العملية التعليمية

مدخلات العملية التعليمية و أثرها على طبيعة مخرجاتها

تعاني كثير من الدول من ظاهرة فشل العملية التعليمية ، و قد أجريت العديد من البحوث لإبراز العلاقة بين هذه الظاهرة و المستوى الاقتصادي و الاجتماعي لهذه الدول.

يفترض هذا المقال أن الفشل الدراسي يمكن أن يكون نتيجة الأهمية المعطاة أو التي تحظى بها المعارف المتعلقة بالمفاهيم في البرنامج الدراسي. فالتأكيد على اكتساب المعارف الإجرائية يمكن أن يساهم في إنجاح العملية التعليمية ، و يمكن أن يدخل هذا العمل في إطار المفهوم الجديد لعملية التعليم التي ترتكز على التعريف الجديد لوظيفة المدرس، فهي تعمل على الاستدلال على استطاعتنا علاج بعض حالات فشل العملية التعليمية بتزويد الطالب بالأدوات الضرورية التي تمكنه من استيعاب المادة الدراسية.

لذلك ، سنحاول إبراز طبيعة العلاقة التي يمكن أن توجد بين نجاح العملية التعليمية و بين:

  • المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية .
  • المعارف الإجرائية.
  • التيار التربوي المسمى ” إدارة العمليات الذهنية “.

1- المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية

كما يعرف الجميع، فالمقصود بالعملية التعليمية ليس مجرد عملية إلقاء معلومات و لكنها عملية تفاعل بين حدث تعليمي و حدث تعلمي. ترتكز هذه العملية على مستوى كفاءة المتعلم في بداية عملية التعلم. وبتعبير آخر، يمكن القول أن عملية تحديد الأهداف و النشاطات المطلوب القيام بها من طرف المتعلم تُحدَّد انطلاقا من درجة كفاية المتعلم، ذلك لأن المعلومات التي يمتلكها المتعلم في بداية العملية التربوية لها دور مهم طوال تلك العملية. ويطلق فيليب ميريو Philippe Meirieu على تلك المعلومات اسم “المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية و يعتبرها مكونا أساسيا في العملية التعليمية. يقول فيليب ميريو Philippe Meirieu في هذا الخصوص أيضا:

” إن الشيء الجوهري في عملية التعلم – و بصفة تناقضية هي المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية ، و بالتحديد ، نقاط الارتكاز التي تستند عليها المعلومات و المهارات الجديدة التي يكتسبها المتعلم أثناء العملية التربوية “.

إن عملية الربط بين المعلومات و المهارات التي تم استيعابها و المعلومات و المهارات الجديدة هي عملية تكوين يقوم بها المتعلم، و ذلك يقودنا إلى القول أن المعلومات لا تُستوعَب عن طريق الإلقاء و لكن عن طريق البناء الذهني للمعلومات، و بالتالي يمكن القول أن نجاح العملية التعليمية ليس نتاج مجرد إرسال للمعلومات من طرف المدرس يتم استقبالها من طرف الطالب، و لكنه يعتمد أولا على طبيعة المعارف الموجودة لدى الطالب في بداية العملية التعليمية . إن هذه المعارف المسماة ” أولية ” هي ضرورية لبلوغ الأهداف المنشودة من العملية التعليمية . يقول فيليب ميريو Philippe Meirieu في هذا الخصوص :

” للقيام بعملية تعليمية، يجب أن يكون لدى المتعلم بعض المعارف الأولية على هيئة كفاءات و مهارات يستعملها الطالب من خلال استراتيجيات معينة” .

وتلعب هذه المعارف الأولية دورا مهما بل إن ضرورة وجودها – لتكوين المعلومات – يصل إلى درجة أن ريشار كوتييه Richard L. Côté يدعو المدرسين القلقين على حسن سير العملية التعليمية إلى التأكد من وجود المعلومات أو المهارات الأولية لدى الطلبة قبل البدء في عملية التعليم خيث يقول:

” إنه من المهم، التأكد قبل البدء في العملية التعليمية، من أن الطالب يمتلك الأفكار الأساسية ( معلومات – مهارات ذهنية أولية ) التي يمكن للمعلومات الجديدة أن تتفاعل معها و التأكد من حضورها أثناء العملية التعليمية “.

تطرق هذا الباحث إلى هذا الموضوع مطلقا عليه اسم المهارات الذهنية الأولية. فريشار كوتييه Richard L. Côté يعتبر هذه المعارف على شاكلة الأشياء المكتسبة، و بالرجوع إلى بعض أقوال غانييه R. M. Gagné ، أكد هذا الأخير على ضرورة أخذ هذه المعلومات في الاعتبار لنجاح العملية التعليمية و ذلك حين يقول:

” إن المهارات الأولية هي المهارات المنبثقة من عملية تعلم سابقة و الملتحمة في عملية التعلم اللاحقة. إن المهارات الأولية ضرورية لاكتساب مهارات جديدة و ذلك لكونها جزء من عملية التعلم الجديدة “.

كما سبق و أشرنا من خلال أقوال فيليب ميريو Philippe Meirieu الذي يمثل – بالنسبة لي – المدرسة الفرنسية و أقوال ريشار كوتي Richard L. Côté الذي يمثل المدرسة الأنجلو – ساكسونية ، تعطي هاتين المدرستين أهمية بالغة للاستعدادات الذهنية للمتعلم قبل البدء في عملية التعلم. و على الرغم من أن هذين الباحثين قد تطرقا إلى ما سماه فيليب ميريو Philippe Meirieu :” المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية “، يمكن لنا أن نفهم، معتمدين على المصطلحات المستعملة من قبل ريشار كوتي Richard L. Côté، أن: ” المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية لا تغطي نفس الواقع في كلتا الحالتين.” نستطيع أن نفهم أن هدف الاختلاف هو نتيجة للاختلافات على مستوى المصطلحات المستعملة من قبل هذين الباحثين.
بالنسبة لفيليب ميريو، تتكون “المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية من نوعين من المعارف المكتسبة الأولية : من جهة، المعلومات و التصورات (التي نسميها الكفاءات) و من جهة أخرى، المهارات (التي نسميها القدرات) ” . و يبيِّن فيليب ميريو Philippe طبيعة العلاقة الموجودة بين الكفاءات و المهارات قائلا :

” إنه لا يمكن الفصل – من الناحية التجريبية – بين هذين الواقعين، و لا يمكن التعبير عن الكفاءات إلا بالمهارات و لا يمكن للمهارات أن تعمل في الفراغ “.

واستعمل ريشار كوتي Richard L. Côté من جانبه عبارة ” استعدادات و مهارات ذهنية ” تارة للتعبير عن المهارة عندما يتعلق الأمر مثلا بالتعرف على مدى قدرة المتعلم على القيام بنشاط معين. لقد تم التعبير عن هذه الفكرة من قبل هذا الباحث على النحو التالي:

” يمكن التعرف على المهارة الذهنية الأولية عند طرح السؤال التالي: ما هي المهارات الذهنية الواجب توافرها لدى الطالب قبل البدء في العملية التعليمية لكي يستطيع بلوغ الأهداف المنشودة من العملية التربوية؟ “

و تارة أخرى بمعنى ” كفاءة ” كما يمكن أن نلاحظه في التعريف الذي أعطاه و استعمله ريشار كوتي Richard L. Côté ل” المهارة الذهنية الأولية “، و ذلك من خلال العبارة التالية :

” إن المهارة الذهنية الأولية هي مهارة يمكن أن تستخدم كأساس لعملية تعلم جديدة، حيث أنها تصبح جزءا مكونا لهذه العملية”.

كما أشرنا سابقا، إن تحديد الأهداف التعليمية يجب أن يكون وفق مستوى كفاءة المتعلم في بداية العملية التعليمية لأن الأهداف التعليمية الذهنية تخضع لترتيب محدد. على سبيل المثال، إذا رجعنا إلى ترتيب أو تصنيف بلوم للأهداف التربوية الذهنية نجدها مصنفة على النحو التالي:

  1. معرفة

  2. فهم

  3. تطبيق

  4. تحليل

  5. استنتاج

  6. تقويم

انطلاقا من هذا التصنيف، يمكن أن نقول أن المعارف الأولية التي تدخل في إطار ما نسميه ” الكفاءة ” تظهر في أعلى التصنيف، هذا في الوقت الذي نلاحظ فيه أن الأهداف التي تعبر عن ” مهارة ” تقع في أسفل التصنيف. هذه الملاحظة تقودنا إلى القول أن ما نسعى إلى بلوغه في أغلب الأحيان من وراء العملية التعليمية ، هي الأهداف التي تهتم أو تركز على حفظ المعلومات بينما تبقى الأهداف التي تهتم بالمهارات في طي النسيان.

لكي تنجح العملية التعليمية ، أعتقد أنه على المدرس أن ينظر إلى المنهج الدراسي على أنه مجموعة مهارات ذهنية يتم استيعابها من قبل الطالب. و يتطلب استيعابُ هذه المهارات استيعابَ المعارف الأولية التي تعتبر شرطا لاستيعاب المنهج الجديد. وبتعبير آخر، لكي تنجح العملية التعليمية ، على المدرس أن ينظر إلى المنهج الدراسي بكونه مجموعة مهارات ذهنية يتم استيعابها من قبل الطالب. و يتطلب استيعابُ هذه المهارات التمكن من المعارف الأولية التي تعتبر شرطا لفهم المنهج الجديد. ويمكن للمدرس أن يدرك ما إذا كانت ” المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية “تسمح له ببلوغ الأهداف المنشودة من وراء العملية التعليمية منذ الحصص التعليمية الأولى.”

2- المعارف الإجرائية

يركز المفهوم الجديد لعملية التعليم على تسهيل عملية التعلم. وتتطلب عملية التسهيل هذه – من قبل المدرس – فهم الآلية المؤدية إلى استيعاب المادة الدراسية الجديدة. يعتبر فهم آلية عملية التعلم جوهر النشاط التعليمي. حيث يقول ميشال دوفلي M. DEVELAY في هذا الخصوص :

” إن عملية فهم كيف يتعلم الطالب هي جوهر النشاط التعليمي. ” و يذهب هذا الباحث إلى أبعد من ذلك حين يقول : ” إن وظيفة المدرس لم تعد عملية التدريس و لكن السهر على أن يتعلم الآخرون “.

إن ذلك يقودنا إلى القول أن أي حدث تعليمي ناجح يرتكز و يضع من ضمن أولوياته فهم ما يقوم به الطالب أثناء عملية التعلم أي معرفة طبيعة النشاط الذي يقوم به المتعلم لاستيعاب محتوى المادة الدراسية.

إن عملية ربط نجاح العملية التعليمية بفهم الطريقة التي يتبعها الطالب أثناء عملية التعلم يعطي لهذه العملية بعدا جديدا: إن الأمر يتعلق ب ” المعارف الإجرائية “. وبطريقة أوضح، يمكن القول أننا في الموقف التعليمي، نكون أمام نوعين من المعلومات: معارف مفاهيمية و معارف إجرائية. و الفرق بين هذين النوعين من المعارف تمت الإشارة إليه من قبل كريستيان جورج C. GEORGE عندما قال :

” إن التعلم هو عبارة عن اكتساب معارف إما مفهومية أو إجرائية. إنه الفرق بين ” المعرفة” و” كيفية المعرفة “. تتعلق المعارف المفاهيمية بالمحيط الطبيعي والاجتماعي بما فيها الأشخاص، و تتعلق المعارف الإجرائية بالأفعال أو السلوك و العمليات التي يقوم بها الفرد للوصول إلى أهداف “.

نظرا لطبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه المعارف الإجرائية التي يمتلكها الطالب في العملية التعليمية ، يدعو المربون إلى ما يسمى ب ” تعليم كيفية عملية التعلم”. انطلاقا من معطيات هذا التيار التربوي الجديد، يمكن القول أن عدم امتلاك بعض هذه المعارف الإجرائية يمكن أن يكون مسؤولا و لو جزئيا عن فشل العملية التعليمية. يمكن القول بتعبير آخر، أنه بتزويد المتعلم بالمعارف الإجرائية المناسبة، يمكن لنا أن نسهل له عملية التعلم. فعملية التسهيل هذه تمثل بالنسبة لشارل حاجي Ch. HADJI جوهر بل و الغاية من وجود العملية التعليمية . يقول هذا الباحث في هذا الخصوص:

” تعرف عملية التعليم بأنها عملية منظمة تهدف إلى مساعدة المتعلمين على امتلاك الأدوات الذهنية التي يمكن اكتسابها من خلال المنهج الدراسي “.

ومن جانبه، عرف مارك برو M. BRU عملية التعليم كما يلي:

” إن عملية التعليم هي عملية خلق ظروف مادية و إعلامية و علائقية تهدف إلى دفع الطالب إلى الانخراط في أنشطة تمكنه من بناء و اكتساب معارف و مهارات جديدة”.

في نفس السياق تبرز ب.م.بارث B. M. BARTH أهمية الأدوات المستخدمة من قبل الفرد في موقف تعليمي حيث تقول:

” إيصال التلاميذ إلى التفكير و إلى امتلاك منهجية جيدة في التعلم ليست شيئا جديدا في حد ذاته، الجديد هو القول بأن طريقة التعلم هي أكثر تكوينية من الشيء الذي نتعلمه و بالتالي علينا أن نركز على تعليم” طرق التعلم ” التي من شأنها أن تستعمل في كل المواقف التعليمية”.

انطلاقا من هذه المعطيات، يمكن أن نقول أن حالات الفشل الدراسي يمكن أن تكون نتيجة عدم امتلاك الطلاب للمعارف الإجرائية الأولية التي تمكنهم من فهم و إعطاء معنى للمنهج الدراسي. في الحقيقة ، لكي ” نضمن” نتائج العملية التعليمية، أرى ضرورة تحديد – من قبل المدرس – طبيعة الأدوات الواجب استخدامها من قبل المتعلم لاستيعاب المنهج و ذلك منذ مرحلة تحضير الدروس. إن اتباع هذا الأسلوب في التعليم يسمح للمدرس بالتعرف على طبيعة الصعوبات التي يلاقيها المتعلمون و بالتالي اقتراح و تبني طرق تدريسية تحسبية.

3- فشل العملية التعليمية من وجهة نظر التيار التربوي ” إدارة العمليات الذهنية”

من بين الطرق المقترحة لمجابهة الصعوبات الدراسية التي لها علاقة بالمعارف الإجرائية نذكر التيار التربوي المسمى ” إدارة العمليات الذهنية “. يعود فشل العملية التعليمية – حسب متبعي هذا التيار التربوي – إلى كون المتعلمين المعنيين بهذه الظاهرة لا يستعملون العمليات الذهنية المناسبة التي تدخل في عملية التعلم. في الواقع، كل نشاط ذهني يتطلب القيام ببعض العمليات الذهنية التي في غيابها تكون كل عملية استيعاب شبه مستحيلة. تقول م. ف.ميجيان M. F. MEIGNEN في هذا الخصوص :

” إن التلاميذ الذين لا ينجحون هم التلاميذ الذين لا يقومون بهذه العمليات الذهنية، إنهم ليسوا عاجزين عن القيام بها، و لكن لم يتم تعليمها لهم و لم يتوصلوا إليها بمفردهم”.

تركز هذه الباحثة على أهمية دور هذه العمليات لاستيعاب المعلومات قائلة :

” إن الركيزتين الأساسيتين للإدارة الجيدة للذهن هما المشروع و الاسترجاع الذهني للمعلومات. (…) يبقى التلاميذ – في أغلب الأحيان – في المرحلة الأولى من عملية الاستيعاب و هي مرحلة الإدراك الحسي للمعلومات. إنهم يرون أو يسمعون و لكن ذلك ليس بالشرط الكافي لبقاء بعض المعلومات في الذهن “.

تقودنا هذه المعطيات إلى القول أن بعض حالات الفشل التعليمي يمكن أن تكون نتيجة لعدم امتلاك المتعلمين لمنهجية التعلم ” الناجعة ” التي تمكنهم من استيعاب المعلومات، أي أن المتعلمين الذين يفتقدون مشروعا يسعون إلى القيام به من وراء العملية التعليمية، لا يقومون بعملية الاسترجاع الذهني للمعلومات المناسبة للتمكن من استيعابها.

يقول أ. دو لا قارندوري A. DE LA GARANDERIE مبتكر التيار التربوي الذي نحن بصدد الحديث عنه، أن كل عملية تعلم تتطلب و ترتكز على عنصرين لدرجة أن نتيجة العملية التعليمية ترتبط بحضور أو غياب هذين العنصرين و هما:

  1. وجود مشروع لدى المتعلم.

  2. الاستدعاء الذهني للمعلومات.

يحتل العنصر الأول مركزا أساسيا في هذا التيار التربوي. في الواقع إن طبيعة المشروع المحدد من قبل المتعلم هو الذي يحدد ، إلى حد ما ، نوعية العملية الذهنية التي يقوم بها المتعلم لإستيعاب المعلومات.

بالنسبة لكيفية حدوث عملية التوافق بين المشروع و العمليات الذهنية، يمكن لنا إبرازها من خلال رجوعنا إلى إ. قريبو E. GREBOT التي تقول في هذا الخصوص :

” تتميز إدارة العمليات الذهنية بخمسة أنواع من العمليات هي : الانتباه – الحفظ – التفكير – الفهم – التخيل. و هكذا يمكن القول أن مفهوم و طبيعة المشروع هي الركيزة الأساسية التي تحدد نوع و خصائص عملية الاسترجاع الذهني الواجب القيام بها من قبل المتعلم للتمكن من تطبيق ذلك المشروع”.

وبتعبير آخر، حسب تيار إدارة العمليات الذهنية، يرتكز الحدث التعليمي على امتلاك مشروع يحدد نوعية العمليات الذهنية الواجب القيام بها. إن عملية امتلاك المتعلم لمشروع هو الذي يمكنه إذا من القيام بعملية إستدعاء ذهنية، و التي تعتبر هي الأخرى عنصرا أساسيا في التيار التربوي المسمى “إدارة العمليات الذهنية” . تعبر م. ف.ميجيان عن ذلك قائلة :

” إن وجود مشروع و القيام بعملية استدعاء ذهنية هما ضروريتان لكل عملية ذهنية “.

و قد أشار انتوان دولا قارودوري Antoine DE LA GARANDERIE ، من جانبه، إلى أهمية عملية الإستدعاء الذهني للمعلومات مركزا على علاقتها بعملية الفهم حيث قال :

” إن التلميذ الذي لا يقوم بعملية استدعاء ذهنية للمعلومات لا يتوصل إلى فهمها، لأن عملية الفهم هي وليدة عملية الاستدعاء الذهني للمعلومات و ليس لعملية الإبصار”.

انتوان دولا قارودوري Antoine DE LA GARANDERIE تدعو إلى القول أن الفشل يجد مكانه في العملية التعليمية عندما لا تكون هذه العملية مسبوقة أو مصاحبة بمشروع. في هذا الخصوص يقول قريبو E. GREBOT :

” يدعو تيار إدارة العمليات الذهنية، ضمنيا، المتعلمين، إلى العمل على وضع أنفسهم في وضعية الاستدعاء الذهني للمعلومات قبل بداية عملية التعلم “.

إن السؤال الأساسي الذي يمكن أن نطرحه و الذي يمكن أن يكون – إلى حد ما – سببا أو هدفا من ذكر هذا التيار التربوي هو : ” إلى أي حد تسمح لنا معطيات تيار إدارة العمليات الذهنية ببلوغ الأهداف المنشودة؟ “

للإجابة على هذا السؤال نستطيع أن نقول – حسب نتائج البحوث التي تم القيام بها في إطار تيار إدارة العمليات الذهنية – إن الهدف الأخير من هذه الطريقة هو اقتراح حلول لمشكلة الفشل الدراسي. في الواقع، تنطلق هذه الطريقة من تحليل العناصر التي تؤدي دورا مهما أو التي لها علاقة بنتائج العملية التعليمية و تحاول اقتراح استراتيجية تعليمية تساعد المتعلم على الحصول على نتائج إيجابية. لقد تمت الإشارة إلى هذه الفكرة من طرف أ. قريبو E. GREBOT على النحو التالي :

” تحاول إدارة العمليات الذهنية أن تتنبأ بالنتائج السلبية للعملية التعليمية و ذلك لاقتراح منهجية تعليمية علاجية و تعمل جاهدة من أجل الحصول على أفضل النتائج “.

لبلوغ أفضل النتائج في نهاية العملية التعليمية ، انطلق مؤسس تيار إدارة العمليات الذهنية التربوي من الفرض القائل إن المتعلمين لا يديرون عملية تعلمهم بطريقة واحدة و إن هذا الاختلاف هو نتيجة عدد من العناصر التي يمكن أن نذكر من بينها ” طبيعة المشروع المحدد من قبل المتعلم” و بالتالي نوع عملية الاستدعاء الذهني المنجزة عند تعاملنا الحسي مع معطيات المادة الدراسية. بطريق أوضح، نستطيع أن نقول أن الفرد يستخدم – في الموقف التعليمي – نشاطا استدعائيا ذهنيا للمعلومات على هيئة صور سمعية أو بصرية. لذلك يمكن القول أن إحدى النتائج التربوية التي يمكن أن تنبثق من هذه الطرق في العمل و التي يمكن أن يكون لها تأثير على نتائج العملية التعليمية تقع في مستوى نوعية العلاقة الموجودة بين المثير المستعمل من قبل المدرس: سمعي ( خطاب ) أو بصري ( السبورة ) و طريقة تعلم الطالب. حول هذه النقطة و بالرجوع إلى أعمال أنطوان دولا قارودوري Antoine DE LA GARANDERIE تقول م. ف.ميجيان M. F. MEIGNEN :

” أن الاستراتيجيات التعلمية ليست موحدة لدى كل المتعلمين، لذا فإن بعض الأشخاص هم بصريون و يتعاملون مع المعلومات على هيئة صور ذهنية، و آخرون يتعاملون مع المعلومات على هيئة صور سمعية. إنهم يتعلمون ويفهمون صانعين بأنفسهم خطابات أو متذكرين للخطابات التي تم سماعها”.

أما بالنسبة للمدرسين، يقول هذا الباحث :

” للمعلم طريقة عمل خاصة به و التي يفرضها على طلابه. يوجد من بين هؤلاء الطلاب من يستعمل نفس طريقة عمل المدرس، أما المتبقون من الطلبة فيلاقون صعوبات دراسية. (…)”.

على المدرس أن يستخدم عدة طرق تعليمية مع تلاميذه و على التلاميذ أن يحاولوا اكتساب و تنمية الطرق التعليمية التي لم يكونوا يستعملونها، إنها في أغلب الأحيان الوسيلة الأنجع للنجاح.

تقودنا أقوال و أعمال أنطوان دولا قارودوري إلى القول أن طريقة التعليم المتبعة من قبل المدرس يمكن أن تكون مصدر الصعوبات التي يلاقيها بعض المتعلمين الذين يعانون من مشاكل دراسية. و لكي نتمكن من تذليل تلك الصعوبات علينا اتباع طرق تدريس مختلفة.

و على الرغم من ذلك، لا يمكن لنا أن نستخلص أن مجرد التوافق بين عملية التعليم و طبيعة عملية الاسترجاع الذهني المنجزة من قبل الطالب تؤدي بالضرورة إلى نجاح العملية التعليمية. في الواقع، يستوجب نجاح العملية التربوية إدراك درجة معينة من النمو على مستوى الاسترجاع الذهني للمعلومات. بتعبير آخر، لكي تكون هناك عملية تعلم، بل لنجاح هذه العملية، يجب أن تبلغ عملية الاسترجاع الذهني للمعلومات درجة تتناسب مع درجة طبيعة النشاط المراد القيام به. فعملية الاسترجاع الذهني للمعلومات أثناء تطورها، تمر بأربع مراحل تسمى ” الدرجة ” أو ” المستوى”. قامت إ. قريبو E. GREBOT بتقديم هذه المستويات على النحو التالي:

أ- المستوى الأول: تتميز الأشياء المسترجعة ذهنيا في المستوى الأول، بمحتواها وعلاقاتها بالأحداث الحسية. (…) يلاقي الطالب الذي يكتفي بالمستوى الأول من الاسترجاع الذهني بالضرورة، صعوبات دراسية في وقت معين.

ب- المستوى الثاني: الأشياء المحتوية على خصائص المستوى الثاني من الاسترجاع الذهني هي الحفظ عن ظهر قلب و المعلومات التي تم حفظها أوتوماتيكيا كجدول الضرب والكتابة السليمة للكلمات وكتابة الشعر و التواريخ و القواعد التي تم حفظها عن ظهر قلب.

و هكذا فالطالب الذي يفضل الحفظ عن ظهر قلب و التعلم بطريقة أوتوماتيكية يلاقي صعوبات على مستوى عمليات التصفيف و الاستنتاجات و الخيال الخ.

ج- المستوى الثالث: وهو مستوى التفكير المنطقي و الاستنتاجي و كل العمليات الذهنية المنظمة. يتم اللجوء إلى هذا المستوى من الاسترجاع الذهني للمعلومات عند عملية التعلم (…) يعكس هذا المستوى كذلك القدرة على التفكير المجرد الواجب توافره لإيجاد نوع من العلاقة بين المعلومات و لحل المشكلات و لبناء معلومات جديدة.

د- المستوى الرابع: هو مستوى الخيال، ويهتم الفرد الذي يستخدم هذا المستوى من الاسترجاع الذهني للمعلومات بالأشياء غير المتوقعة و المستحدثة و غير المطابقة للواقع .
إن عملية التمييز بين هذه المستويات الأربعة من عملية الاسترجاع الذهني للمعلومات تميز بين مختلف الطرق التي يتبعها الطلاب في المواقف التعليمية و توضح لنا بعض أسباب عدم بلوغ الطالب لنفس المستوى في مختلف المواد الدراسية.

انطلاقا من هذه المستويات يمكن لنا أن نتساءل ما إذا كان الطالب الذي لا يغطي كل مستويات العمليات الذهنية السابق ذكرها محكوم عليه بالفشل في المواد الذي يتطلب استيعابها القيام بعملية استرجاع ذهنية معينة للمعلومة لا يتم القيام بها من طرف الطالب.

يمكن لنا أن نجيب على هذا التساؤل بالاعتماد على ما قالته إ. قريبو E. GREBOT في هذا الخصوص مستندة على أعمال أنطوان دولا قارودوري Antoine DE LA GARANDERIE قائلة :

“كلنا نمتلك مستوى مفضلا من الاسترجاع الذهني للمعلومات. إن تطوير ذلك المستوى للتمكن من استعمال مستويات أخرى من الاسترجاع الذهني للمعلومات ممكن، و أفضل طريقة لذلك هو خلق نوع من الديناميكية مع المستويات الأخرى من الاسترجاع بالاعتماد على مستوى الاسترجاع الذهني السائد لدى الفرد، ذلك لأنه هو الذي يسمح له بالنجاح، و تكمن نجاعة هذه الطريقة في استعمال الإمكانيات الموجودة لاكتساب إمكانيات أخرى.”

الخاتمة

في النهاية، يمكن القول أن معطيات التيار التربوي المسمى ” إدارة العمليات الذهنية “ذات طبيعة تعمل على دفع المدرس إلى إعادة التفكير في العملية التعليمية.و في الحقيقة، يمكن أن تدفع الأسس النظرية لهذا التيار التربوي المدرسين إلى وضع بعض عاداتهم التدريسية موضع تساؤل. بهذا يمكن أن تعتبر المعارف الإجرائية أدوات أولية ضرورية لاستيعاب المعارف المفاهيمية. و تنبثق هذه الطريقة في التدريس من وظيفة المدرس الحالية في إطار المفهوم الجديد للعملية التعليمية: شخص ُمسهِّل لعملية التعلم.

ننهي هذا المقال بالقول أننا حاولنا التركيز على ثلاث نقاط أساسية و ذلك لطبيعة علاقتها مع نتائج العملية التعليمية.
لقد أشرنا في البداية إلى أهمية ” المعارف الجاهزة لدى الطالب عند بدء العملية التعليمية “. كما أوضحنا، أن المعلومات التي يمتلكها المتعلم في بداية العملية التربوية يمكن أن تكون عنصرا مسهلا أو معيقا لسير تلك العملية. في النقطة الثانية، تطرقنا إلى المعارف المسماة ” المعارف الإجرائية”. وهي تلك المعلومات التي يجب أن يستعملها المتعلمون للقيام بنشاط ذهني معين. يمكن لنا أن نقول أن طبيعة النتائج التي يتم الوصول إليها في نهاية العملية التعليمية هي ذات علاقة بدرجة استيعاب المتعلمين للمهارات التي تعتبر أولية و ضرورية لاستيعاب المنهج الجديد. و في الأخير تحدثنا عن تيار “إدارة العمليات الذهنية” التربوي. لقد بيَّنا – معتمدين على أعمال مؤسس هذا التيار التربوي – أنه يهدف إلى تزويد المتعلمين – ذوي مشاكل دراسية- بالأدوات التي تسمح لهم بالحصول على نتائج مرضية. بتعبير آخر فتيار إدارة العمليات الذهنية يركز على عملية الاسترجاع الذهني للمعلومات التي – حسب مبتكر هذا التيار التربوي – يمثل الشرط الأساسي لنجاح العملية التعليمية. إن عدم القيام بهذا النوع من العمليات أثناء عملية التعلم لا يؤدي إلا إلى فشل هذه العملية.
كذلك فإن الفشل الدراسي ليس مقدَّرا على الطالب، بل يمكن التغلب عليه لأنه كما تقول إ. قريبو E. GREBOT ” ليس نتيجة لعدم قدرة المتعلمين على التعلم و لكن لجهل هؤلاء بالطريقة الجيدة لكتابة النص ( مثلا ) . عندما تقوم بتزويد المتعلمين بالطرق الجيدة، سنلاحظ تحسنا واضحا في مستوى الطالب “.

تدفعنا أقوال إ. قريبو E. GREBOT إلى القول أن المهارات و المعلومات يمكن اعتبارها مادة أو موضوعا دراسيا. فنتائج العملية التربوية مرتبطة، ولو جزئيا، بطريقة تصور المدرس لعمليتي التعليم و التعلم.

 

 

 


المراجع:

1- BRU ( M )., Les variations didactiques dans l’organisation des conditions d’apprentissage, Toulouse, Editions Universitaires du Sud, 1991

2- COTE ( R. L )., Psychologie de l’apprentissage et enseignement, une approche modulaire d’autoformation, Canada, Gaëtan morin, 287 p

3- DE LA GARANDERIE ( A )., Comprendre et imaginer, Paris, Le Centurion, 1992

4- DE LA GARANDERIE ( A )., Pédagogie des moyens d’apprendre, Paris, Le Centurion, 1982

5- DEVELAY ( M ) ., De l’apprentissage à l’enseignement : pour une épistémologie scolaire, Paris, ESF, 1992

6- GEORGE ( C )., ” Comment conceptualiser l’apprentissage “, revue française de pédagogie, n° 7, juillet – août – septembre, Paris, INRP, pp 7 – 61

8- GREBOT ( E )., Images mentales et stratégies d’apprentissage, Paris, ESF, 1994

9- HADJI ( C ) ., Penser et agir l’éducation, Paris, ESF, Collection pédagogie, 1992

10- Le MEIGNEN ( M. F )., Faites – les réussir, Paris, Organisation, 1995

11- LEGENDRE ( L )., Dictionnaire actuel de l’éducation, Montréal, Guérin, 2 Edition, 1993, 1500 p

12- MEIRIEU ( P )., Apprendre … Oui, mais comment, Paris, Editions ESF, 1987, 180 p

13- MEIRIEU ( P ).,Stratégies d’apprentissage, Les chemins de l’apprendre, Cahiers pédagogiques, n° 246, 1986, pp 11 – 19

البحث في Google:





عن أ.د. ناصر عبد الحميد يونس

عضو هيئة التدريس بقسم اللغة الفرنسية – كلية اللغات – جامعة طرابلس - ليبيا. نشر العديد من البحوث في مجال التعليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *