يقول: لو عدتُ لأتعلّمَ في مدرسةِ بلدتِنا فسأكونُ في الصفِّ العاشرِ وأترابي، أبناءُ صفّي السابقِ، سيكونون في الصفّ الثاني عشرَ، وعندها سأشعرُ بالحرجِ والخجل!

احترمتُ وجهةَ نظرِه، وأخذنا نفكّرُ في حلٍّ ملائمٍ، وأخيرًا خطرتْ ببالنا فكرةُ أنْ يتوجّهَ للدراسة خارجَ بلدتِنا، فوقع الخيارُ على إحدى مدارسِنا العريقةِ في المثلّثِ الجنوبيِّ – حيثُ كنتُ قد تعلّمتُ فيها المرحلةَ الثانويّة – فكتبتُ رسالتيْن: واحدةً لمديرِ المدرسةِ الذي علّمني في الثانويّة، ورسالةً أخرى لرئيسِ البلديّة، وفي الرسالتين أشرتُ إلى فضلِ مدينتِهم ومدرستِهم في مسيرةِ حياتي ومستقبلي، وتخريجِها أفواجًا من الناجحين، ورجوتُهما قبولَ الطالبِ عندَهم، ولحسنِ الحظّ ولسعادة طالبي، قُبل في المدرسة الجديدةِ!

وهكذا عاد إلى مقاعدِ الدراسةِ ليتعلّمَ عندَهم في الفرعِ العلميِّ، ويُنهيَ المرحلةَ الثانويّةَ بنتائجَ باهرةٍ أهّلتْه للتسجيل في إحدى جامعاتِ البلاد لدراسةِ الطبّ، فقُبِل وأنهى دراستَه الجامعيَّةَ بنجاحٍ ليصبحَ طبيبًا يعالجُ المرضى بالعلمِ والإيمانِ والقيمِ الإنسانيّةِ السمحة!

البحث في Google:





عن د. محمود أبو فنه

باحث وكاتب وعضو مجمع اللغة العربيّة في الناصرة - فلسطين

15 تعليقات

  1. سعاد الورفلي

    موضوع أكثر من رائع

  2. ماجد المطيري

    قصة جميلة..
    عندما يحترم العلم نستطيع أن نصل مهما طال الزمن…..

  3. قصة رائعة، شكرا جزيلا لكم،،،

  4. د. محمود أبو فنه

    الفاضلة سعاد الورفلي – أشكرك على كلماتك المؤازرة.

  5. د. محمود أبو فنه

    للأخوة الكرام – ماجد المطيري، Najat – سررت من تفاعلكما
    الطيّب مع ما كتبتُ، وأضيف: أؤكّد لكما أنّ هناك الكثيرين من
    المعلّمين/المربّين الذين يعملون بإخلاص وبمحبّة، ونأمل أن تتسع
    الدائرة بأمثالهم ليحقّق أبناؤنا طلابنا النجاح المرجوّ.

  6. موضوع جميل… فعلا لا يأس مع الحياة

    • ناصر عبد الميد يونس

      جعل الله ما قمت به في ميزان حسناتك و كثر الله من أمثالك

      إنها قصة معبرة و مؤلمة في نفس الوقت و ذلك عندما نفكر في عدد التلاميذ الذين يتركون الفصول الدراسية بسبب سلوك المدرسين الغير تربوي. مع كل أسف ، أصبح السلوك الغير سوي هو الشائع في أغلب مؤسساتنا التعليمية بحيث أننا جعلنا من تلك المؤسسة – إن صح القول – مؤسسة طاردة و لم تعد مؤسسة جاذبة للتلاميذ لأن أغلب الذين ينتمون إلى أسرة أعضاء هيئة التدريس يفضلون استعمال العصا على الخطاب التربوي. أضف إلى ذلك أن استعمال العصا لا يتم فقط معا التلميذ المخطأ و لكن مع الفصل. إذا أخطأ أحد التلاميذ يعاقب الجميع.
      رحم الله أحمد شوقي الذي قال :
      قم للمعلم و وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
      يا ترى ماذا يقول شاعرنا لو شهد هذا العصر الذي يقوم فيه التلميذ بالاعتداء على أستاذه

      • د. محمود أبو فنه

        أخي الفاضل ناصر عبد الميد يونس
        بائ ذي بدء أتقدّم بشكري الجزيل لكلماتك الدالّة المعبّرة،
        “ومن لا يشكر الناسَ لا يشكر اللهَ”.
        ثانيًا: أوافقك في رأيك أن عملية التربية والتعليم المنشودة
        تحتاج إلى المحبّةوالاحتواء وليس إلى العصا والعقاب، فالطلاب
        أمانة في أعناق المدرسين.

    • د. محمود أبو فنه

      أخي الكريم رشيد التلواني
      أحيّيك من القلب على ردّك ورأيك، أعتزّ بكم.

  7. تجربة مؤثرة و أسلوب رائع كالعادة في الكتابة. يحتاج المرء منا إلى شحذ الهمم لبلوغ الأهداف..وهذه القصة ملهمة للغاية بالنسبة للمدرسين و الطلاب.

    • د. محمود أبو فنه

      المربّي الباحث نجيب زوحي
      ردّك الحصيف أضاف لي ولنصّي قيمة إضافيّة أفتخر
      بها، وأحمد الله أنّ أجد من يشاركني في الراي والرسالة.

  8. بلمامون الزبير

    أن أحظى بمراسلتكم فهذا شرف ما بعده شرف ، و بخاصة حينما يتعلق الأمر بمرب ناجح و أستاذ فاضل
    أستسمحك في النقل عنكم ، و ما ذلك إلا لتعميم الفائدة
    تحياتي و دمتم عونا للعلم و التعلم في وطن في أمس الحاجة إلى أمثالكم
    بارك الله فيكم و جزاكم عنا خيرا دكتوري الفاضل

    • د. محمود أبو فنه

      أخي المربّي الفاضل المميّز بلمامون الزبير
      كم أنا محظوظ بمعرفتكم، وبالتعاون معكم
      في وضع لبنات أساسيّة في صرح أمّتنا الخالدة
      لتعود لمكانتها التي تستحقّها كأمّة رائدة!
      بوركت جهودكم التنويريّة الجادّة النافعة.

  9. د.ايمن أصلان

    شكرا لك د.محمود قصة رائعة هل هي حقيقية أم رمزية؟

  10. د. محمود أبو فنه

    عزيزي د. أيمن أصلان – شكرًا لك، وأضيف:القصّة حقيقيّة
    حدثت بالفعل وأسماء الأشخاص والأماكن محفوظة لديّ!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *