خليل السكاكيني

خليل السكاكيني … تربية أصيلة وفكر جديد

مقدمة

إن دراستنا لتاريخ للفكر التربوي تساعدنا في التوصل إلى معرفة بأفكار واتجاهات وقيم ومعتقدات الأمم السابقة، والذي يظهر انعكاسه وتأثيره في جميع جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، و لهذا كان لابد لنا تسليط الضوء على الفكر التربوي الفلسطيني والذي يظهر في شخصية العديد من الشخصيات البارزة عبر التاريخ، وفي هذا المقال نتحدث عن  أديب وكاتب ومربي فاضل وشاعر فلسطيني كبير، أحد أكبر الروَّاد في التربية الحديثة في فلسطين والعالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين… إنه ” خليل السكاكيني “، فمن هو؟ وكيف كانت نشأته وحياته؟ وما فلسفة السكاكيني وفكره التربوي إزاء كل من: (مميزات المدرسة الحديثة، وأساليب التربية والتعليم الحديثة، ومواد التعليم، ومعالجته مسألة اللغة العربية وتدريسها، ومساعيه الرامية إلى تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع)؟ وما فكره الاجتماعي؟ ما أهم إنجازاته الأدبية وأشهر مؤلفاته؟ وما المؤلفات أفردت عنه؟

من هو خليل السكاكيني؟ وكيف كانت نشأته وحياته؟

ولد خليل قسطندي السكاكيني بمدينة القدس بفلسطين عام 1878 حيث نشأ في أسرة مَقدِسية عريقة، تميّز بغنى عدته المعرفية وبنزوعه الإنساني، وتلقَّى تعليمه في مدرسة “الروم الأرثوذكسية” ثم بمدرسة “صهيون البروتستانتية”، ثم تخرج من كلية “الشباب الإنجليزية” عام 1983، سار على خطى رواد النهضة العربية فقد تأثر بأستاذه اللبناني نخلة زريق (توفي سنة 1921) الذي كان قد تلقى تعليمه على يديه، كما يذكر جهاد أحمد صالح في كتابه: “الرواد المقدسيون في الحياة الفكرية والأدبية في فلسطين”، في مدرسة “المعلم” بطرس البستاني الوطنية، ودرس العربية على يد رائد آخر من رواد النهضة في بلاد الشام هو الشيخ ناصيف اليازجي، وانتسب إلى جمعية زهرة الآداب التي تأسست سنة 1898 برئاسة داود الصيداوي.

سافر إلى نيويورك عام 1907 ليتابع دراسته لكنه عاد بعد سنة بسبب سوء الظروف المعيشية، عمل بعد عودته في تنقيح مسودات مجلة “الأصمعي” لحنا العيسى، وصحيفة القدس لجورج حبيب حناينا، كما عمل مُدَرِّسًا للغة العربية، وقام بتدريس العربية للأجانب.

وأنشأ “المدرسة الدستورية” في القدس عام 1909 بالاشتراك مع علي جار الله وجميل الخالدي وأنتيم مشيك، تهدف إلى تنمية الوعي الوطني بين الطلاب وإعداد معلمين يحملون العلم والراية الوطنية، وقد ذاع صيتها بسبب توجُّهها الوطني واتِّباعها لأساليب حديثة في التعليم، واهتمامها بالتربية البدنية والموسيقى، وابتعادها عن العقاب البدني الذي كان مألوفًا آنذاك.

وعين عضواً في إدارة المعارف بلواء القدس عام 1914، فعمل على إصلاح مناهج التعليم وجهاز المعلمين، اشترك السكاكيني في الثورة العربية الكبرى وقاتل مع العرب ضد الأتراك، كما ألَّف نشيد الثورة العربية بنفسه، حيث آمن بالقومية العربية ودعَا إليها في كل مناسبة، فقد أبعد عن القدس حيث قبضت عليه الحكومة التركية وتم لإيداعه السجن في دمشق، ثم أطلق سراحه في كانون الثاني عام 1918 بكفالة مالية، ثم رحل إلى مصر أقام فيها حتى عام 1919، وعاد إلى القدس ليتولى إدارة المعلمين، لكنه قدّم استقالته بسبب تعيين (هربل صموئيل) مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين.

وسافر لمصر عام 1920 تلبية لدعوة الجمعية السورية الأرثوذكسية ليتولى إدارة التعليم العربي في مدرسة العبيدية. ليصطدم مع الكنيسة الأرثوذكسية، مما تسبب في حرمانه كنسيًّا وإبعاده عن الكنيسة.

درَس السكاكيني الأسس التربوية الحديثة في جامعات أجنبية كبرى ﻛ ” أكسفورد” و” كامبريدج” فأدرك أهمية أن تكون المناهج الدراسية جَذَّابة وتُحبب الطلاب في العلم؛ لذلك وضع الكثير من المناهج الدراسية في اللغة العربية التي تحتوي على وسائل إيضاح بصرية مُبسَّطة، وكذلك ألَّف العديد من الكتب في طرائق التدريس والتربية.

مارس التعليم في القدس، وانتسب إلى عدة جمعيات وشارك في تأسيس بعضها، ونشط على المستوى الوطني، وواجه الكنيسة الأرثوذكسية بالقدس التي كان كبار قساوستها من اليونانيين، رافضاً سيطرتها على المسيحيين العرب، مطالباً بالشفافية في عملها العقاري، وداعياً لتغيير لغة الصلاة والطقوس من اليونانية إلى العربية؛ كما وصل به الأمر إلى دعوة مسيحيي الشرق لاعتناق الإسلام حفاظاً على قوميتهم ومنعاً لتحقيق أهداف الإكليروس الأجنبي بعملية تغريبهم عن عروبتهم وسلخهم عن مجتمعهم، فأصدرت الكنيسة قراراً بطرده من الكنيسة بعد أن كتب آراءه صراحةً داعيًا لإصلاحها.

وفي عام 1922 عاد للقس ليمارس مهنة الصحافة ونشر مقالاته، وتولى منصب أمين سر الجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني، وعين عام 1926 مفتشاً عاماً للغة العربية في إدارة معارف فلسطين، ثم عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وألقى في بيروت عام 1932 عدداً من المحاضرات عن أصول التعليم في لبنان بتكليف من الجامعة الأمريكية.

في عام 1936 عمل في دار الإذاعة الفلسطينية التي كانت تابعة لسلطات الانتداب وافتتحت في السنة نفسها في القدس، ولكنَّه لم يستمر طويلاً فقد سمع مذيعاً يهودياً يقول خلال حديثه باللغة العربية: هنا أرض إسرائيل.

أحيلَ إلى التقاعد وكان عمره آنذاك 60 سنة في عام 1938، فأسس ” كلية النهضة الثانوية ” في القدس بالاشتراك مع إبراهيم الخوري ولبيب غلمية وشكري حرامي، وفي عام 1939 توفيت زوجته “سُلطانة” التي كانت صِنوَ رُوحه، وبقي مشرف الكلية حتى عام 1948م ووقوع النكبة الفلسطينية في القدس، حيث اضطُر في أواخر نيسان/ أبريل 1948 إلى ترك بيته في حي “القطمون” العربي بالقدس، إثر هجوم القوات اليهودية على الحي، فترك بيته ومكتبته المُحبَّبة التي جمعت الكثير من أمهات الكتب العربية والأجنبية، وعُثر على الكثير من كتبه التي تحوي على ملاحظات وتعليقات على هوامشها، في المكتبة القومية الإسرائيلية، والتي استولت على الكثير من المكتبات الفلسطينية التي صادرها جيش الاحتلال عقب النكبة، هاجر السكاكيني إلى القاهرة، حيث كان قد اختير، بناء على تزكية الأديب الكبير طه حسين، عضوا في “المجمع العلمي العربي” بالقاهرة والذي تأثّر بفكره وأدبه أيضاً. وصار يكتب في عدة صحف ومجلات مصرية.

بعد نكبات متوالية تمثَّلت في موت زوجته، ثم وفاة ابنه الأكبر “سري” في شهر أيار (مايو) عام 1953 إثر إصابته بمرض عضال، تُوُفِّيَ خليل السكاكيني عام 1953م بمستشفى “دار الشفاء” بالقاهرة عن عمر يناهز 75 عاماً، ودفن في القاهرة في مقبرة مار جرجس الأرثوذكسية.

وأطلقت وزارة التربية الأردنية اسمه على إحدى مدارس القدس، وعلى أحد شوارعها تخليداً لذكراه.

ما فلسفة السكاكيني وفكره التربوية؟

المدرسة الحديثة:

رغم غرابة فكره في فترة مطلع القرن العشرين إلا أنه كان ناجحًا كمصلح تعليمي وإداري، وظهر ذلك في تقلده العديد من المناصب الإدارية والرقابية في سلك التعليم في عهد العثمانيين والإنجليز كذلك. فمنذ مشاركته سنة 1909 في تأسيس “المدرسة الدستورية” في القدس، ثم خلال إدارته “دار المعلمين” وعمله في هيئة المعارف، ثم تأسيسه في سنة 1938 “كلية النهضة” في القدس، رأى السكاكيني أن المدرسة الحديثة هي التي تجمع طلبة من مختلف الأديان والمذاهب، دون تعرضها لعقائدهم الدينية، فيكون التعليم فيها “مجرداً عن كل تأثير ديني أو جنسي أو سياسي”، وهي التي تستند إلى أحدث الأساليب في التعليم التي توّسع المدارك العقلية للطلبة بعيداً عن أسلوب التلقين، وتقوم على مبدأ احترام الطالب وإعزازه وإطلاق حريته، لا على إذلال الطالب وتقييد حريته، بحيث لا تهيئ طلبتها كي يكونوا أحراراً في المستقبل فحسب، بل تريد – كما كتب- “أن يكونوا أحراراً منذ اليوم، وإذا لم يكونوا أحراراً منذ اليوم، فلن يكونوا أحراراً إلى الأبد”. فقد ألغى العقوبة البدنية للطلبة بوصفها “بربرية وتعود للقرون الوسطى” وطلب من المعلمين ألا يسجلوا أسماء الطلبة الذين يتغيبون، بل ترك للطلبة حرية مغادرة المدرسة إن شعروا بالملل، مؤمنًا بأن هذا الإجراء يرغم المعلم أن يكون مجددًا في طريقته ممتعًا في أسلوبه لكي يحافظ على اهتمام الطلبة ويضمن حضورهم. (تماري، 2003). ويرى أن التربية والتعليم أهم وسائل الحداثة، معتبراً أن العرب الفلسطينيين لا يمكنهم منازعة الصهيونيين إلا بالقوة، وقوة اليوم هي العلم، فدعا شعبه إلى أن يتسلح بالعلم، واهتم بإقامة المدارس على نظم تعليم حديثة، وتزويدها بالمعلمين الأكفاء، وزيادة أعدادها في الأرياف وتأسيس المدارس الصناعية.

أساليب التعليم الحديث:

لقد ظهر بُعد السكاكيني عن التعصب الديني في أساليبه وطرائقه في التعليم، الذي أحبه وكرّس له معظم جهوده، حيث ذكر واصف جوهرية أن السكاكيني قرر خلال عمله في “المدرسة الدستورية” أن “يعلم كل من أراد العلم من التلاميذ المسيحيين قراءة القرآن، وهكذا لبيت هذه الدعوة باختياري وتشجيع والدي رحمه الله، فقد حصلت على المصحف الشريف من سيادة المرحومة الحاجة أم موسى كاظم باشا الحسيني التي أهدتني إياه، وكان نسخة أنيقة الطبع في الأستانة، بعدما لقنتني وجوب احترام القرآن والمحافظة على النظافة عند مسه، وبهذه الصورة تعلمت القرآن من الأستاذ المخصص المدعو الشيخ أمين الأنصاري المشهور بالقدس”. ويتابع جوهرية مبيّنا دوافع السكاكيني إلى تبني هذا الموقف، فيكتب: “كانت فكرة الأستاذ السكاكيني هي أن جوهر اللغة العربية خصوصاً الإلقاء هو قراءة القرآن بالطريقة الأصيلة، وكنت أتلقى هذا العلم مع إخواني وزملائي من أبناء القدس المسلمين”. كما وألغى عادة وقوف الطلبة عند دخول المعلم للصف، وعارض أسلوب القصاص‏، وألغى الامتحانات والوظائف البيتية والشهادات، واستبدلها بتقويم ذاتي يقوم به الطلبة والمعلمون، واكّد على وجود علاقات اجتماعية مفتوحة بين المعلم والطالب.

موقفه إزاء مواد التعليم:

“درس السكاكيني الأسس التربوية الحديثة في جامعات أجنبية كبرى ﻛ “أكسفورد” و”كامبريدج” فأدرك أهمية أن تكون المناهج الدراسية جَذَّابة وتُحبب الطلاب في العلم” ( أقلام مقاومة، 2018)، كما اتبع السكاكيني أساليب التعليم الحديثة، وراعى مستوى استيعاب الطلبة لمواد التدريس، إذ رأى على سبيل المثال: أن الصفوف الأولى يجب أن تقتصر على تدريس اللغة العربية وحدها، وتدرس اللغة الإنكليزية إلى جانبها في الصفوف العليا؛ وذلك كي يسهل على طلبة هذه الصفوف فيما بعد متابعة تعليمهم في الجامعات العربية والأجنبية، على أن لا يدخل ذلك ضيماً على اللغة العربية ولا يمس الكرامة القومية، خصوصاً بعد أن باتت “الوطنية والكرامة القومية تعتزان اليوم – كما كتب – بتوسيع المدارك لا بحشوها، بالمعرفة الصحيحة لا بالألفاظ الكثيرة”. أما بالنسبة لمواد التعليم، انتقد طريقة تعليم التاريخ في المدارس، واعتنائها باللغة القديمة التي لا يحتاج إليها الطالب بدلاً من اعتنائها باللغة الحديثة الحية، اللغة التي بها نفكر ونتعامل، وشدّد على ضرورة تدريس الفلسفة لما لها من آثار في الأدب والدين وسلوك الإنسان، ولأنها تساعد على تنوير البصائر وفهم الحقائق؛ شرط أن يجري تدريسها بـحرية مطلقة، بعيداً عن دروس أخرى مبنية على الخرافات والسخافات. وأكّد على أهمية تدريس الطلبة علم الحياة وعلم الطبيعة، وعلم النفس، وعلم الصحة، وعلم وظائف الأعضاء، فقد رأى أنه من السخف أن يخرج طلبتنا من المدارس وهم لا يعرفون نواميس الطبيعة، ويجهلون ما في أنفسهم: أجسادهم وعقولهم وأهواءهم وغرائزهم، ويجهلون الأرض التي تقلهم والسماء التي تظلهم، وركّز على تدريس التربية الوطنية التي تشحذ العاطفة الوطنية لدى الطلبة، وألغى تعليم الدين وقد عبر عن ذلك بقوله: “إذا لم يكن بد من التعليم الديني فليعلّم كل تلميذ أصول مذهبه بشرط أن نختار أساتذة الدين من خيرة الناس وأفاضلهم، لا أن نتركهم وشأنهم، لئلا يكون تعليمهم عبارة عن سخافات تضلّل العقول، وتفسد العقائد الوطنية، وتنشئ تعصبًا ذميمًا، وتولّد في النفوس كره المدنيّة واحتقار المذاهب العلمية”، وأولى اهتماماً كبيراً للترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، مع اختيار أنفس الكتب العلمية والفلسفية والأدبية، قديمة وحديثة.

موقفه إزاء اللغة العربية:

يرى السكاكيني أن أهم عامل في إيقاظ الشعور الوطني هو أدبيات اللغة العربية، “التي تثير الحماسة في نفوس الطلبة وتبث فيهم الحياة، معتبراً أن “أمة عندها أمثال المتنبي وأبي فراس وأبي تمام والبحتري وأبي العلاء وعنتر لا يمكن أن تموت”. ومن أقواله في هذا الصدد: “اللغة العربية قبل كل شيء، هي العنصر الذي نقيم به أمجاد الأمة، وعلينا أن نعلم الولد كرامة أمته ومجدها في الكلمات العربية؛ ليقرأها ويشعر بأنه يشرف على مجده وعزته القومية من خلال الحروف والكلمات”. إن نظرة السكاكيني لمسألة اللغة العربية أقرب إلى دعاة “التجديد”، منه إلى دعاة “التقليد”؛ فقد أكّد أن التربية الحديثة لا يمكن أن تتحقق إذا لم تصبح اللغة العربية التي “لا تشوبها ركاكة أو عجمة”، لغة التدريس ولغة الكتب المدرسية”، ملاحظاً أن التلاقح الحضاري بين العرب وغيرهم من الأمم هو الذي أفضى إلى “احتشاد قرائح مختلفة أنتجت أدبيات راقية جميلة، فأدبيات اللغة العربية ليست نتاج القريحة العربية، بل هي نتاج قرائح مختلفة”.

كان السكاكيني من الرواد الذين دافعوا عن اللغة العربية في وجه الهجمات التي كانت تشن عليها، فقد عَشِقها ودعا إلى تقديسها والذود عنها، وشارك في السجال الذي صار يدور بين أنصار استخدام العامية وأنصار استخدام الفصحى، فذكر، في رسالة وجهها إلى ابنه سري في أميركا في خريف سنة 1931، أن اللغة العامية “أطوع للتعبير عن الفكر وأوقع في النفس”، لكنه دعاه إلى أن يعوّد قلمه على “استعمال اللغة الفصحى المهذبة المصقولة”، وأن يتورع “عن استعمال اللغة العامية المبتذلة”. وتوقف، في كلمة إذاعية ألقاها في 18 كانون الثاني/ يناير1947، عند الأثر الذي تركته لغة التدريس والصحافة والفنون على اللغة المحكية، فأشار إلى أن من يتفحص اللغة العربية المحكية في العالم العربي يجد  “أن لكل إقليم من الأقاليم العربية لهجة”، بل يجد “أن لهجة القسم الواحد من الإقليم الواحد غيرها في القسم الآخر منه”، لكن بعد أن انتشرت المدارس في البلاد وجعلت اللغة العربية الأصيلة لغة التدريس فيها، وبعد أن كثرت الجرائد والكتب والأغاني والروايات التمثيلية وكلها باللغة الأصيلة، عادت هذه اللهجات “فتوحدت في اللغة الأصيلة”، بحيث “عدنا لا نعرف الواحد من أي إقليم أو بلد أو دين هو، إلا ألفاظاً قليلة لا تزال تنمّ عليه”.

ووصف السكاكيني اللغة بأنها “وسيلة”، قبل أن تكون “غاية في نفسها”، وقدّر أنه عندما لا تكون اللغة العربية صالحة لكي “تكون وسيلة لطلب العلم، فلا يضيرنا شيئاً أن نتخذ غيرها وسيلة ولو إلى حين”، مستشهداً، في هذا السياق، ببعض الكتب العربية الحديثة في مواضيع مختلفة في علم النفس، وفي التربية والتعليم، وفي الفلسفة، لا يمكن فهمها، إلا إذا رجع إلى الكتب الإنكليزية. كما اعتقد بأن لكل زمان ” لغته وأسلوبه”، وأن التفاهم يقتضي الخضوع للغة الزمن الذي نعيشه، مؤكداً أن المعاني عنده “هي في المكان الأول”، بينما الألفاظ “هي في المكان الثاني”، وأنه يلجأ عندما يكتب إلى الأسلوب المتوافق مع زمانه، وهو “الأسلوب الكتابي السهل الواضح البعيد عن التكلف والصنعة”.

ومن منطلق اعتقاده بأن اللغة “وسيلة لا غاية”، دعا إلى إلغاء قواعد اللغة العربية، على اعتبار أن القواعد نفسها هي “وسيلة أولاً”، ويمكن “الاستغناء عنها ثانياً”. أما موقفه من إصلاح الحروف العربية، فقد كان متحفظاً إلى حد ما، إذ رأى أن هذه الحروف “قد بلغت الكمال، وأنها بحكمة صيغت، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان”. وإذا ما برزت صعوبة فإنها “ترجع إلى سوء التعليم لا إلى مشاكل الحروف العربية نفسها”. بالإضافة إلى أنه أعدّ منهج اللغة العربية للصف الأول الابتدائي الذي يبدأ بدرس كلمتي (راس – روس) المدعمة بالصور والشرح.

تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع:

خلال عمل السكاكيني في مجالّي التعليم والتربية، بذل السكاكيني جهوداً حثيثة في سبيل تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع، فركّز على زيادة وعي الطلبة بأهمية الحفاظ على النظافة في مدارسهم، وبيوتهم وبلداتهم وقراهم، فأسس “فرقة الصحة” وهي فرقة من الطلبة في كل مدرسة مسؤولة عن النظافة، وأسس فيها فرقاً باسم “فرق القراء والكتاب” تُعنى بحث الطلبة على مزاولة المطالعة والمبادرة إلى تعميم المعرفة في محيطهم الاجتماعي، وتكون على استعداد لتقرأ للأهالي الجرائد وبعض الكتب المفيدة، وتكتب لهم رسائلهم وكل ما يحتاجون إليه، ظناً منه أن من هاتين الفرقتين (فرقة الصحة وفرقة الكتابة والقراءة) سيكون أطباء القرية وقراؤها وكتّابها.

ما فكر السكاكيني الاجتماعي؟

حمل السكاكيني رسالة في الحياة تمثّلت في نقل مجتمعه الفلسطيني من التقليد إلى الحداثة؛ فدعا إلى العقلانية،  وأكد على أهمية دور المرأة المجتمعي؛ فثار على العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة والجامدة التي تحول دون تعبئة طاقات النساء، وبشّر بوطنية علمانية يجتمع حولها جميع الفلسطينيين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والطائفية، وتجلّت وطنيّته وحبه لفلسطين ولتراثه العربي في كل أفعاله وأقواله، فكان من أوائل المثقفين الذي استوعبوا العلاقة الوثيقة بين الوطنية والمواطنة، وأدرك خطورة المشروع الصهيوني على بلده ودعا إلى مقاومته بلا كلل أو ملل، وناهض الاحتلال البريطاني لفلسطين، وأدان الظاهرة الاستعمارية في الشرق، وأخذ على الحكومات الاستعمارية الأوروبية استغلالها الفئات الاجتماعية الكادحة في بلدانها، وكان من أوائل الفلسطينيين الداعين إلى الوحدة العربية، والمحذرين من مخاطر التجزئة التي تقود إلى الضعف والتفكك.

ما أهم إنجازات السكاكيني الأدبية؟ وما أشهر مؤلفاته؟

عمل السكاكيني على إحياء أسلوب جديد بسيط للكتابة يخلو من السَّجْع والمحسِّنات البديعية المتكلَّفة. وكان من أوائل الأدباء الفلسطينيين الذين كتبوا في الصحافة، وأخذوا بالأساليب العصرية، وتميزوا بشخصية أدبية مستقلة. وكان يراسل عددًا غير قليل من كُبْرَيَات الصحف والمجلات الأدبية في العالم العربي، وينشر فيها المقالات التي تحمل مبادئه الأدبية والإنسانية والاجتماعية؛ مما أكسبه شهرة واسعة. ولقد أثار قضايا أدبية مهمة في كتاباته على صفحات الجرائد، وخاصة في المعركة التي أثارها مع الأمير “شكيب أرسلان” حول القديم والجديد على صفحات جريدة “السياسة” و”الشورى” وغيرها.

ولم يقتصر عمله الأدبي على الكتابة أو الإدارة التعليمية، فقد شارك بتأسيس أكثر من رابطة أدبية في فلسطين. ابتنى له منزلاً في القدس أسماه الجزيرة، وسمى غرفه بأسماء عواصم عربية كبغداد والقاهرة ودمشق. وأصبح منزله ملتقى المفكرين والأدباء والشعراء.

هو شاعر مجيد تأثر بالمتنبي وكان يوقع مقالاته باسم أبي الطيب، ترك تراثاً حافلاً؛ طبع بعضه والبعض الآخر لا يزال مخطوطاً منه، ومع ذلك فإن شعره قليل قياسًا إلى نثره الغزير، فله ديوان شعر واحد فقط لزوجته سلطانة، وشعره الوطني يتناثر هنا وهناك، ومنها:

معاذ اللَه أن أنسى بلادي..      وأن يصبو لغيركمو فؤادي

نأيت ولم يزل قلبي مقيماً..       لديكم حافظاً عهد الوداد

فإن أرحل فليس عن اختياري..     وأن أرجع فذا كل المراد

لكنه ترك وراءه أكثر من 12 مؤلَّفاً، منها كتب لغويّة ومناهج تربويّة، وعدّة مقالات في الأدب والأخلاق والسياسة. ولكن عمله المتميّز بدون شك هو سلسلة “الجديد” التي وضعها كمنهاج لتعليم اللغة العربيّة في المرحلة الابتدائيّة في مدارس فلسطين، ومن أشهر مؤلفاته:

  • ” الاحتذاء بحذاء الغير “، (1896).
  • ” النهضة الأرثوذكسية في فلسطين “، (1913) (أبحاث حول شؤون الأرثوذوكس).
  • ” مطالعات في اللغة والأدب “، (1920).
  • ” فلسطين بعد الحرب الكبرى “، (1925).
  • ” سري القدس “، (1934).
  • ” مبادئ وأصول في تعليم اللغة العربية “، (1936).
  • ” حاشية على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد اللغة العربية”، (1938).
  • ” الدليل الأول والثاني في تعليم اللغة العربية “، (1934 و1946).
  • ” لذكراكِ “، (مرثية لزوجته سلطانة).
  • ” معالم التاريخ القديم “، (مترجم بالاشتراك مع وصفي عنبتاوي وأحمد خليفة – 1942).
  • ” عليه قس “، (1943).
  • ” ما تيسّر”، الجزء الأول والثاني (1943 – 1946) (أبحاث أدبية).
  • ” الجديد”، أربعة أجزاء.
  • ” الأصول في تعليم اللغة العربية “، (1952).
  • ” كذا أنا يا دنيا “، (1955).
  • ” أعزائي”، (1978).
  • “يوميات خليل السكاكيني”، يوميات، رسائل، تأملات [1907-1952]” في ثمانية كتب، تحرير أكرم مسلم. رام الله: مركز خليل السكاكيني الثقافي ومؤسسة الدراسات المقدسية، 2003-2010.

كتب في العديد من الصحف والمجلات العربية: سوريا الجنوبية، النفائس، فلسطين، الأصمعي، الدفاع، الزهرة، جراب الكردي، المنتدى، القافلة، الشورى، السياسة الأسبوعية، الأهرام، الهلال، الجامعة، مجلة المجمع اللغوي، القاهرة. إضافة إلى أحاديث إذاعية من محطة الإذاعة في القدس. (جدلية، 2013).

ما المؤلفات التي أفردت عن السكاكيني؟

  • خليل السكاكيني اللغوي، عصام محمد الشنطي (معهد البحوث والدراسات العربيّة، 1967).
  • في ذكرى خليل السكاكيني، مواد حفل التأبين في 9/9/1955 في عمان، (القدس، 1957).
  • الأرشيف الشخصي، هالة السكاكيني (باللغة الإنجليزية).
  • ثنائي، هالة السكاكيني (القدس، 1993).
  • السنوات في رام الله، هالة السكاكيني (القدس، 1997).
  • أرشيف شخصي، هالة السكاكيني (القدس، 2000).
  • الموسوعة التربوية الفلسطينية: خليل السكاكيني 1878-1947م. فوزي الأسعد (نابلس، 1994).

وختاماً، فقد طمح خليل السكاكيني إلى أن يزرع في مجتمعه الفلسطيني، عبر اشتغاله في حقلي التربية والتعليم، بذور حداثة حقيقية، وذلك بعد ان أدرك أن هذه الحداثة التي ولدت في الغرب؛ تحوّلت مع الوقت بفضل مساهمات شعوب وأمم غير غربية إلى مكتسب إنساني وإلى سيرورة تغتني باستمرار؛ فعظّم شأن النزعات العلمية والعقلانية والإنسانية، وروّج إلى قيم الحرية والمواطنة والوطنية والعلمانية، معتقداً بأن تعرض العرب والفلسطينيين لهذه النزعات والقيم لا ينال من هويتهم الثقافية ويضعفها بل يعمقها ويعززها.

المراجع:

  • الأسعد، فوزي. (1994). الموسوعة التربوية الفلسطينية: خليل السكاكيني 1878-1947م. نابلس: مكتبة الجمعية العلمية. العدد 8 خ1، 60 ص
  • تماري، سليم (2003). السكاكيني في نيويورك الفترة التكوينية في حياة أديب مقدسي، مجلة الدراسات الفلسطينية. 14(56): ص85
  • حمادة، محمد عمر. (1991). أعلام فلسطين: من القرن (الأول حتى الخامس عشر) هجري، من القرن (السابع حتى العشرين) ميلادي. بيروت: دار قتيبة. ج3، ص ص 65-61.
  • حمد، علي خليل (2012). خليل السكاكيني.. المربي المبدع. المنتدى التنويري الثقافي الفلسطيني-تنوير.
  • رؤى تربوية، العدد الثالث. مركز القطان، رام الله، مقتبسات من أقوال المر بي خليل السكاكيني ص 50.
  • السكاكيني، خليل(1955م). كذا أنا يا دنيا.
  • السكاكيني، خليل(1950م). ما تيسر.
  • شاهين، ناجح (2019). خليل السكاكيني: انعتاق التلميذ عقلاً وروحًا فكرًا وجسدًا.
  • شراب، محمد محمد حسن. (2006). شعراء فلسطين في العصر الحديث: صور الماضي والحاضر واستشراق المستقبل. عمان: الدار الأهلية. ص 142.
  • فاشة، منير (2018). رؤية السكاكيني في التعليم مقابل رؤية فنلندا. جامعة بيرزيت
  • مراد، يحيى. (2006). معجم تراجم الشعراء الكبير. القاهرة: دار الحديث. ص369.
  • الموسوعة الفلسطينية. (1994). مج2. ص ص 370-371.
  • نمر، عمر عبد الرحمن (2009). السكاكيني مربيًّا. الندوة الثالثة عشر لاتحاد جمعيات مكتبات بلاد الشام. جامعة النجاح الوطنية.

البحث في Google:





عن إيناس عبد المجيد الأغا

باحثة بدرجة الدكتوراه بقسم المناهج وطرق التدريس كلية التربية الجامعة الإسلامية بغزة فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *