قادة المستقبل

تأهيل وإعداد قادة المستقبل .. قفزة نوعية لعبور الزمن القادم

لا شكَّ أنَّ ما يشهده العالم اليوم من متغيراتٍ متسارعةٍ وما يواجهه من تحدياتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وإداريةٍ تفرض نوعًا من التأمل والترقُّب فيما يحدث حولنا؛ إذ جعلتنا نتساءل ماذا عن المستقبل القريب والمستقبل البعيد؟ وكيف نستطيع أنْ نواجه هذه المتغيرات، والتحديات؟ وهل نحن مؤهلون لذلك؟ ثم إذا أردنا أنْ نكون أكثر تحديدًا، هل قيادات مؤسساتنا على استعدادٍ لمواكبة العصر وتحقيق الأهداف المنشودة والوصول بنا إلى مصاف الدول الكبرى. وإذا كان قادة اليوم يسعون في جدٍّ واجتهادٍ إلى التقدم والتطور والنمو، فماذا عن قادة المستقبل ؟ هل هم مستعدون؟ وهل يتمُّ إعدادهم لمواجهة تحديات المستقبل واستكمال مسيرة قادة اليوم والأمس في ظلِّ تحدياتٍ بالغة الصعوبة (حسني، 2018).

إنَّ الغاية من تأهيل وإعداد قادة المستقبل تكمُن في تنمية مهارات هذه القيادات وقدراتهم ومعارفهم بالشكل الذي يضمن استدامة المنظمات التي ترتبط باستقرار سياسات وتصرفات الإدارة العليا فيها، والتي تتعامل مع المنظمة كمنظمةٍ وليس كأشخاصٍ، وبالتالي فإنَّ تعاقب الأجيال من القادة المؤهلين يُعدُّ مطلبًا أساسيًا لاستدامة المنظمات، كما أنَّه يسهم بفعاليةٍ في إيجاد رأس مالٍ فكريٍّ يمتلك طاقاتٍ كامنةٍ وقدراتٍ هائلةٍ تمكِّنه من قيادة المستقبل، كما أنَّه عمليةٌ شاملةٌ لجميع الأفراد المُرشحين لتولي المناصب القيادية في المستويات الإدارية المختلفة (أحمد، 2018). وجاءت هذه الأهداف متسقةً مع أهداف رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي دعتْ إلى تأهيل وإعداد صفٍّ جديدٍ من القادة يؤمن بالتغيير ويستطيع وضع صياغةٍ واضحةٍ للوضع المستقبلي (وثيقة رؤية المملكة العربية السعودية 2030، 2016)، كما تتفق مع أهداف أكاديمية تطوير القيادات الإدارية التي تمَّ إنشاؤها بالتعاون بين وزارة الخدمة المدنية ومعهد الإدارة العامة بهدف اكتشاف القيادات الواعدة وإعداد القيادات المستقبلية وتطوير القيادات الحالية (معهد الإدارة العامة، 2021). كما تبنَّت وزارة التعليم (2021) برنامج إعداد وتأهيل القادة الذي تسعى من خلاله إلى زيادة الاستثمار في رأس المال البشري وتطوير القدرات والكفاءات القيادية وتبني أساليب في اختيار القادة تكفل إعداد وتأهيل الأفراد المتميزين ليكونوا قادةً للمستقبل تتطلَّب اختيار مجموعة من الأفراد ذوي الأداء العالي في الوزارة أو إدارات التعليم، ومن ثمَّ تأهيلهم أثناء العمل تأهيلاً تخصصيًا في القيادة وفق منهجياتٍ عالميةٍ استعدادًا لمواجهة المشكلات التربوية؛ كالخصخصة، والاستقلالية، والتقدُّم التكنولوجي المتسارع، والجودة الشاملة، والتنافس المحلي والإقليمي والعالمي وغيرها، والبعد عن الأساليب التقليدية في اختيار القادة، والممثَّلة في الاختيار بالأقدمية، والاختيار بالخبرة، والاختيار على أساس نظرية السمات، والاختيار بناءً على إجماع العاملين، والاختيار بناءً على عقد الاختبارات الموقفية لهم (أبو النصر، 2009).

لقد جاءت كلُّ هذه الجهود نتيجةً لضخامة حجم المشروعات والوحدات الإدارية، وما نتج عنه من مشكلاتٍ إداريةٍ؛ كتعقيد العمليات الإدارية، واتساع خطوط الاتصال، وبطء تبادل المعلومات؛ مما أثَّر على عمل القيادات الإدارية الحالية، واستوجب الاهتمام بإعداد وبناء القيادات المستقبلية من ذوي الأفكار المتجدِّدة، وزيادة الطلب على شاغلي الوظائف القيادية، والحاجة المتزايدة لهم؛ بدافع التغلُّب على العجز في إعداد قادة المستقبل، والذي يؤكد على ضرورة الإعداد المبكِّر لمواجهة النقص وتغطية العجز. كما أنَّ استقالة القائد الفعّال الحالي، أو مرضه أو تقاعده، أو انتقاله إلى منظمةٍ أخرى يُعدُّ من أخطر الأمور التي قد تواجهها أيُّ منظمةٍ؛ نظرًا لأنَّ الإنجازات التي تحقَّقت والخطط المستقبلية لتلك المنظمة تعتمد – وبشكلٍ كبيرٍ- على جهوده ورؤيته وقدراته واتجاهاته، وفي حال مغادرته موقعه الإداري فهذا إعلان خطرٍ، وبدايةٌ مخيفةٌ لمستقبلٍ مظلمٍ وشاقٍّ؛ وذلك لعدم وجود القائد المؤهل البديل (العثمني، 2017)، وتتعرَّض المؤسسات التربوية كغيرها من المؤسسات لحالات الترهُّل، وسوء القيادة، وتردي الأداء؛ مما يستدعي تنصيب واختيار قائدٍ قادرٍ على استيعاب الضَّرر. وهو ليس بالأمر السهل؛ إذ إنَّ عملية تأهيل وإعداد قادة المستقبل ليست بالعملية الارتجالية ولا العشوائية الخاضعة لاعتبارات خاصة أو مصالح شخصية، بل هي عمليةٌ مخططةٌ ومدروسةٌ، تهدف إلى تكوين الكوادر الإدارية القادرة على تفعيل دور المنظمات، والنهوض بأدوارها على مختلف الأصعدة، وفق خطوة مدروسة؛ تضمن كفاءة إعداد وتأهيل قادة المستقبل (الفعر، 2016).

إنَّ المنظمات الإدارية حاليًا في أمسِّ الحاجة لقادة يمتلكون سمات قادة المستقبل؛ كالقدرة على التحكُّم في التوتر الديناميكي بين الحاجة إلى إدارة الأداء الإداري، وعدم التأكد في الوقت نفسه، والقدرة على إدارة مشاعر الانزعاج والقلق عند الآخرين ونفورهم من المخاطرة؛ من خلال إشعارهم بالطمأنينة المستمرة في أوقات الاضطراب، والتغيير المنذر بالخطر. وتتضمن هذه القدرة أيضًا التحكُّم في شكلٍ آخرٍ من التوتر الإبداعي بين الرؤية المستقبلية والواقع الذي ينظر إليها، والقدرة على تعزيز تآزر الفريق، وإظهار ثقةٍ بالذات، نابعةٍ من مزيجٍ من التجربة والخبرة، وتقديم المثل والقدوة لها، كما يبدي هؤلاء القادة استعدادًا واضحًا للتعلم المتواصل؛ من خلال قبول المخاطرات المحسوبة، وتحمُّل مسؤولية الأخطار الناتجة عنها (عبيدي، 2018).

هؤلاء القادة لديهم السمات التي تؤهلهم نفسيًا لقيادة المستقبل، وعند تأهيلهم ميدانيًا وفق خطوات إعداد وتأهيل قادة المستقبل، يكون ذلك أرجى لأن يتحقق الهدف من التأهيل على نحوٍ يفوق المأمول وهذه الخطوات هي (الهندي، 2017):

  • مرحلة التنقيب: يتمُّ في هذه المرحلة تحديد مجموعة من الأفراد الذين تتوافر فيهم سمات قادة المستقبل ؛ وفق معايير محددةٍ، ودراسة واقعهم من كافة النواحي.
  • مرحلة التجريب: يتمُّ في هذه المرحلة وضع المجموعة السابقة تحت الملاحظة والمتابعة؛ من خلال الممارسات اليومية، والمواقف المختلفة، واختبار مهاراتهم الإدارية المطلوب توافرها في القادة في المجالات: (الإنسانية، الفنية، الفكرية).
  • مرحلة التقييم: بحيث يتمُّ في هذه المرحلة تقييم المجموعة؛ من خلال المعايير الموضوعة مسبقًا، ومن خلال نتائج التجريب؛ وذلك بهدف الكشف عن جوانب القصور والتميز والتفاوت في القدرات.
  • مرحلة التأهيل (الإعداد): من خلال نتائج المرحلة السابقة، ويتمُّ في هذه المرحلة تحديد الاحتياجات بواسطة أساليب التأهيل والإعداد التي تعالج جوانب الضعف، وتعزِّز جوانب القوة والممثلة في:
    • أساليب التدريب: والتي تمثِّل في مضمونها عمليةً مستمرةً، تسعى إلى إكساب قادة المستقبل المهارات التالية: تحسين المهارات القيادية مثل: الاتصال الفعَّال؛ كالحوار، والإنصات، والإقناع، تحسين الصفات القيادية مثل: الصبر، والتعاون، وحب الآخرين، ومساعدتهم، والثقة بالنفس، والعدالة، والمساواة، وزيادة معارفهم حول الاتجاهات القيادية والاتجاه الأفضل؛ بناءً على طبيعة الموقف، وطبيعة الموظفين، والوقت، وبيئة العمل.
    • أساليب التعلم الذاتي: يعتمد هذا الأسلوب على استقلالية الأفراد، وتوفير جوٍّ من الديموقراطية والحرية أثناء تأهيلهم قياديًا. ويعتبر التعلم الذاتي أحد الأساليب التي تدعم اكتشاف الأفراد لمهاراتهم القيادية بعيدًا عن خبرات الآخرين.
    • أسلوب التعاون والتفاعل مع القيادات الإدارية: يساعد هذا الأسلوب في اكتساب المعرفة المهنية وتنميتها من خلال التفاعل مع القيادات الإدارية وإتاحة الفرص لحل المشكلات.
    • أسلوب تمثيل الدور: يعتمد هذا الأسلوب على مشاركة القيادات في تمثيل مواقف حيَّة من الحياة الإدارية، وفيه يتطلب منهم أنْ يقوموا بتمثيل دور القائد أثناء التدريب.
    • أسلوب التعاقب القيادي: وهو تحديد قياداتٍ إداريةٍ مستقبليةٍ وتزويدهم بالمهارات والخبرات المناسبة للفرص الحالية والمستقبلية؛ بحيث يكونون على استعدادٍ تامٍّ للقيام بالدور القيادي عند تكليفهم بذلك (حسين، 2010).
    • مرحلة التكليف: ويتمُّ في هذه المرحلة وضع قادة المستقبل الذين اجتازوا التدريب والتأهيل تحت الاختبار بتكليفهم بمواقع قياديةٍ متفاوتة المستوى والأهمية لفتراتٍ معينةٍ بحيث يكونون على المحك.
  • مرحلة التمكين: بعد أن يثبتوا أنفسهم وتتَّضح شخصياهم القيادية يتمُّ في هذه المرحلة تكليفهم بمهامٍ قياديةٍ؛ بناءً على احتياج المنظمة وإمكانياتهم.

وبتطبيق هذه الخطوات يمكن الوصول إلى مجموعة من القادة الذين يمتلكون بناءً ذاتيًا وفكريًا وقياديًا خلاّقًا، يمكِّنهم من تنفيذ الخطة الاستراتيجية للمنظمة بشكلٍ فعّالٍ؛ وفقًا لمؤشرات النجاح المأمول تحقيقها على مستوى المبادرات التطويرية والغايات الاستراتيجية (غازي، 2014). إلَّا أنَّه وبالرغم من كل الجهود المبذولة لتأهيل وإعداد قادة المستقبل، هناك العديد من المعوِّقات التي تواجه القطاعات الحكومية والخاصة عند إعداد وتأهيل قادة المستقبل، منها (الرشيدي والمفلح، 2013؛ والهندي، 2017):

  • غياب استراتيجية إعداد وتأهيل قادة المستقبل عن الخطة الاستراتيجية للمنظمة.
  • عدم الإلمام الكافي بأهمية ودور القيادة في استدامة المنظمات.
  • محدودية الأدوات والمعايير الدقيقة، والاعتماد على معايير شخصيةٍ وغير موضوعيةٍ.
  • ضعف الوعي بالتكاليف والآثار المترتبة عن سوء اختيار القيادات وسوء إعداد قادة المستقبل .
  • المحسوبية والفساد الإداري، خاصةً عندما يعتمد القائد الحالي على المقربين منه، وتعيين أقاربه؛ دون الاهتمام بالكفاءة والخبرة.

وأخيرًا، يمكن القول بأن المؤسسات الناجحة هي تلك التي تسعى إلى تعزيز مشاركة المرؤوسين في صنع واتخاذ القرارات؛ مما يساعد عن نقل الخبرة من القيادة العليا إلى الأفراد، ويرتقي بمستواهم القيادي، ولعلَّ في ملامح رؤية المملكة العربية السعودية ما يؤكد ضرورة استقطاب أعلى العقول؛ للحصول على قائدٍ قادرٍ على التأثير، ومؤمنٍ بالتغيير، يمتلك قدرات احترافية تتواكب مع احتياجات الزمن القادم، وتسعى لبلوغ طموحات الرؤية؛ لتستطيع وضع صياغةٍ واضحةٍ للمستقبل، تساهم في دفع عجلة التنمية نحو آفاق التقدُّم والرقي.

 

 


المراجع:

أبو النصر، مدحت. (2009). قادة المستقبل القيادة المتميزة الجديدة، المجموعة العربية للنشر والتدريب.

أحمد، نجلاء. (2018). أثر إعداد قادة المستقبل في دعم التميز المؤسسي: دراسة ميدانية بالتطبيق على الجامعات المصرية. مجلة البحوث المالية والتجارية، ع (3)، 220-163.

حسني، أحمد. (2018). استراتيجيات إعداد قادة المستقبل بين الرؤية والأمل. التنمية الإدارية، 22(89)، 30-26.

حسين، سلامة. (2010). تصور مقترح للتنمية المهنية لأعضاء هيئة التدريس والقيادات الأكاديمية بالجامعة: دراسة تقويمية لمشروع تنمية القدرات بجامعة بنها. مجلة التربية المعاصرة، 8(27). 45-32.

الرشيدي، شقران؛ والمفلح، سوسن. (2013). إعداد القيادات البديلة على من تقع المسؤولية: ضرورة إدارية لتطوير المؤسسات وسد الفراغ الوظيفي المفاجئ.  مجلة التنمية الإدارية، ع (104)، 26-30.

عبيدي، محمد. (2014). دور التخطيط لإدارة المواهب في إعداد قادة المستقبل. المجلة العلمية للدراسات التجارية والبيئة، 9(1)، 811-793.

العثمني، محمد. (2017). الاتجاهات الحديثة في إعداد الصف الثاني من القيادات الأمنية وتأهيله: القيادة العامة لشرطة الشارقة، مركز بحوث الشرطة، 26(100)، 53-10.

غازي، علي. (2014). المدخل الاستراتيجي لإعداد قادة المستقبل نحو قيادة الأداء المؤسسي مدخل تطبيقي مقترح. جمعية إدارة الأعمال العربية، ع (147)، 12-8

الفعر، علي. (2016). تصور مقترح لتطوير برنامج القيادة التربوية في جامعة الطائف. مجلة التربية، 4(169)، 161-124.

مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. (2016). وثيقة رؤية المملكة العربية السعودية 2030. السعودية.

معهد الإدارة العامة. (2021). أكاديمية تطوير القيادات الإدارية. تم الاسترجاع بتاريخ 26/ابريل/2021 من الرابط https://www.ipa.edu.sa/ar-sa/Centers/LeadersCenter/Pages/default.aspx

الهندي، أشرف. (2017). واقع تطبيق الإدارة بالأهداف في المؤسسات الحكومية وأثرها في تأهيل قادة بديلة. [رسالة ماجستير منشورة، الجامعة الاسلامية]. قاعدة بيانات دار المنظومة.

وزارة التعليم. (2021). برنامج إعداد وتأهيل القادة. تم الاسترجاع بتاريخ 26/ابريل/2021 من الرابط https://eleaders.moe.gov.sa/ar/Pages/default.aspx

البحث في Google:





عن اماني ناصر علي عواجي

باحثة دكتوراه بجامعة أم القرى، المملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *