تجربتي مع التعلم القائم على المشاريع Project based learning و المهارات المرنة Soft skills

من أهم الخبرات التعليمية التي وجدتها أثناء معايشتي في المدارس الفنلندية هو إتقان المعلمين لاستخدام استراتيجية التعلم القائم على المشاريع PBL. فهم يعتقدون بأن أفضل طريقة لإعداد الطلبة للمستقبل هي تمكينهم في الوقت الحاضر، وذلك عن طريق إكسابهم ما يُصطلح عليه بالمهارات المرنة Soft skills، وهي تلك المهارات التي تحدد شكل العلاقات مع الآخرين والنهج المتبعة في الحياة والعمل. بينما نجد أيضا تصنيف آخر للمهارات والتي يطلق عليها اسم المهارات الصلبة، وهي تلك المهارات التي تشمل القدرات المعرفية المحددة والمطلوبة لأداء العمل.

فعندما ركزت شركة Google لسنوات على توظيف أفضل طلاب علوم الكمبيوتر ممن تفوقوا في مجال المحتوى الرقمي، مفترضين أن الابتكار يتطلب أفضل عقول علوم الكمبيوتر في العالم. لكن عندما اختبروا هذه الفرضية، صدمتهم النتائج. حيث تبين لهم بإن أهم 7 خصائص للنجاح في بيئة العمل هي وجود موظفين لديهم المهارات المرنة، والتي تشمل التالي:

  1. التواصل والمشاركة في الحوار.
  2. العمل الجماعي والتعاطف مع الزملاء.
  3. التأقلم والمرونة.
  4. الإبداع وحل المشكلات.
  5. القيادة واتخاذ القرارات.
  6. القدرة على الربط والاستنتاج عبر الأفكار المعقدة.
  7. التفاوض والإقناع.

وعندما ينخرط الطلبة في التعلم القائم بالمشاريع، فإنهم سيطورون تلك المهارات والتخصصات اللازمة للنمو في الاقتصاد الإبداعي، كما أنهم سيجربون متعة التعلم. بحيث يكونون قادرين على الوصول إلى حالة من التدفق الإبداعي، وتعلم المعنى الحقيقي للإبداع والابتكار. وبالتالي سيصبحون مفكرين، ومستقلين ذاتيا.

وفيما يلي بعض النتائج التي لاحظتها عندما يشارك الطلبة في التعلم القائم على المشاريع. وهي للإشارة ليست دراسة علمية بقدر ما لاحظتها من تجاربي الخاصة أثناء تدريسي للطلبة الموهوبين.

1– يتعلم الطلبة كيفية التعاون في تحقيق هدف مشترك

عندما يشارك الطلبة في بيئة التعلم القائم على المشاريع، فإنهم غالباً ما يحصلون على فرصة للعمل في مشاريع تعاونية، حيث يعملون بشكل مترابط لحل المشكلات في بداية الأمر. و هو ما كان تحديًا كبيرًا لي كمعلم، لأنني كنت مترددا في استخدام نظام المشاريع والمجموعات مع طلابي، وذلك بسبب طريقة تقييم مشروع كل مجموعة، وخصوصا عندما يقوم طالب واحد بكل العمل وبقية زملائه سيكافؤون بدون أي جهد أو مشاركة. ولكن بعد ذلك أدركت أن التعاون ليس مجرد مهارة، بل إنه انضباط، وعمل يحتاج إلى سنوات من التدريب. لذلك، بدأت في تضمين المعايير التي من شأنها أن تساعد على ضمان مشاركة كل طالب في المشاريع التعاونية. لم ينجح الأمر في كل مرة، ولكنني شاهدت الطلبة يتعلمون كيفية المشاركة في تعاون مثمر.

وعندما يتعاون الطلبة بصدق في بيئة التعلم القائم بالمشاريع، فإنهم يتعلمون كيفية التحدث والاستماع. يتعلمون كيفية طرح الأسئلة المثيرة، وكيفية المساهمة في الفريق، وكيفية إعطاء وتلقي الملاحظات النقدية. مما يؤدي إلى النقطة التالية.

2– يتعلم الطلبة رؤية الفروق الدقيقة في جهات النظر المختلفة

عندما ينخرط الطلبة في بيئة التعلم القائم بالمشاريع، فإنهم يتمكنون من مناقشة وجهات النظر المختلفة، وهو ما يمكن للمعلمين الاستفادة منه من خلال مطالبة الطلبة بالنظر ومناقشة وجهات نظر جديدة أثناء مرحلة الاستقصاء الأولية، بحيث يمكن أن يساعد ذلك على دفعهم إلى طرح أسئلة متعددة بمفردهم، ثم مشاركتها مع زملائهم في المجموعة وبقية المجموعات الأخرى.

كما يمكن للبحث أن يساعد الطلبة على العثور على مصادر من وجهات نظر مختلفة والخوض عمداً في دقة الأفكار، مع استخدام أسلوب منظم لتبادل الأفكار يشجعهم على فحص الأفكار من زوايا متعددة.

3– يصبح الطلبة مفكرين مُتباينين

تُشجع وحدات التعلم القائمة على المشاريع الطلبة على معالجة المشكلات من منظور فريد، وهذا هو قلب التفكير المتباين. إنها القدرة على استكشاف المشكلات من زوايا مختلفة، واستخدام المواد بطرق مختلفة، وفي نهاية المطاف تصبح مبتكراً. وهنا يكمن التفكير الإبداعي.

لكن غالباً ما يتعين على المعلمين العمل بموارد محدودة أو جداول زمنية ضيقة، لذلك يتوجب عليهم اختراق تلك المعايير والأنظمة لربطها بوحدة التعلم القائم بالمشاريع. و في هذه العملية، يتعين على المعلم أن يساع طلابه على التفكير خارج الصندوق من خلال “التفكير داخل الصندوق”. فعندما يتعلم الطلاب “التفكير داخل الصندوق”، فإنهم يمارسون نوعًا من التفكير المتباين الذي سيحتاجون إليه في المستقبل.

4– يتعلم الطلبة إدارة المشاريع

عندما أتحدث إلى أشخاص يعملون في مجال الأعمال التجارية وفي الفنون وفي مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، كثيرا ما أسمعهم يذكرون أنهم كانوا يرغبون في تعلم كيفية إدارة المشروع عندما كانوا أصغر سنا.

إذا كنا نريد أن يفكر الطلبة مثل الفنانين ورجال الأعمال والمهندسين، فهم بحاجة إلى فرصة للمشاركة في إدارة المشروع. فعندما يتمتع الطلبة بالملكية الكاملة للمشروع، فإنهم يتعلمون كيفية المشاركة في إدارة المشروع. وهذا يُمكِّنهم من تحديد الأهداف ومراقبة التقدم والتكيف والتفكير في تعلمهم. فإدارة المشروع هي أكثر من مجرد تحديد جدول زمني، إنها فكرة متابعة خططك والاستمرار في تنفيذ المهام حتى عندما لا يقوم أي شخص بمراقبتك والإشراف عليك. هذا ما يحدث عندما تتعلم كيفية صياغة أهداف واقعية وتقسيمها إلى مهام.

5– تطور عقلية الصانع

من أكثر الأشياء الصادمة التي أسمعها من بعض الطلبة هي “أنا لست من النوع الإبداعي”. في حين أني لا أعتقد أن هناك “نوعًا واحدا من الإبداع”، فنحن جميعنا مبدعون. و تعتبر بيئة التعلم القائم على المشاريع  فرصة رائعة للطلبة لامتلاك العملية الإبداعية بأكملها، مما يؤدي إلى بناء عقلية الصانع، حيث يمكنهم التفكير مثل المصممين والفنانين والمهندسين. عندما يحدث ذلك، يكون الطلبة قادرين على تبني تعريف أكبر للإبداع وتقييم الأعمال الإبداعية من حولهم.

غالبًا ما نسمع أن طلابنا الحاليين سيعملون في وظائف غير موجودة في الوقت الحالي. في حين أن هناك حقيقة أخرى، وهي أن طلابنا الحاليين هم الذين سيخلقون تلك الوظائف، سيكون عليهم إعادة كتابة القواعد. سيكون بعض الطلاب أطباء أو مهندسين أو معلمين أو فنانين أو محاسبين، و سيعمل البعض في مجال التكنولوجيا، والبعض الآخر على طاولة في ممر للشركات، والبعض الآخر في الأماكن الاجتماعية أو المدنية. ولكن كل واحد منهم سيحتاج إلى التفكير الإبداعي في وظيفته.

أثناء عمل الطلبة من خلال بيئات التعلم بالمشاريع، ستتاح لهم الفرص لتجربة مجموعة واسعة من التفكير الإبداعي: سيتعلمون كيف يفكرون كعالم، وأيضًا كمهندس أو كفنان في لحظة واحدة… ومع مرور الوقت، يرون أن العمل الإبداعي متعدد التخصصات، وهو ما يؤدي في النهاية إلى عقلية الصانع، حيث يتعلم الطلاب أن ينظروا إلى العالم بطريقة مختلفة، وإيجاد حلول جديدة للمشاكل المعقدة. مما يؤدي إلى النقطة التالية.

6– يصبح الطلبة قادرين على حل المشكلات

تشجع بيئة التعلم القائم بالمشاريع الطلبة على حل المشكلات المعقدة من خلال المشاركة في الاستقصاء والبحث والتفكير. وهو نوع العمل الذي لا نستطيع أن نقدمه للطالب على شكل اختبار أو حل ورقة عمل، حيث يتطلب الأمر من الطلبة عرض المشكلات من زوايا مختلفة، وأحيانًا التنقل في أنظمة مختلفة من أجل حل تلك المشكلات المعقدة. والطلبة لا يقومون بحل المشكلات فحسب، بل يأخذونها إلى المستوى التالي ويقومون بالفعل بإنشاء وتقييم الحلول. لذلك، فهم قادرون على رؤية أن حل المشكلات يرتبط في الواقع بسياقات العالم الحقيقي.

وقد لاحظت أن هذا الإنجاز لا يتحقق دائمًا، فهناك لحظات محبطة. ومع ذلك، يعتبر هذا أيضًا جزء من عملية حل المشكلات. حيث يحصل الطلبة على فرصة الفشل للتقدم نحو الإنجاز. وهذا يؤدي إلى نقطتي التالية.

7– يتطور التفكير التكراري لدى الطلبة

يتضمن التعلم القائم على المشاريع مرحلة للمراجعة. في بعض الأحيان، يتعلق الأمر بالملاحظات والمراجعة بينما تتطلب المشروعات الأخرى الاختبار والمراجعة، ولكن الفكرة هي نفسها. الطلاب يقومون بالاختبار ثم المراجعة والتكرار. و هو أحد المجالات التي أرى فيها انفصالًا كبيرًا بين المدرسة (حيث يتم تقييمك مرة واحدة والمضي قُدمًا) في مقابل الحياة (حيث تتطور باستمرار وتتكرر).

أرغب في أن يتعلم الطلبة كيفية معرفة ما الذي ينجح، وأن يفهموا ما الذي ينجح، ثم يؤدوا تكرارًا أفضل. ولكن هذا يتطلب تحولا التقييم بالدرجات إلى التقييم على الكفايات وحرية ارتكاب الأخطاء.

ولا يعمل التفكير التكراري إلا عندما يواجه الطلاب مرحلة الركود، ومع ذلك، عندما يكون لديهم هذا الإذن بالفشل، يمكنهم بعد ذلك تحسين عملهم وتطوير قدرتهم على التحمل.

8– التفكير التكراري يؤدي في النهاية إلى عقلية النمو

إنه أمر غير مستغرب، ولكن أفضل طريقة للطلبة للحصول على معايير أعلى هي تجربة الإذن بالفشل. هذا لا يعني أننا نحتضن الفشل، ولكننا نعامل الفشل كجزء من عملية التعلم، وأن الفشل أو الخطأ هو شيء مؤقت ويدفعنا نحو الإنجاز.

وللأمانة، بيئة التعلم القائم بالمشاريع ليست ممتعة دائما للطلبة. ففي بعض الأحيان يكون الأمر محبطًا حقًا. لقد بكى عندي كثير من الطلبة عندما لم ينجح مشروعهم في العمل. حيث أنهم أرادوا فقط أن يعمل مشروعهم ولو لمرة واحدة فقط. لكن في النهاية، عندما نجحوا في ذلك، فإن عقلية النمو لديهم قد تطورت.

9– تطور التفكير في ما وراء المعرفة

عندما رأيت دورة عملية ما وراء المعرفة لأول مرة، تبادر في ذهني خطوات التعلم القائم بالمشاريع، وذلك لأن استراتيجية التعلم القائم بالمشاريع تشجع الطلبة على التخطيط والمراقبة والتفكير خلال العملية بأكملها. لذلك، إذا كنا نريد أن يمر الطلاب من تلك المراحل، فهم بحاجة إلى العمل في المشاريع. مشاريع حقيقية. وهذا يتطلب في نهاية الأمر معلما يرغب في اتخاذ قفزة نوعية في أسلوبه، وجعل بيئة التعلم في صفه ومنهجه قائمة بالمشاريع.

البحث في Google:





عن رائف بن حسن بودريس

أخصائي موهبة وابتكار في وزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية، وماجستير في المناهج وطرق تدريس العلوم في جامعة الأمير عبدالرحمن بن فيصل. حاصل على جائزة الأداء المتميز فئة المعلم على مستوى تعليم المنطقة الشرقية. مبتعث إلى فنلندا في برنامج خبرات ومدرب عالمي في تصميم المناهج الإثرائية العلمية بمنهجية STEM/STEAM من جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة ميتشيغان. مؤلف كتاب كيف تصبح فائق التفكير وكتاب برنامج STEM ومساحة الابتكار

3 تعليقات

  1. خضر ابو خضر

    قرأت واستمتعت بطريقتك السلسة والواضحة .
    لممارستي التعليم المنهحي وعملي بالتربية اللامنهجية . وجدت ان اعطاء الطلاب والعمل التعاوني بفرق كما نسميها تفتح مجال التجربة الحياتية وتدريب المهارات المختلفة ( المراتوريم) واهمها حل المشكلات لكثرتها في حياتنا . والتفكير الابداعي . واخيرا ذكرني هذا المقال بالقبعات الست لديبونو .

  2. علي أحمد

    بالفعل شكرا جزيلا على الجديد

  3. طريقة ممتعة و ذكية في نفس الوقت. لكن كما قلت كيف يمكن تدريب الطلاب على هذه الطريقة الجديدة؟ هل يمكن أن تجمدنا لو سمحت بمثال تطبيقي؟ ربما تفتح المربين آفاقا جديدة.
    وشكرا جزيلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *