تعلّم لغة الآخر القائم على المحتوى المرئي في الفضاء الخارجي

يأتي هذا المقال لتوضيح أهمية المحتوى المرئي؛ بوصفه وثيقة ثقافية حقيقية في تعلّم لغة الآخر واللغة العربية. والمقصود به، الفضاء المحسوس والملموس خارج القاعة الصفيةوالذي يحفّز ممارسة المتعلم للغة الآخر واختباره لمشروعه، في تعلّمها، وتحديداً في بلدها الأصلي. وقد يكون تواصل المتعلم معه حواراً لأفكاره المسبَّقة حول ثقافة تلك البلد؛ أي أنّه يفكر بوصفه إنساناً عقلانياً، يهتدي بهذه الأفكار إلى قيم مجتمع اللغة المراد تعلّمها. كما تعدّ اختباراً وتقويماً لمخزونه اللغوي تُحفِّزه المرئيات في بلدان العالم على اختلاف هندستها أو تشابهها: البيوت، والشوراع، و المحلات، والمطاعم، والأنهار، والجبال، وصولاً إلى قصص الناس.

فعلى سبيل الذكر لا الحصر، إقامة متعلمي لغة الآخر مثلا العربية، في دمشق القديمة، تجعلهم على احتكاك مرئي متواصل، مع المسجد، والكنيسة، والمقامات الدينية، والخانات، والسوق الشعبي، والمطاعم، والحمامات. وقيام المعلمين بزيارة الحمامات وممارسة طقوس الاستحمام يُعلّمهم أسماء، مثل: منشفة، وحنفية، وصابون، وبالوعة، وحار، وساخن،… وأفعال مثل: استحمّ، ونشّف، وفرك، وليّف، وناولني، وأشعرب… التعبير عن حالات الاسترخاء والراحة… وفي مستويات متقدمة يتعرفون ثقافة العمارة الإسلامية التي يُبنى فيها بيت الأدب فقط، وكيف كان الاستحمام في حمام السوق جزءاً من ثقافة الناس الأسبوعية. وفي مستويات أخرى يمكن للمتعلمين أن يفهموا المثل الشعبي حين ترتفع أصواتهم ويقول لهم الأستاذ على سبيل المزاح:” مثل الحمام المقطوعة ميته”. ويعزّر ما ذُكر سابقاً، مشاهد تلفزيونية للحمامات في مسلسلات كثيرة؛ ليُوضّح فيما بعد للمتعلم مفاهيم أخرى، مثل، حمام العريس، والجلسة الاجتماعية لشرب الشاي، وتناول الطعام في أثناء الاسترخاء بعد الاستحمام، ويجري الحوارفي موضوعات عدة … إلخ. علاوة على ورود الحمامات في روايات في الأدب العربي.
وضمن تلك المهمة يمارس كل متعلم بحسب مستواه، المفردات، والأفعال، وبناء جملة، واقتران حروف الجر بالأفعال، وطلب المساعدة، والتعبير عن الحالات الشعورية، والتحليل، والمقارنة. وبهذا تتجلّى جدلية المعنى المطردة للمرئي باستعمال اللغة العربية من متعلمي لغة الآخر، ومساعدتهم على إدراك بُعد ثقافي للغة يتفاعلون معه بحيث تسهم في تعرّفهم على أحد مظاهر سيكولوجية اللغة العربية.
فكلنا لدينا أسماء، وحالات نشعر بها، وحكايا، ومهن، نعبّر عنها، وقواعد لغوية ندرك أنّها تختلف من لغة إلى أخرى. وتُعالج في أجناس أدبية ومقالات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وهذا يعزّز مقاربة تأسيس مفهوم” علم اجتماع إنسانوي” (تشومسكي، 2015 ).

وتشير الباحثة (Jandhyala,2017) إلى أنّ استجابة المتعلمين للمعلومات المرئية أسرع مقارنة بالاستجابة للمعلومات في المواد النصية. كما تساعدهم على تحسين التعلّم. وبالتالي فإنّ مايقارب 65 ٪ من السكان متعلمون بصريون. فمن بين كل المعلومات التي تُنْقَل إلى الدماغ، 90٪ منها مرئية. على عكس النص المكتوب؛ إذ تجرى معالجة الصور المرئية بمعدل أسرع 60000 مرة. كما يمكن للبشر تعرّف المشهد المرئي في أقل من 10/1 من الثانية. كذلك فإنّ 40 ٪ من الألياف العصبية مرتبطة بالشبكية. كما يمكن لدماغنا أن يرى الصور التي تستمر لمدة 13 مللي ثانية فقط، و يمكن للعين البشرية تسجيل 36000 رسالة مرئية كل ساعة. وتضيف الباحثة جان ديالا في السياق ذاته نقلاً عن بورماك مستشار التعليم أنّ الذاكرة قصيرة الأمد تعالج الكلمات، ويمكنها الاحتفاظ بها، بنحو سبعة أجزاء من المعلومات المقروءة، في حين تجري معالجة المعلومات المرئية من خلال الذاكرة طويلة الأمد، بحيث تُحفَّر في الذاكرة ولا تُمحى.

علاوة على ذلك، فالمحتوى المرئي في تعليم لغة الآخر وتعلّمها القائم على المحتوى المرئي في الفضاء الخارجي يركّز على المتشابهات بين الناس، ومن ثم يجري الكشف عن التباينات بدءاً من دلالات المحتوى المرئي؛ باستعمال اللغة العربية، بحسب وظائفها المتعلّقة بسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

فالمحتوى المرئي بين المحسوس والملموس، يؤدي إلى قيام متعلّم اللغة العربية بالتحليل التقابلي؛ على مستوى المضمون، لهذا المحتوى أو ذاك؛ وبالتالي ينمِّي المتعلّم مهاراته؛ بمعالجته لمحتوى مُدْخل معيش؛ وذلك ضمن تكليفه بمهام تسهم في تشكيل أساس قوي للوصول به، بطريقة تفاعلية إلى مستويات معقدة من التفاعل الاجتماعي، والأداء المعرفي من اللغة المتعلّمة وإليها على المستويات كافة، (الصوتية، والنحوية، والصرفية، والدلالية، والثقافية)؛ والتحليل التقابلي الذي يجريه المتعلم هو محاورة المحتوى المرئي المكتسب من المتعلّم، بما فيه من تشابهات واختلافات، تستدعي دور التعلّم في تنظيم هذا المكتسب، بمساعدة المعلم؛ فإذا كانت التشابهات في هذا المحتوى باباً للحوار، فإنّ التباينات عنصر جوهري له؛ وذلك بما تحفِّزه البيئة المرئية، للمخزون اللفظي للمتعلّم، فضلاً عن إغنائه.

بحسب رؤية تشومسكي، فإنّ لدى الأطفال قدرة فطرية على اكتساب اللغة، واكتشاف قواعدها النحوية الضابطة لها من خلال المدخلات التي يتعرضون لها. وعلى الرَّغم من أنَّها أبعد ما تكون عن التأسيس والتنظيم لأشكال اللغة، وهنا يمكن لنا القول: إنّ متعلّم لغة الآخر لديه قدرة فطرية، على التحاور مع المحتوى المرئي المعيش في البيئة الأصلية للغة الآخر المراد تعلّمها. ونستشهد بالعبارة المعروفة “لكل صورة ألف كلمة” في بداية تعلّم لغة الآخر مع مراعاة الأهداف التعليمية التعلميّة في كل مستوى على حدة، دون إغفال ما يواجههه المتعلم من تحديات في الإجابة عمّا يريد التعبير عنه في الفضاء البيئي للغة باللغة نفسها؛ بهدف إدراك العلاقات بين الأشخاص والأشياء وفهمها. فالقدرة الفطرية لمتعلم لغة الآخر، تختلف من القدرة الفطرية للطفل بحسب تشومسكي؛ من حيث التنظيم، وإن اتفقت في ماهيتها إلا أنّ الفعل الإرادي والإدراكي لمتعلم لغة الآخرمختلف.

وتعزيزاً لما سبق سأقدّم تجربة، ليس بوصفها إثباتاً مثالياً على تعليم لغة الآخر وتعلّمها، بل دليل تجربة حيّة في مجال تعليم اللغة العربية وتعلّمها للآخر، باستعمال المحتوى المرئي؛ لتحديد المحتوى الذي سأعلمه للمتعلمين، فالتجربة “صدق آرائنا وفرضياتنا أو خطؤها” (ديوي،1978،18).

جاءني متعلمون ثلاثة وكانوا في المستوى المبتدئ الثاني، ويريدون تطوير مهاراتهم اللغوية الأربع. بعد لقاء التعارف بيننا؛ كلفتهم بمهمة، هي التجوّل في شوارع دمشق القديمة مكان سكنهم، والتحدَّث عن أي شيء لافت للانتباه لهم؛ كي أتمكّن من تحديد المحتوى الذي سأقدمه لهم خلال ستة أشهر.

حملت إليّ المتعلمة الأمريكية رسماً للمنظر المُطِّل من شرفتها على المدينة القديمة. وقالت لي: لدي رغبة في قراءة رسمي لك بكلماتي. أمّا الفرنسي، فجاءني بصورة لشخص رافع حاجبيه إلى الأعلى، ويريد أن يحدثني عن حكاية وقعت له، ومختصرها أنّه سأل شخصاً سؤالاً عن جهة السوق، فأجابه برفع حاجبية إلى الأعلى. وهذه الإشارة تعني له الإجابة بنعم في ثقافته، أمّا في دمشق، فكانت تعني لا، وذهب إلى المكان الخطأ. أمّا الإسباني فكتب ما وجده على لوحة إعلانات، وقضى وقتاً لفهم المعنى واستخراجه من القاموس ولم يفلح؛ ويعود هذا إلى أنّ الجملة باللهجة المحكية. في هذه الجلسة استمتعنا كثيراً وضحكنا، وهنا المعرفة المكتسبة ذاتياً منهم، جعلتها حواراً ( الثلاثة يستمعون، ويكتبون الملاحظات، ويتحدثون، ويقرؤون)، وكان ما أسميه التسامح في معالجة ما ورد من أخطاء في أثناء الجلسة؛ إذ جرى الإصغاء لما قيل والسماح به، ومن ثمَ تصويبه في جو من المرح، في جلسة لساعتين.

هكذا يتبيّن أنّ الانطلاق من المحتوى المرئي الملموس والمحسوس في تعليم لغة الآخر وتعلّمها يُعدّ تعلم واعياً يولّد المعرفة بلغة الآخر، ويعمّقها على أساس الحاجات، بدءاً من المستوى المبتدىء، وانتهاء بالمستوى الذي يرغب المتعلم في الوصول إليه. ويسهم في رفد العملية التعليمية التعلمية في مجال تعلم لغة الآخر، بمحتوى ذي مدلولات جديدة؛ لسدّ الثغرات أو الفجوات التي غابت في منهج ما. كما يمكن أن يؤدي تناوله بوصفه مُدخلاً أصيلاً معيشاً إلى مخرجات تحدّد للمعلم مستوى المتعلم من خلال مؤشرات الأخطاء التي يقع فيها، بالإضافة إلى تعرّف قدرتهم في توظيف خبراتهم الذاتية المعرفية السابقة. ففي تجربتي، المتعلِّمة التي رسمت كانت رسامة، ومن حكى عن إيماءة كان باحثاً بحركة الجسد، ومن كتب ما دُوِّن في الإعلان كان صحفياً. وهنا جرى تعلّم ما اختاروه؛ بتكامل الفعل التعليمي التعلمي مع الرؤية القائمة في المجتمع، التي تركّز بتكاملها على الفاعل المتعلم للغة العربية في سياق التجربة. وكما تُعد مخرجات التعلّم مؤشراً على الصعوبات اللغوية والازدواجية بين الفصحى والعامية وتبيّن اهتمامات المتعلمين.

مما ذكر آنفاً، يمكن التأكيد على أنّ ما أشار إليه كراشن (2009) من أنّ توافر مدخلات مفهومة منذ البداية في تعلّم اللغة، يسهم في توليد شعور لدي المتعلّم بامتلاكه المعرفة حول المُدْخل [المهام الموكَلة للمتعلّم]؛ وبذلك يصبح مستعداً للتحدث عنه، مع اختلاف درجة الاستعداد من متعلم إلى آخر. ناهيك عن تنمية قدرته على الاستماع والقراءة والكتابة؛ ممارساً باستعمال اللغة قيم احترام التعددية الثقافية للغة الآخر-وفقاً للكفاءة الثقافية- يستطيع متعلمو لغة الآخر بوصفهم “متحدثين/وسطاء بين الثقافات امتلاك القدرة على فهم كيفية نشوء سوء التفاهم ( كيف يمكن للناس أن يسيئوا فهم مايقال أو يكتب أو يفعله شخص ما من هوية ثقافية مختلفة”. (BYRAM, M, GRIBKOVA,B and STARKEYM,12,2002)

 

 

 

المراجع:

– تشومسكي، نعوم:”اللغة والحرية”، ترجمة: عدي الزعبي، 2015.

– ديوي، جون “المدرسة والمجتمع“، ترجمة: أحمد حسن عبد الرحيم. بيروت: دار مكتبة الحياة. بغداد، نيويورك:  مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر. 1978.

– BYRAM,M,GRIBKOVA,BandSTARKEYM, H.”DEVELOPING THE INTERCULTURAL DIMENSIONIN LANGUAGE TEACHING-A PRACTICAL INTRODUCTION FOR TEACHERS”, Language Policy Division.Directorate of School, Out-of-School and Higher Education,DGIV.Council of Europe, Strasbourg,2002.

– Krashen,s”.Principles and Practice in Second Language Acquisition”. First printed edition 1982 by Pergamon Press Inc. Print Edition ISBN 0-08-028628-3, First internet edition July 2009.

– Jandhyala,D.Visual Learning: 6 Reasons Why Visuals Are The Most Powerful Aspect Of eLearning. ELEARNING DESIGN AND DEVELOPMENT, 2017, Retrieved from:14/7/2019 https://elearningindustry.com/visual-learning-6-reasons-visuals-powerful-aspect-elearning.

البحث في Google:





عن د. مهى فهد أبو حمره

محاضر بعقد خبرة، المعهد العالي للغات، جامعة دمشق، مركز تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في برنامج ماجستير تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها (منهجية البحث، أساليب التدريس).

تعليق واحد

  1. belamri abdelaziz

    أرى أن هذاالمقال دعوة للعامية خاصة بالنسبة للغة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *