التنمية المهنية للمعلمين

البحث الإجرائي كأحد اتجاهات التنمية المهنية للمعلم : (المعلم الباحث)

يعد المعلم الركيزة الأساسية في المنظومة التعليمية، ويقع على عاتقه العبء الأكبر في إعداد الأجيال وفقًا لتطلعات المجتمع المعاصرة، لذا فالاهتمام بتنمية المعلم مهنيًا، يعد مطلبًا أساسيًا للنهوض بالعملية التعليمية والاستجابة للتغيرات المعرفية والتكنولوجية الحادثة في المجتمع، وما يستجد من اتجاهات معاصرة لتحقيق غاية التعليم وهدفه الأسمى وهو الوصول إلى متعلم يتسم بالجودة في معارفه ومهاراته.

وقد أجريت الكثير من الدراسات والأبحاث التي هدفت إلى التعرف على الكيفية التي تتم بها هذه التنمية، وأثر ذلك على مستوى أداء المعلم المهني، فالتنمية المهنية للمعلم، هي عملية ذات وجهين أحدهما يتعلق بالإعداد قبل الدخول في المهنة، والآخر يتعلق بالتدريب أثناء الخدمة، كما أنها العامل الرئيس الذي يتوقف عليه نجاح العملية التعليمية في بلوغ غاياتها وتحقيق أهدافها، إضافة إلى دور التدريب في سد الفجوات القائمة بين عمليات الإعداد في برامج إعداد المعلمين وكليات التربية من ناحية، ومتطلبات الممارسة الميدانية من ناحية أخرى.

ويعرف عبد المنعم ومصطفى (2008م) التنمية المهنية بأنها “عمليات وأنشطة منظمة يمكن من خلالها إحداث التغييرات والتحسينات المطلوبة في اتجاهات المعلمين وسلوكياتهم ومهاراتهم وقدراتهم، وإكسابهم كافة الخبرات والمعلومات التي يحتاجونها، والتي يكون لها انعكاس مباشر على تعلم الطلاب”، في حين يعرف أبو المعاطي (2011م) التنمية المهنية بأنها: “الجهود المستمرة لتطوير أداء المعلم أثناء الخدمة من خلال التدريب المستمر والجهد الذاتي منه للاستفادة من التعليم المقدم لتحسين نموه المهني من خلال حضور الدورات والورش التدريبية والمؤتمرات والندوات وكل ما يصب في ترقية أدائه وتحسين مستواه المهني”.

إذن يمكن القول بأن التنمية المهنية للمعلم في مفهومها الواسع تعني الشمول والاستمرارية، فهي عملية مستمرة طوال سنوات خدمة المعلم، وتشمل جميع الأنشطة والخبرات التي تمكنه من أداء دوره التدريسي بفاعلية وكفاءة عالية، ومواكبة كل ما يستحدث من تطورات تربوية وعلمية، كما تمكنه من مواجهة المشكلات ووضع الخطط والإجراءات لعلاجها، فالمعلم اليوم لابد أن يكون مهتمًا بكل ما هو جديد في مجاله ومدركًا لأهمية البحث والابتكار والتجريب، ومتبنيًا لكل الأفكار والممارسات الجديدة، ومتأملاً ومراجعًا لتدريبه بصفة مستمرة.

وفي إطار السعي للارتقاء بمستوى أداء لمعلم فقد ظهر اتجاه المعلم الباحث كأحد الاتجاهات العالمية الحديثة في تنمية وتطوير أداء المعلم.

البحث الإجرائي والمعلم الباحث

يتخذ البحث العلمي أنواعا شتى، فمنه البحث الأساسي والذي يهدف إلى اكتشاف المعرفة وتطوير النظرية وتنقيحها، ومنه البحث التطبيقي والذي يستهدف تطبيق النظرية أي تطبيق نتائج البحث الأساسي لحل المشكلات العملية، ومنه البحث الكمي والبحث النوعي البحث الوصفي و التجريبي …، وفي أواخر القرن الماضي انتشر نوع آخر من أنواع البحث العلمي أكثر التصاقًا بمشكلات الحياة اليومية والحياة المهنية داخل المؤسسات، وهو البحث الإجرائي.
وكما هو معلوم، فالمدارس كانت في طليعة المؤسسات التي عملت على الاستفادة من جميع أنواع البحوث العلمية بما فيها البحث الإجرائي، والذي يعد نمطا من أنماط البحوث التي تمكن المعلمين وعموم التربويين الممارسين، من دراسة وفحص أدائهم ومواجهة وحل المشكلات التي تعترض عملهم داخل الصفوف والمدارس، وفيه يكون الباحث ممارسًا أيضا (المعلم)، ويحاول استخدام البحث كطريقة للتأمل فيما يقوم به من أنشطة لاتخاذ القرارات المناسبة بغية تحسين الأداء.

وفي هذا الصدد يعرف محمد وآخرون (2014م) البحوث الإجرائية بأنها “تلك البحوث التي يقوم بها المعلمون لتطوير أنفسهم أو لحل مشاكل تواجههم في العملية التربوية، حيث يقومون بتحديد المشكلة ثم يقومون بتنفيذ إجراءات يعتقدون أنها مناسبة لحل هذه المشكلة، ومن ثم يتأملون فيما يقومون به من جهد فيما إذا كان ناجحاً في حل تلك المشكلة، فإذا لم يكن كذلك يقومون بالمحاولة مرة أخرى”.

ويشير أبو عواد، نوفل(2012م) إلى أن “البحث الإجرائي يتكون من كلمتين هما (بحث) ويعني الاستدلال والتأمل وفق منهجية علمية منظمة، و(إجراء) وتعني التدخل أو الفعل أو العمل، فهو إذًا توظيف المعارف والنظريات وتطبيقاتها في حل المشكلات ضمن إطار عملي إجرائي موجه نحو تحسين العمل والممارسات المتصلة به، وحل المشكلات المهنية”

ووفق السياسات التعليمية الحديثة، فالمعلم الباحث هو دور من الأدوار التي يجب أن يتصف بها المعلم اليوم، فهو المعني أساسًا بالبحث الإجرائي، الذي يلبي حاجاته ويسهم في حل مشكلاته المهنية والأكاديمية، ويحسن من تعلم طلابه، كما أن الممارسة المهنية تزداد جودتها عندما تستند على بيانات ناتجة عن ملاحظات منظمة وفق أساليب بحثية معروفة في جمع البيانات وتنظيمها والوصول للاستنتاجات.

خصائص البحث الإجرائي

للبحث الإجرائي عدد من الخصائص التي تميزه عن غير من البحوث وهي:

1) بحث واقعي: يركز على مشكلات عملية تواجه المعلمين، من واقع الممارسة اليومية داخل الصفوف والمدارس، أي أن دوافع هذا النوع من البحوث، عادة ما تنبع من داخل المهنة ومن صلب الممارسة.

2) بحث محدد ومحلي: يتعامل مع ظاهرة معينة ويركز على حالات محددة في الزمان والمكان، وهو محلي من حيث اهتمام الباحثين الذي يتأثر بخصوصية المواقف التعليمية في الفصول وداخل المدارس، كما يتأثر بخصوصية البيئة والظروف المحيطة واحتياجات المجتمعات المحلية، فالبحث الإجرائي يتعامل مع مشكلات تظهر في بيئات معينة وظروف محددة وليس ظواهر وإشكاليات بحثية عامة.

3) بحث تشاركي: يمكن أن ينجزه معلم واحد لكن عادة ما ينجزه بتعاون مع زملائه وبمشاركة الطلاب وأولياء أمورهم، كما يمكن أن يشترك فيه أكثر من معلم في إطار فريق عمل. ويمكن أن يقوم به مدير المدرسة بتعاون مع المعلمين والإداريين.

4) بحث عملي تطبيقي: وهنا لابد من التمييز بينه وبين البحث العلمي التطبيقي، لأن التطبيق في البحث الإجرائي لا يعني تطبيق نظريات أو فحص إمكانية تطبيقها، بل يعني وضع إجراءات وتطبيقها واستخلاص النتائج وتوظيفها بشكل مباشر في اتخاذ القرار وحل المشكلة. فإذا كان البحث التطبيقي يركز على اختبار النظريات والأساليب وتعميم النتائج مع التقيد بخطوات البحث العلمي، فإن البحث الإجرائي في المقابل يطبق بدوره الطريقة العلمية بهدف حل مشكلة علمية تحدث في موقف خاص وفي بيئة معينة دون تعميم للنتائج.

5) نوع من الاستقصاء: يقوم على استقراء وملاحظة وتتبع مستمر لما يحفل به واقع النشاط التربوي، ولما يحدث خلال النشاط اليومي داخل الفصول والمدارس.

6) نوع من التأمل: فهو التفكير العميق وإعادة التفكير ومراجعة الذات و الحوار والنقاش، الذي يرافق في العادة خطوات البحث الإجرائي.

أهمية البحث الإجرائي

  • يمثل نموذجا للعمل التعاوني الذي يأخذ مكانه من خلال المشاركة في تحديد المشكلات وحلها بهدف تحسين عملية التدريس وتطويرها.
  • يعمل على التخلص من النمط الروتيني في التفكير بحيث يعتبر المعلم الباحث جزءا من الموقف يتعايش مع طلابه ويشاركهم أفكارهم وآرائهم.
  • يعد مصدرا للعديد من الأفكار التي يمكن من خلالها إثراء الكثير من الاستراتيجيات والتقنيات التدريبية.
  • يستخدم لعلاج أغلب المشكلات البسيطة التي تحدث داخل الفصل، كما يمكن أن يستخدم لتحسين التطبيقات التربوية، ويمكن للمعلم أو المتخصص التربوي أن يصحح مواقف خاصة من أجل تحسين القدرات والمهارات العملية.
  • بناء مجتمع صغير من الباحثين داخل المؤسسة التعليمية.
  • مساعدة المعلم على فهم أفكار طلابه وتقويم ذاته.

أهداف البحث الإجرائي

اتفقت العديد من المصادر التربوية على أن أهم أهداف البحث الإجرائي ما يلي:

– يمنح البحث الإجرائي المعلمين وعموم الممارسين التربويين، الإحساس بالقوة والثقة بالنفس فعندما يسهم المعلم في عملية البحث فإنه يستفيد منها وهذا يعزز ثقته بنفسه ويشعره بنوع من السيطرة على المواقف والمشكلات التي تواجهه.

– يهدف البحث الإجرائي إلى تنمية روح حل المشكلات وتشجيع الطريقة العلمية في حلها لدى الممارسين في الميدان التربوي

-خلق فرص للتنمية المهنية للمعلمين وذلك من خلال: تنمية مهارات التعلم الذاتي والتقويم المستمر، تكوين الشخصية المهنية المتأملة، تجويد الممارسة المهنية، وتحسين الأداء في المدارس، وخلق ثقافة مهنية بحثية.

-ينمي البحث الإجرائي لدى المعلم عادة التأمل (أي التفكير المنظم والعميق) في عمله اليومي، كما يكسبه مهارات البحث والمبادرة والتعاون والعمل لجماعي والالتزام والمسؤولية، قصد تحسين الأداء وزيادة الفعالية وتحقيق الجودة والأهداف المنشودة.

مجالات البحث الإجرائي

  1. مشكلات تربوية: تتصل بالمنهج واستراتيجيات وطرائق التدريس وأساليب التعلم والكتاب المدرسي والضعف في التحصيل والتواصل وأساليب التقويم ووسائله.
  2. مشكلات نفسية: تتصل بمشاعر واتجاهات الطلبة وسلوكياتهم كالخوف والقلق والخجل والانطواء والكذب والسرقة.
  3. مشكلات اجتماعية: تتصل بالهروب من المدرسة والعدوان وعلاقة المدرسة بالبيئة الاجتماعية وعلاقة الطلبة مع المعلم وعلاقة الطلبة مع بعضهم بعضًا.
  4. مشكلات مادية: تتعلق بالبيئة المدرسية والمرافق الخاصة بها (كالحديقة والمختبر والمكتبة).

خطوات البحث الإجرائي

هناك عدد من الخطوات المنظمة التي لابد من اتباعها عند القيام بالبحث الإجرائي وهي:

1) تحديد المشكلة:

تحديد وتعريف المشكلة البحثية التي تعترض الطلاب أو المعلمين أو الإداريين في واقع العمل والممارسة اليومية داخل الصفوف و المدارس، وصياغتها بطريقة مبسطة وواضحة، بعد تأملها وربما مناقشتها مع فريق العمل من جميع النواحي و من خلال طرح بعض التساؤلات من مثل: لماذا البحث فيها؟ ما هي توقعات نتيجة هذا البحث؟ ما أهمية حل هذه المشكلة بالنسبة للممارسات التربوية؟

2) الاستطلاع ومراجعة الدراسات السابقة (الأدبيات):

تكوين معرفة كافية حول الموضوع من خلال مراجعة ما نشر حوله من أبحاث ودراسات وأدبيات، ولا يتطلب الأمر تراكمًا معرفيا كبيرًا، بل يكفي تسجيل بعض النقاط أو التلخيصات المركزة حول بعض النتائج التي تم التوصل لها في مواقف مشابهة والتأمل فيها..

3)صياغة الفرضيات أو التساؤلات:

في هذه المرحلة يتم توضيح مشكلة البحث في ضوء نتائج الدراسات السابقة عن طريق تكوين الفرضيات والتساؤلات الفرعية للبحث. ومما ينبغي التنبيه إليه، هو أن الفرضيات في سياق البحث الإجرائي ليست فرضيات لاستخلاص قوانين تفسر العلاقة بين المتغيرات كما هو الأمر في البحوث العلمية الأكاديمية، بل الفرضيات هنا هي بكل بساطة عبارات تنبؤية لما سيحصل عندما يقوم الباحث بإحداث إجراءات وتغييرات على الحالات وفي الموقف التعليمي وما يتخلله من ممارسات تربوية، فالهدف من صياغة مثل هذه الفرضيات هي مساعدة المعلم الباحث على التنبؤ بالوسائل والإجراءات اللازمة وبناء الأدوات المناسبة.

4) تصميم خطة البحث وإجراءاته:

لاشك أن إعداد التصميم البحثي (خطة البحث) من أهم الخطوات التي ينبغي أن يحرص عليها المعلم الباحث، حتى يتمكن من جمع وتفسير البيانات بكل دقة، ويتضمن التصميم: وضوح للأهداف، وضبط الإمكانيات، واختيار الطرق والوسائل المناسبة، منهجية البحث، دراسة الحالة أو الملاحظة المنظمة أو المقابلة أو السجلات… و هل سيتخذ البحث تتبع التسلسل الزمني أي دراسة التغير الذي ستحدثه الإجراءات عبر فترة زمنية أم سيكتفي بالتركيز على سياق معين…كذلك ينبغي تضمين الإجراءات العلاجية الأولية في تصميم البحث.

5) تحديد وسائل الملاحظة وأدوات جمع البيانات:

لا بد أن تتضمن خطة البحث الأدوات الملائمة لجمع البيانات، ولعل أهم الأدوات التي يمكن أن يستعين بها الباحث الإجرائي: الملاحظة المباشرة أو المقابلة أو الاختبارات.

6)تنفيذ خطة البحث الإجرائي:

ينبغي كما أسلفنا، تضمين الخطة الإجراءات الأولية وقد تتمثل، على سبيل المثال في:
– إشراك الطلاب وأولياء أمورهم في المناقشة؛
–برامج التعزيز و برامج الدعم و التقوية والمراجعات وحصص الاستذكار الموجه و الإرشاد النفسي والتربوي، عرض الحالات على أطباء مختصين أو مرشدين أو موجهين اجتماعيين؛
-برامج التوجيه المهني وورش العمل؛
– إعادة ترتيب الفصول الدراسية وإعادة توزيع الطلاب داخل الفصل الواحد أو بين الفصول في نفس المدرسة أو بين المدارس في المنطقة الواحدة …؛

– خلق مجموعات عمل وتوظيف التعليم التعاوني؛
– ترتيب بعض المواقف التعليمية باعتماد الربط أو الدمج بين المقررات؛
– توظيف الأنشطة اللاصفية (المجلة الحائطية، المسرح، الكشفية، المعارض، الخرجات والرحلات…)؛
– إعادة النظر في الطرق والتقنيات المتبعة، وإدخال وسائل تعليمية جديدة، توظيف الحاسوب والانترنت ومصادر التعلم المختلفة؛

7) جمع وتنظيم وتحليل البيانات وتفسيرها؛

8) استخلاص النتائج: والوصول لحل نهائي للمشكلة؛

 

 


المراجع:

أبو عواد، فريال، نوفل، محمد .(2014م). البحث الإجرائي. عمان: دار المسيرة للنشر والطباعة.

عبد المنعم، نادية، مصطفى، عزه.(2008م).الإدارة المدرسية المعاصرة في ظل المتغيرات العالمية. القاهرة :المجموعة العربية للنشر

الفهيد، سعاد. (2018م). تصور مقترح لتكوين المعلم الباحث في الجامعات السعودية في ضوء مجتمع المعرفة. رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض.

القداح، محمد ابراهيم.(2010م).البحث الاجرائي في تطوير المؤسسات التربوية. عمان: جامعة البلقاء التطبيقية.

محمد , مصطفى و الفقي , اسماعيل و علام , بدوي . (2014 ) . البحث الإجرائي النظرية والتطبيق . عمان : دار الفكر

مكنيف، جين،( ترجمة وهبه، نادر).(2001م).البحث الإجرائي من أجل التطوير المهني. رام الله: مركز القطان للبحث والتطوير التربوي

Quesada ,A . (2002 ) . A Case Study in Professional Development Establishing an Online Mathematics Community . Ohio Journal of School Mathematics , No. 44 .

Singer –Gabella, M ,Wallace, J . ( 2012 ) . Why the Stanford Teacher Performance Assessment (TPA) Is a Step in the Right Direction , Evaluation  Systems Publication .

البحث في Google:





عن د. هدى سعد العمري

دكتوراه الفلسفة في التربية تخصص مناهج وطرق تدريس. المملكة العربية السعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *