تعلّم اللغة العربية لمتعددي الثقافات واللغات وفقًا لمفهوم التعلم من بعد

يبدو أن تعليم اللغة العربية وتعلّمها لمتعددي الثقافات واللغات يمتثل إلى سلطة الخيار الإلزامي لمفهوم التعلّم من بعد؛ نتيجة أزمة ” كوفيد 19″ وأخذ يترافق مع خطاب سلطة القوة، من لا يمتلك التقنيات الحديثة في التعلّم من بُعد لن يلحق بركب التطور المعرفي العالمي.

وقد يشكّل  هذا الخطاب مصدر قلقٍ لبرامج تعليم اللغة العربية وتعلّمها في بلدانها؛ إذ حفزّت التغييرات الاجتماعية والتكنولوجية التوسع في تغيير كيفية التعلّم عبر شبكة الإنترنت، والسعي إلى الطلب المتزايد حاليًا إلى عروض التعليم العالمية، وتوليد الرغبة لدى المؤسسات التعليمية التعلميّة للوصول إلى جمهور جديد، والاحتفاظ بمكانتها في السوق العالمية. كما أنّ هذا التدفق التكنولوجي -على توسعه في ضوء خطابه- أشبه بشلال يضرب رأسيًّا بقوة، ويحفر في الأرض، كأنّه سيل يجرف معه كل خطاب معرفيٍّ جرى  تطبيقه أو محاولة تطبيقه في التعلّم من قُرب – إذا جاز التعبير- كي لا تصنف كل  النظريات الحديثة وطرائقها  في تعليم اللغة وتعلّمها بأنّها تقليدية تحت مفهوم التعلّم من بُعد ليفكّكه في  مجراه، ويُسيّره تبعًا لهدفه.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، الخطاب  المستعمل وفقًا للمدخل التواصلي، في مجال تعليم اللغة وتعلّمها، والقائم على الاندماج اللغوي في بيئتها اللغوية ومنح متعلم اللغة العربية فرصًا متزايدة للتفاعل الاجتماعي مع أبنائها، وتعرضًا لمجموعة أوسع من خيارات الخطاب اللغوي من أجل توضيح المعاني الاجتماعية المتعددة؛ إذ ” لا يمكن التوصل إلى فهم حقيقيٍّ للنتائج الاجتماعية للخطاب من دون النظر عن قرب في ما يحصل عندما يكتب الناس، أو يقرؤون”(فاركلوف، 2009،21).

إنّ هذا التوسع في رفع مستوى الوعي بمفهوم ” التعلّم من بُعد”  لكي لا يحدث تشويشًا؛ يَتَلمَّس تطبيقًا تجريبيًا قبل الإعلان عن نجاح تحقيقه بناءً على دراسات تجريبية عينتها لا  تكفي لتعميم النجاح.

وتجدر الإشارة إلى أنّ التعلّم من بُعد ليس بجديد، كما أنّه ليس وصفة جاهزة؛ لكونه في ساحة الممكن. فمثلاً الإنسان يتعلّم من الآخر وعنه، بوساطة القراءة التي يتعرّف فيها على تجارب الآخرين، وهو جالس على مقعده مستمعًا إلى الموسيقى، أو يتعلّم من حكاية صديق زار بلدًا ما ونقلها له، أو يتعلّم الطهي من وصفة مقروءة أو مستمع إليها، أو يتعلّم بمشاهدة الأفلام، والمسرحيات، ومن ثمّ يتعلّم  وجهًا لوجه على مقاعد دراسية، وفي بيئة اجتماعية. وقد دُعم هذا التعلّم عاطفيًا، بحسب بيئته التعليمية التعلميّة. من جهة أخرى، فالتعلّم من بُعد  سيجري عبر  تقنية الشاشة، وسوف يغير طبيعة التفاعل، ولاسيما في مجال تعليم اللغة وتعلّمها؛ إذ يُطلب من القائمين عليه إيجاد مساحة، لدعم النمط الوجداني الحسي تفاعليًا، عبر شاشة فاصلة بين منتج (محتوى، ومعلم، ومتعلم)،  ومستقبل (محتوى، ومعلم، ومتعلم)، علمًا أنّ مفهوم “التعلّم من بُعد” يتناول التعلّم، وليس التعليم الفاعل والمنظم لفاعل التعلّم، ويركّز على  المتعلم والمعرفة المتحصّلة لدى المتعلمين التي تنتج تغيرًا في أدائهم اللغوي ويمكن قياسها.  ولقد عرّفه وايتكما يلي: هو التعلّم  الذي “يجري تصوره على أنّه فرصة تطوير تعلّم اللغة بوساطة التكنولوجيا” (White ,39,2006). وهذه الفرصة قد تتطلّب مهارات الثقافة الإلكترونية الكلاسيكية التي ساقها ماركلوف نقلًا عن كتاب مرشد في إدارة الأعمال التي تعبّر عن الأساس لمفهوم الثقافة الإلكترونية على الرّغم من تمايزها ” التأقلم مع المحيط، وتنويع التفكير، ورؤيا موحية، وتكوين ائتلاف، وتنمية فريق عمل، والاستمرار على الرَّغم من الصعوبات، والافتخار بمن يستحق ذلك، والاعتراف له بالجميل“. (فاركلوف،2009،237)

العلاقة بين المعلم والمتعلم في ضوء التعلّم من بُعد وليس عنه:

كان الحوار مع بعض المتعلمين بابًا عبر الهاتف الآلي في تسعينيات القرن الماضي للاطمئنان عني أو السؤال عن قضية باللغة العربية، يجري من خلاله التصويب لما يقولون باللغة العربية، وكذلك الأمر في تدقيق الرسائل التي ترسل بظروف ذات طوابع بريدية ملونة ترمز إلى تعدّد الثقافات التي قد تعلّم أبناؤها اللغة العربية. فكنت حينها أكتب الردَّ مرفقًا بتصويبات للأخطاء في رسائلهم حتى وإن لم  يطلبوا ذلك. وأول خطأ كان في اسمي؛ إذ يكتبونه مرة “ماها “ومرة “مه”، وولّد هذا  الخطأ حينها تحديًّا لي في التهيئة لتغذية راجعة لتمييز المتعلمين بين الحركات الطويلة والقصيرة كتابيًا فقط؟ مع الأخذ بالاعتبار أنّه لم يؤثر في التواصل؛ بحكم العلاقة المسبقة بيننا، ولكنّه قد يؤثّر في فهم كلمات في سياقات مختلفة.
وفي بدايات القرن الحالي طُوِّر التواصل بيننا عبر الإيميل  ضمن مجموعة، أو عبر برنامج ” السكايب” بشكل فردي، واستمّر ذلك خلال السنوات السابقة. كان هذا التواصل الودي والتعليمي التعلمي مشوقًا؛ لأنه كان مبنيًّا على معرفة حقيقية غير افتراضية بين المتعلم، واللغة، والمعلم. والمذكور آنفًا إنّما سقته توضيحًا للافتراض؛ إنّ مجموعة من المتعلمين الجُدد ليست لديهم معرفة مسبقة لا باللغة العربية،  ولا بمعلمها، وسيتعلمون اللغة العربية من خلال شاشة فاصلة بينهما. والسؤال الوجيه هو كيف نحقّق تعلّما ناجحًا بناءً على تواصل  افتراضي أفقيٍّ بُعديٍّ جديد، يركّز على المتعلم؟  وكيف يجري توافر الدّعم المنهجي من خلال الإجراءات الإدارية، وأنظمة إدارة المعلومات التي تتسم بالفعالية والشفافية، والملاءمة، كي تستوفي شروط أفق حركة التغيير في تعلّم اللغة العربية وتعلّمها من بُعد؟

وتجدر الإشارة هنا إلى وجود اختلافات قد تكون جوهرية في المعرفة والمهارات والسمات المطلوبة؛ لأداء وظائف الدعم في التعليم. فبالإضافة إلى الانتشار السريع لفكرة التعلّم من بُعد مع أهميتها بحسب أوهلر بتوفيرها فرصًا لتلبية الحاجات المستدامة للتعلّم، وبمنحها نوعًا من الاستقلالية الذاتية للمتعلم والثقة بالذات، غير أنّه يشكّل تحدِّيًا حيث غياب الرقابة للمتعلمين. وهذا يقودنا للسؤال: هل يؤدي  التعلم من بُعد إلى انخفاض جودة التعليم؟ (Ohler ,1991,22)

التحديات التي تواجه التعلّم من  بُعد في مجال تعليم اللغة العربية  وتعلّمها لمتعددي الثقافات واللغات المتعددة:

ومنها:

  • الوصول إلى شبكة الإنترنت هي أحد أهم الفجوات التي يجب مراعاتها، من حيث سرعة الاتصال، ودرجة توافره؛ لأن تعلّم اللغة من بُعد هو نموذج تدرّب مطّرد، يتضمّن الالتزام الذاتي، والانضباط من المعلمين والمتعلمين، في آن معًا، في توقيت زمني يناسبهم جميعًا.
  • قلة المحتوى الرقمي العربي، والمواقع التعليمية التعلميّة المتاحة ممّا يؤثّر في نوعية المدخلات التي تساعد المعلمين في تطوير مواد افتراضيّة في مجالات عدة تعكس ثقافة اللغة العربية مقابل ثقافات متعددة، وتناسب المستويات التعليمية التعلميّة كل على حدة، فمنها المحجوب، ومنها  المكلف مدفوع الأجر، ومنها المتوافر بدرجة أكبر من غيره…
  • إعادة تحديد أهداف التعلّم، التي قد فكّر فيها المعلمون مسبقًا، في بيئة تواصليّة وجهًا لوجه؛ لتحقيق الكفاءات اللغوية في المهارات الأربع؛ إذ إنّ المدخلات قد توفّر معرفة لغويّة في التعلم من بُعد، لكن قد لا تُحقّق الكفاءة اللغوية، بالنظر إلى أنّ المعرفة اللغوية شيء والكفاءة اللغوية شيء آخر.
  • إعادة التفكير في إجراءات المختبرات اللغوية في صفوف افتراضية، ولاسيما في المستوى المبتدئ.
  • كيفية استعمال التقنيات الجديدة والوسائط المتعددة، وضبط تطبيقها، في بيئة تعلّم افتراضيّ، ولاسيما المستعمل منها في النمط البصري، والنمط المستمع إليه، الذي يتعرّض فيه المتعلم إلى تباين في الأصوات، وعليه أن يدرك نطقها وإملاءها، وهذه مَهمة مطّردة في تعلّم اللغة من قرب فكيف بها عبر شاشة قد  تعتريها متغيرات دخيلة؛ كالصدى، وعلو الصوت وخفضه.
  • سدُّ الفجوة في تعلم النمط الحسي، وخاصةً التعبيرات غير اللغوية “لغة الجسد”، وفي تعلّم النمط الحركي الذي يمارسه المتعلمون في مجال الألعاب اللغوية، وبعض أنشطة الدرس. وبحسب ديوي شكّل هذان النمطان مبدأي اللذة، واللعب في التربية والتعليم… و الفعالية في الحصول على الخبرة والتعلّم. ( ديوي، جون،17 ،1978).
    فالنمط الحسي يسهم في فهم الشكل اللغوي للكلمات واستيعابها، وفهم السمات الاجتماعية، والسياقية المرتبطة بها في المستويات كافة، خاصةً وأنّ اللغة العربية لغة اشتقاقية، وليست إلصاقية.
  • الدعم المؤسسي الحكومي الحقيقي والجاد لتعليم اللغة العربية وتعلّمها من بُعد؛ وذلك بتدبّره، كي لا تحتكره المؤسسات الخاصة ذات الأهداف الخاصة بها، والتي تحصر اللغة العربية وثقافتها في مجال دون غيره، أو تلك المؤسسات الخاصة الربحية وذات التمويل المتوافر. ما يجعل التأسيس لهُوية فردية ذات مرجعية فكرية تستقطب مُريديها في تعليم اللغة العربية وتعلّمها، وتهمّش مضامين ثقافية عديدة في اللغة العربية دون غيرها. ناهيك عن تعزيزها غياب الحس الجمعي في بناء سياسات لغوية لتعليمها وتعلّمها.
  • ظهور رغبة لدى المتعلمين بالاكتفاء بتعلّم اللغة العربية في مؤسسات تعليمها وتعلّمها في بلدانهم أو مع اللاجئين والمهاجرين الذين يقومون بذلك، وقد يسدون الفجوة الافتراضية في التعلّم. يضاف  إلى ذلك وجود  دوافع  لدى أغلبية المتعلمين للاندماج في مجتمع اللغة، وهذه النظرة تعزّزها خبرة ثلاثين سنة قضيتها في تعليم اللغة العربية وتعلّمها لمتعددي الثقافات واللغات في معاهد وجامعات استقطبت مئات المتعلمين من مختلف بلدان العالم الراغبين في تعلّم اللغة العربية في بلدانها.

ويمكن القول إنّ التعلّم من بُعد في مجال تعليم اللغة العربية وتعلّمها عملية معقدة، لا يمكنها الركون إلى النتائج الإيجابية في تطبيقه على لغات أخرى؛ لاختلاف توافر الإمكانات في البنية التحتية لهذا التعلّم ( الإنترنت، والمحتوى، والوسائل التقنية، ودوافع المتعلمين وحاجاتهم، وإمكانات المعلمين وتأهيلهم) مقارنة مع البلدان الأخرى، ومقارنة بين إمكانات البلدان العربية ذاتها.

 

 

المراجع:

نورمان، فاركلوف: “تحليل الخطاب”. ترجمة: طلال وهبة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،(2009).

ديوي، جون: “المدرسة والمجتمع”. الطبعة الأولى. ترجمة: أحمد حسن عبد الرحيم. بيروت: مكتبة الحياة. (1978)

Ohler, J. “Why distance education? Annals of the American Academy of Political and Social Science”,514 ,22-34, (1991).

White, C.:” Distance learning of foreign languages. Language Teaching”, 39, pp 247-264. (2006).

 

 

 

البحث في Google:





عن د. مهى فهد أبو حمره

محاضر بعقد خبرة، المعهد العالي للغات، جامعة دمشق، مركز تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في برنامج ماجستير تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها (منهجية البحث، أساليب التدريس).

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا أستاذة مها تحليل منطقي ولكن بالرغم من هذه العراقيل يبقى التعليم عن بعد حلا مقبولا في تدريس اللغات بأعتبار انتشار العربية في أنحاء العالم من خلال الفيديوات و الوسائط التكنولوجية وهناك من غير الناطقين من تعلمها بقواعدها دون وساطة مدرسين الذي يستطيع التعامل مع الوسائل التكنولوجية يستطيع النجاح في التعلم الذاتي وعلى المهندسين و المبرمجين تكثيف المواد العربية وتطويرها وتطويعها للتعلم عبر الوسائط التكنولوجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *