المنهج و التنمية المستدامة

التعليم بين هاجس الميزانية وطموح التنمية الاقتصادية

نُشر هذا المقال أولا في موقع المؤتمر العالمي للابتكار في التعليم-مؤسسة قطر لنفس الكاتب، و تمت إعادة نشره في إطار اتفاق التعاون و تبادل النشر بين ( وايز WISE )، و موقع تعليم جديد، اضغط هنا لقراءة المقال على موقع وايز.

علاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية ليست حديثة كما يعتقد الكثيرون، فقد تطرق آدم سميث Adam Smith لأهمية التعليم في كتابه ثروة الأمم The Wealth of Nations، حيث ذكر أن اكتساب الفرد للمهارات أثناء مساره التعليمي والدراسي رغم تكلفته، يشكل رأس مال ثابت وجزءا من ثروة مجتمع.
وانطلاقا من سنة 1960، أصبحت اقتصاديات التعليم Education economics بابا قائما بذاته في علم الاقتصاد بعد المحاضرة التي ألقاها الخبير الاقتصادي الأمريكي تيودور ويليام شولتز في جامعة شيكاغو.
فالتعليم -كيفما كانت السياقات التنموية- هو القاطرة الفعلية لتحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة على المدى البعيد. فإذا حققت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول المتقدمة مستويات عالية من الاكتفاء الاقتصادي، فلأنها استثمرت منذ الوهلة الأولى وبدون تردد في الطاقة البشرية من خلال أنظمة تعليمية متكاملة وبرامج تدريبية فعالة.

اليوم وقد أصبح الاقتصاد العالمي قائما على التطور التكنولوجي بدرجة كبيرة، يتركز الاهتمام شيئا فشيئا على مدى مساهمة الفرد المباشرة في نمو الاقتصاد الوطني لكل بلد، أو ما يسميه الخبراء الاقتصاديون بالرأسمال البشري.
إن مستوى المعرفة والمهارات والمؤهلات العلمية لدى الأفراد أضحت الآن من العوامل الحاسمة المؤثرة على النشاط الاقتصادي، وبالتالي فإن تطويرها يعد مفتاحا استراتيجيا لتعزيز النمو الاقتصادي المطرد والتنمية المستدامة في الدول النامية.
فالاعتماد على رأس المال البشري وتوفير فرص تعليم في سن مبكرة وبرامج تدريب وتأهيل مهني لليد العاملة ذات جودة عالية، من شأنها معالجة بعض مظاهر الفوارق الاجتماعية، وخلق فرص شغل تتناسب ونوعية التكوين الأكاديمي أو المهني، وبالتالي الرفع من مستوى الدخل الفردي مما ينعكس إيجابا على مؤشرات التنمية الاقتصادية.

و فيما يخص البلدان العربية، فإن تقارير المنظمات الدولية كانت قد أشارت أنها دخلت القرن الحادي والعشرين وهي لاتزال تعاني من تبعات عبء ثقيل يتمثل في 60 مليون أمي أي بنحو 40 % من البالغين (تقرير التنمية الإنسانية العربية، 2005، ص 78)، لكن وجب التنويه بالمجهودات المبذولة في العقد الأخير بهذا الخصوص، والتي سجلت مؤشرات إيجابية حول تمدرس الأطفال والفتيات على الخصوص، وكذلك انخراط المجتمع في برامج محو الأمية وغيرها… كل هذا التحسن هو في الحقيقة يهم التعليم كما وليس نوعا ولو أن بعض الدول العربية خصصت لذلك ميزانيات ضخمة جدا. وهذا يجرنا للحديث حول جدوى الإنفاق على التعليم والتكوين في تلك البلدان، هل الميزانية المخصصة للتعليم والتأهيل المهني تثقل كاهل المجتمع فعلا كما يقول البعض؟ أم هي عملية استثمار ذات مردود غاية في الأهمية على المستوى الاستراتيجي بعيد الأمد، إذا استندت على رؤية علمية وخطط مستقبلية مدروسة لملاءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل.

العديد من الدراسات المتخصصة تطرقت فعلا إلى هذه الإشكالية، وحاولت الإجابة عن هذا السؤال عبر أبحاث علمية معمقة، فخرجت بنتائج ليست بتلك البديهية التي قد تبدو للعامة، حيث نجد تفاوتا هائلا بين الدول، فمنها من حمل التعليم اقتصادها لمستويات مرتفعة، ومنها من لم يحدث الإنفاق على التعليم أثراً يؤهل اقتصادياتها، بل أكثر من ذلك، فبعض الدراسات المتأخرة أشارت إلى أن ذلك الأثر كان بالفعل سلبيا.

و في هذا الصدد، تحتل الولايات المتحدة الأميركية المرتبة الأولى عالميا في حجم الإنفاق على التعليم والذي يصل إلى 809.6 مليار دولار سنويا، تليها اليابان بميزانية تقارب 160.5 مليار دولار، حيث أن النسبة المخصصة للتعليم من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الصناعية المتقدمة عموما يتراوح ما بين 5-6 %، لكن نصيبها يبلغ تقريبا 90 % من مجمل الإنفاق على التعليم بالعالم. أما في الدول العربية فنسبة الإنفاق على التعليم تتفاوت من دولة لأخرى، حيث تتراوح هذه النسبة ما بين 2 و7 % من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول.

ففي معظم الدول العربية، تلك الميزانية الهزيلة بالكاد تكفي لدفع رواتب الموظفين وترقيع بعض مما خلفته السياسات التعليمية السابقة، يعني أن كل حديث عن تجويد التعليم يعد شيئا من الترف، والمجال قد لا يتسع إذن للحديث عن إمكانية لتطوير مخرجات التعليم ما دام الهاجس الأساسي هو توفير البنية التحتية وتوفير الكوادر التربوية المؤهلة وأحيانا الكتب المدرسية اللازمة لحياة مدرسية عادية… في المقابل، قطعت دول كقطر والإمارات العربية أشواطا لا بأس بها من حيث تطور مستوى التعليم بالتوازي مع ارتفاع حجم الإنفاق عليه، و خصصت لذلك رعاية خاصة من خلال برامج إصلاحية شاملة و مستدامة تهم التعليم الأساسي والعالي و مجال التدريب واستخدام التقنيات الحديثة لخدمة التعليم

بغض النظر إذن عن الظروف الأمنية والسياسية التي تمر بها المنطقة العربية حاليا وانعكاسات ذلك على أولويات الإنفاق، يمكن القول أن العلاقة بين ميزانية التعليم والنمو الاقتصادي تتفاوت من دولة لأخرى، وتتغير حسب الظرفية الزمنية كذلك. فمن المهم إذن تتبع ورصد التأثيرات المتبادلة بينهما حتى لا يكون الإنفاق على التعليم غاية في حد ذاته و ألا يحتكم إلى تخطيط عشوائي أو تلقائي يفتقد رؤية إصلاحية شاملة على المدى البعيد.

 

 

 


المراجع:

عادل مجيد العادلي، ورقة بحثية بعنوان ” مساهمة التعليم في عملية الإنماء الاقتصادي في البلدان العربية”، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة العدد 35، 2013.

http://www.al-watan.com/news-details/id/27584

http://www.alyaum.com/article/4082924

http://www.huffpostarabi.com/shaker-alashuel/post_13208_b_12007634.html

 

البحث في Google:





عن نجيب زوحى

أستاذ و مدون مهتم بتقنيات و أفكار التعليم الحديثة، عضو مؤسس و محرر بموقع "تعليم جديد". طالب دراسات عليا متخصصة في التسيير الرياضي بالمدرسة العليا للتسيير و التجارة بمونتريال الكندية، حاصل على الإجازة في الاقتصاد والتسيير بجامعة ابن زهر المغربية، و بكالوريوس تخصص تربية رياضية و صحية بجامعة كيبيك في مونتريال الكندية، وشهادة تقنية كندية في إدارة و تسيير رياض الأطفال. أستاذ تربية بدنية و صحية، مدرب كرة قدم بنادي كاندياك الكندي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *