هل يفتح مفهوم التعلم للمتعة آفاقاً جديدة في ميدان التربية؟

ظهر مفهوم التعلم للمتعة Learning for Fun للإشارة إلى مشاركة الطلاب في خبرات تعلمهم وتقييمهم وتمتعهم بعملية التعليم في حد ذاتها، حيث يقدم هذا الاتجاه مجموعة من خبرات التعلم الفريدة والمميزة، والتي سيكون لها انعكاساتها على البحث التربوي المستقبلي وتصميم الخبرات التعليمية.
إن عبارة ” التعلم للمتعة ” تستخدم هنا للإشارة للتوجه نحو مشاركة الطلاب في خبرات تعلمهم بسبب أنهم يتمتعون ويقيمون عملية تعلمهم في حد ذاتها… أكثر من أي أسباب أخرى، مثل الحصول على مخرجات تعليمية محددة. فالمشاركة في خبرة التعلم تعد قيمة ومتعة في حد ذاتها بغض النظر عن المخرجات التعليمية التي يمكن أو لا يمكن أن تتحقق.
ويرى فالك (1982) أن التعلم للمتعة يشبه استخدام أسلوب التسوق المعروف: The analogy of a window-shopper ، وفيه لا يهدف الفرد لشراء شيء محدد ولكن مجرد التمتع بخبرة التسوق. كذلك مصطلح autotelic فعل الشيء لغايته للإشارة إلى نوع من الأنشطة مثل تسلق الصخور و لعب الشطرنج و الموسيقى والرقص ولعب الرياضة، والتي نتيجة ممارستها يحس الفرد بالإشباع والسعادة.
التعلم للمتعة هو خبرة يبحث عنها العديد من الأفراد بحثاً واعياً، و البعض يجدونها بالصدفة، وهي إسهام فريد في ميدان خبرات المتعة التعليمية، والخاصية التي تجعلهم يبتعدون عن التعليم الرسمي بصورته التقليدية.
التعلم للمتعة هو تعلم وخبرة أقل كثافة، حيث لا يُركز على الكم المعرفي المقدم للمتعلم، ويرى سيكزتيمهالي و هيرماسون (1995) أنه لا يعتمد على وجود أهداف واضحة لدى الأفراد أو تلقي تغذية راجعة، بل إنه يعتمد بالقدر الأكبر على الفضول المعرفي (روندز 2004). فهو ليس نتيجة الحرمان، ولا يعتمد على المكافأة الناتجة عن المعرفة الجديدة؛ ولكن التعلم للمتعة هو حالة تعتمد على الدافعية الذاتية وعملية التعلم هنا تعتبر مكافأة في حد ذاتها.
ففي التعلم للمتعة، تعد عملية التعلم هي الأكثر أهمية من المخرج التعليمي، لذلك فإن البحث وتقويم هذا النوع يحتاج للتركيز على خبرة التعليم بصورة أكبر من التركيز على المخرجات التعليمية.
ويتميز التعلم للمتعة بأنه تعلم حر الاختيار Free choice learning ، بمعنى أنه“يكون لدى المتعلمين فرص الاختيار الحقيقي لما ومتى وكيف ومع من يتعاملون“، فالتعلم للمتعة مبني على أساس دافعية المتعلم.
ولهذا، وعلى سبيل المثال، فالناس قد يشاركون في التعليم الحر الاختيار من أجل اكتساب معلومات محددة أو معرفة عامة، والذي يعتبر هاما بالنسبة إليهم. فربما يذهبون لمتحف التاريخ الطبيعي لرؤية حشرة أو عنكبوت معين، ويذهبون للمكتبة للبحث في تاريخ منطقتهم المحيطة، أو البحث في الإنترنت عن معلومات حول حالة طبية معينة. وهنا المهم بالنسبة للمتعلم هو المنتج التعليمي، أو المخرج التعليمي. وفي أوقات أخرى، يمكن أن يشارك الناس في التعليم الحر الاختيار ليس بسبب حاجتهم للحصول على معلومات محددة، ولكن من أجل خبرة التعلم في حد ذاتها والتي يعتبرونها ممتعة وذات قيمة.

أ- خصائص البيئات التعليمية في ضوء مفهوم التعلم للمتعة

هناك خصائص يجب أن تتوفر في البيئات التعليمية لكي تسهل عملية التعليم للمتعة وهي:
– الخبرات الحسية الغنية.
– أن تكون الخبرة جديدة.
– المفاجأة.
– الانجذاب.
– الحرية في الاستكشاف.
– المشاركة في الوصول إلى المعلومات.
ما سبق يمثل أبرز خصائص التعليم للمتعة، وبالطبع هذه الخصائص غير جديدة، ولكن ما هو جديد هو فهم أن هذه الخصائص هي التي تجعل عملية التعليم متعة في حد ذاتها، وربما من أهم الإسهامات في ذلك المجال أن المتاحف خصوصاً، وبيئات المتعة التعليمية الأخرى، يمكن أن تجعل الأفراد يعيدون اكتشاف المتعة في التعليم.
مثال التعليم في سياقات المتحف مثلاً، يراه أيزنبيرجر (1999) أقل كفاءة في تدريس الحقائق والمعلومات أو المفاهيم مقارنة مع الكتب و الإنترنت، فأهمية المتاحف تكمن خصوصا في البحث وفهم المعلومات، وهذا من خلال التعلم للمتعة.
إن التعلم يمكن أن يصبح متعة بغض النظر عن البيئة (رسمية أو غير رسمية) وعن الدافعية (سواء المركزة على العملية أو المخرجات). إن مصطلح التعلم للمتعة يؤكد على الجوانب الدافعية للظاهرة بدون أغراض أخرى سوى متعة التعليم نفسه، وأهمية فهم دوافع المتعلمين (فالك 2006)، حيث يقدر بعض الأفراد متعة البحث أكثر من المعرفة المكتسبة في حد ذاتها (سبوك 2006).

ب- الأطر النظرية والفكرية للتعليم للمتعة

فكرة التعليم للمتعة لها أفكار شائعة مع عدد من الأسس النظرية المتنوعة والتي تتضمن:

1- اقتصاد الخبرة The experience economy

اافترض “بيني” و”جيلمور” أن الخبرات ما هي إلا عروض اقتصادية تتميز عن البضائع والخدمات (1999)، وطبقاً لهما فالناس يريدون التأثر بالخبرة، وهم يبحثون عن الخبرات التي تغيرهم وتغير نظرتهم للعالم وتنمي قدراتهم وتثير إحساسهم بالتعجب والجمال والإحساس بالعجب (بيني وجيلمور)، ويرى بيني وجيلمور أنه ليس مجرد تقديم المعلومة هو المهم للطلاب ولكن الأهم هو الخبرة المحيطة بهذا التقديم.

2- خبرة التدفق Flow -experience

إن خبرة التدفق Flow تعني الإحساس بالمشاركة التامة في نشاط لدرجة نسيان الوقت والإرهاق وكل شيء آخر ولكن فقط النشاط. وقد سميت تدفقا “Flow” لأنها كما وصفها من لديهم خبرة بها : ما هي إلا تيار يجعلهم مركزين على النشاط، ويمكن أن توجد في أي نشاط سواء (اللعب، العمل، الدراسة، الرياضات، التدين). فمثلاً في زيارة الناس للمتحف يمكن لهم أن يمروا بخبرة التدفق عندما يكونون مهتمين ومشتركين طبقاً لمستواهم و أحرارا في الاكتشاف (سيكزتيمهالي وهيرمانسون 1995).
إن التدفق يمكن أن يوصف على أنه ربط خبرتين ببعضهما، وهما: المتعة و التركيز المكثف، وأن خبرة التدفق ممتعة لدرجة أن الناس يقضون أوقاتاً طويلة للحصول عليها.

3- المقابل الجمالي The aesthetic encounter

يعد المقابل الجمالي في التعلم للمتعة أبرز مخرجات التعلم للمتعة بغض النظر عن مدى المخرجات المعرفية. فالناس يبحثون عن الخبرة الجمالية لعدة أسباب مختلفة والتي تشمل مختلف الأبعاد المعرفية والحسية والعاطفية.
وفي ضوء هذا فالخبرات الجمالية هي فعلاً هامة، والخبرة الجمالية تتفق في مفهومها مع خبرة التدفق، بل و يوجد من يعتبر المتعة مشتقة من المقابلات الجمالية والتي تفسر على أنها إشباع الحاجة للمعرفة والفهم.

4- الفضول المعرفي Curiosity

و يرتبط بالأفراد الذين يكون هدفهم اكتساب معرفة معينة و إشباع فضولهم والتمتع بالعملية نفسها. ويرى روندز أن المعرفة المكتسبة بهذه الطريقة واسعة سطحية أكثر منها ضيقة عميقة. ويتفوق التعليم الرسمي في هذا الجانب. (2004 : 390-391). ويوضح كذلك أن مثل هذه المعرفة يتم اكتسابها بدون وجود استخدام مسبق من العقل، بما يزيد قدرات التفكير الإبداعي والاستجابة للتغيير في البيئة.
و يُعلي سبوك من أهمية الفضول كدافع للأفراد “إن فكرة التعليم لها جذور في كل ما يتعلمه الفرد “. والنظريات النفسية تنظر للفضول كشعور بالاهتمام و كشعور بالحاجة لتقليل عدم اليقين (Litman 2005).

5- الدافعية الذاتية Intrinsic motivation

التعلم للمتعة يعتمد على دوافع ذاتية، وليس بسبب أي مكافآت متوقعة، على خلاف التعليم الرسمي الذي يرتبط عادة بالمكافأة الخارجية مثل التقديرات والمخرجات الوظيفية، فالتعليم في البيئات غير الرسمية يعتمد على الدافعية الذاتية. وطبقاً لهيدي وهاراكويزيك (2000) فإن النظرية والبحث المرتبط بالدافعية الذاتية في التعليم ومهامه تركز على الاهتمامات الشخصية (وهي اهتمامات سابقة الوجود وثابتة في الموضوع)، لذلك فالطالب يعتبر مدفوعا ذاتياً إذا استمر اهتمامه بالخبرة.
إن بعض الناس يشاركون في خبرات التعلم من أجل قيمة المتعة في حد ذاتها “enjoyment value” وخبرة التعلم يمكن أن تكون شخصية أو مشاركة… ويمكن أن تتضمن أبعاداً متعددة (الحسي والانفعالي والمعرفي) ويمكن أن توفر نمطا للاتفاق بين التحدي والمهارات التي يمكن أن تؤكد الكفاية وتؤدي إلى الحس الكلي المشارك المعروف بالتدفق، ولهذا فهي يمكن أن تكون ممتعة داخلياً، ومحققة للسعادة في حد ذاتها بغض النظر عن أي مكافآت ترتبط بالمعرفة التي يتم الحصول عليها.

ج- أبعاد التعلم للمتعة

– التعلم للمتعة يتضمن مزيجاً من الاكتشاف والاستكشاف والإثارة العقلية والتشويق حيث يقدم التعلم للمتعة الشعور بالسعادة والرضا، ويكون الفرد أكثر علماً بإحداث إثارة عقلية واكتشاف أشياء جديدة، وتوسيع اهتمامات الفرد، كما أن البحث والاكتشاف يقدم تعلما أكثر نشاطاً عن الخبرات الجديدة والشيقة والمثيرة. ومثل هذه الخبرات هي جوهر التعليم للمتعة.
و يبقى التعليم والاكتشاف والمتعة من أهم أسباب و عوامل الإصلاح وتحقيق التواصل الاجتماعي وتحقيق الذات (باكر, 2004). وهذا يدعم أهمية التعليم للمتعة كبنية دافعية في سياق خبرات المتعة التعليمية وخصوصاً في المتاحف حيث التعليم والاكتشاف أكثر أهمية في الدرجة عن المتعة السلبية (باكر وبالنتين 2002). وهذه النتائج تتضمن ليس الربط بين التعليم والمتعة ولكن خبرة يكون التعليم فيها و إثارة و مغامرة.
– يقدر الأفراد التعليم للمتعة لكونه خبرة تحويلية: يقدر الناس أهمية الخبرة التحويلية التي يقدمها التعلم للمتعلم بسبب دوره في تغيير أسلوب حياتهم ونظرتهم للكون وتنمية قدراتهم الشخصية، فأي تعلم هو تحويلي بطبيعته، وهذا أهم ما يميز الجوانب الانفعالية والمعرفية والتي تعتبر مميزة لبيئة التعليم غير الرسمي. ويرى الأفراد أن هذا النوع من التعليم يعزز قدرة الأفراد على التفكير الإبداعي و على الاستجابة لأحداث المستقبل غير المعروفة.
– غالبية الأفراد يعتبرون التعليم أكثر متعة بواسطة هذا الأسلوب.
– هذا الأسلوب حقق فاعلية في تشجيع الأفراد على البحث والتعلم.
– هناك 4 شروط توصيلية في خبرة التعلم للمتعة وهي التي تجعل التعلم ممتعاً (باكر 2004) وهي:
1- منطق الاستكشاف أو التخيل: في وصف خبرات للتعلم وصفها أفراد العينة بأنها جديدة ومختلفة ومدهشة أو ساحرة وأنهم كانوا منجذبين للمعلومات وخصوصاً إذا كانت مرتبطة بشيء يعرفونه بالفعل أو يتذكرونه. وفي هذه الحالات فإن منطق إعادة الاستكشاف هو ما وجدوه جذابا.ً
2- اللجوء للحواس المختلفة: ذكر أفراد العينة عند وصفهم للخبرة أن طبيعة الخبرة متعددة الحواس Multi-sensory nature من العوامل التي جعلتها ممتعة.
3- قلة الجهد المبذول ظاهرياً: وهذا عامل مهم يحدد إقبال الطلبة على التعلم، فالتعلم أثناء اللعب يعد سهلاً أو قليل الجهد..(باكر وبالنتين 2004 ).
4- إتاحة الاختيارات: الخاصية المميزة للتعلم للمتعة هو إتاحة فرص الاختيار… وهو يبدو مكونا أساسيا يسمح للخبرات أن تصبح شخصية وإعطاء القدر الصحيح من التحدي لكل فرد.
التداخل بين هذه الشروط الأربع والشروط التي وضعها كابلان (1995) ضروري لاستبقاء الخبرة، أو تحديداً وجود انجذاب وانتباه لخبرات التعلم. فالبيئة لابد أن تكون غنية ولا بد من تحقيق التوافق بين البيئة وأغراض الفرد وميوله. ويشير كابلان إلى أن أحد مزايا التعلم للمتعة هو قدرته على مساعدة الأفراد على التخلص من الضغط الناجم عن الحياة اليومية.

الخاتمة

إن التعلم للمتعة يحدث في مدى من البيئات التعليمية مثل المتاحف والحدائق والمعارض البحرية والحدائق القومية والمواقع التراثية، وقد درس هذا المقال بعض خصائص التعليم للمتعة، والشروط التي يحدث من خلالها، وأسباب الاهتمام بها من قبل الأفراد. وهناك حاجة للبحث المستقبلي حول مخرجات وجوانب عملية التعلم للمتعة، والإجابة على التساؤلات الآتية:
– كيف تختلف الخبرات المكتسبة بواسطة التعليم للمتعة عن خبرة التدفق؟ أو الخبرات الجمالية؟
– هل هذا النوع من التعليم لا يحتاج لمجهود؟
– ما هي خصائص بيئة التعليم التي تسهل بصورة أعمق مداخل وطرق التعليم؟
– كيف تختلف مخرجات التعلم للمتعة عن مخرجات التعليم الرسمي التقليدي؟

البحث في Google:





عن د. خالد صلاح حنفي محمود

دكتوراه أصول التربية، مدرس أصول التربية كلية التربية – جامعة الإسكندرية

10 تعليقات

  1. د. تيسير السعيدين

    لما كانت الاستراتيجيات التدريسية كثيرة ومتعددة ، ولكل واحدة منها نكهة معينة ، فإن التعلم للمتعة يأتي على رأس قائمة الاستراتيجيات التي تتم من خلالها عملية التعلم للخبرات غير المحددة التي نريد للمتعلم الالمام بها ، وذلك من خلال عرضيتها وعدم مقصوديتها ، وذلك حسب سرعته في ذلك .

    • خالد صلاح

      فعلا وهى استراتيجية تأخذ بها دول العالم المتقدمة وتسعى العديد من الدول لتطبيقها عبر العديد من الآليات والصور

  2. نهله صابر تاوضروس

    مقال أكثر من رائع ، أفكار منظمة ، العمل بها يرفع من شأن التعليمفي بلدنا ، فقط أرجعوا إضافة المراجع لتعم الفائدة

  3. ا د جمال الدهشان

    مقالة رائعة د خالد فى ظل ما تعانيه مدارسنا من هجر الطلاب لها

    • خالد صلاح حنفى

      شكرا لسعادة العميد أ.د. جمال الدهشان تعلمنا على يديكم الكثير والكثير ولا نستطيع أن نعطيكم ولو جزء من أفضالكم وفقكم الله وأعزكم وهذه شهادة أفتخر بها من أحد رواد وعلماء التربية فى وطننا العربى

  4. شيماء منصور

    السلام عليكم
    شكرا جزيلا د.خالد على هذا المقال الرائع
    انا باحثه دكتوراه لو ممكن ايميل حضرتك لتواصل بخصوص تحكيم شكرا جزيلا 🙂

  5. د. يحيى أحمد

    يتم تطبيق هذا النهج ومفهوم التعلم للمتعة في عدة مدارس بايطاليا منذ اكثر من خمسة عشر عاماً

    • خالد صلاح حنفى

      بالفعل الدول الأوروبية سبقتنا كثيرا فى هذا المجال نتمنى أن تصير مدارسنا جاذبة للطلبة وخبرات التعلم ممتعة بالنسبة لهم

  6. مقال TOP مفيد جدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *