معوقات الاستثمار في التعليم

إن مفهوم الاستثمار اليوم يتعدى الاستثمار في رأس المال فقط، إلى الاستثمار في رأس المال البشري. وهذا الاتجاه المستحدث ينظر إلى الفرد باعتباره هو المصدر الأكثر أهمية في عملية الاستثمار ككل، بل إنه يتعدى أهمية المال ويعتبر الأفراد مصدرا رئيسا للنمو الاقتصادي، وعليه فإن العديد من الدول الغربية ثم تلتها الدول العربية حديثا قد اتجهت إلى الاستثمار في تعليم الأفراد باعتبارهم أحد أدوات النمو الاقتصادي.

وطبقًا لهذا المفهوم الاستثماري الجديد، فإن الخطى تتسارع في الانتقال من الاستثمار المادي إلى الاستثمار اللامادي الخاص بالمعرفة والتكنولوجيا والعلم. وكنتيجة لذلك فإن الموارد المخصصة للتعليم تزداد باستمرار، وتتم زيادة مخصصات التعليم من ميزانيات الدول كهدف استثماري سوف تأتي نتائجه مستقبلاً. [1]

والاستثمار في مجال التعليم هو استثمار طويل الأجل لا تظهر نتائجه سريعًا، بل تمر سنوات حتى يظهر المردود الاقتصادي للاستثمار التعليمي. ولهذا سعت العديد من الدول للبحث عن مصادر لتمويل التعليم بعيدًا عن موازنات الدولة فظهرت على الساحة مبادرات كثيرة سواءً من مؤسسات علمية معروفة أو استثمارات فردية. [2]

وعلى الرغم من النظرة الحديثة إلى الاستثمار في مجال التعليم إلا أن الفارق كبير بين معدلات الانفاق والتمويل التعليمي، فمثلا تتفوق فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو بريطانيا في نسبة الانفاق على نظامها التعليمي بالمقارنة مع يتم إنفاقه على منطقة كاملة مثل إفريقيا أو المنطقة العربية. ولعل السبب الأساسي في تلك المشكلة هو القصور في توفير الاستثمارات اللازمة لتمويل التعليم، أو عدم القدرة على الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، أو حتى سوء استخدامها. [3]

وكنتيجة حتمية لأهمية الانفاق على التعليم، وبناءً على الخطى التي اتخذتها الدول الكبرى، فإن العديد من الدول العربية ينبغي عليها أن تضع نصب أعينها زيادة ميزانية التعليم بشكل عام، والبحث العلمي بشكل خاص.

ومن التحديات التي تواجه تمويل التعليم كاستثمار مستقبلي طويل الأمد هي الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل. فالهدف الأساسي من التعليم هو ضخ دماء جديدة وقدرات بشرية إلى سوق العمل كي يأتي الاستثمار التعليمي بنتائجه المتوقعة، لكن كنتيجة لتعارض تلك المخرجات مع ما يحتاجه سوق العمل من قدرات وإمكانيات فإن الاستثمارات تتراجع أو على الأقل لم تحدث بالكم المتوقع لها. [4]

ساعد وجود تلك الفجوة على هروب الاستثمار والمستثمرين الذي تسعي الدول العربية خاصة إلى استقطابهم حتى ينتعش الاقتصاد، لكن قلة المهارات وضعف الأيدي العاملة وعدم وجود الاطر التي يبحث عنها المستثمر ساعدت على هروبهم والبحث عن العمالة المدربة الواعية في أماكن أخرى.

ويواجه الاستثمار في التعليم مشكلة أخرى وهي هجرة العقول، والتي تتمثل في هجرة الطلاب فور تخرجهم سواءً من التعليم المتوسط أو التعليم العالي إلى الخارج، حيث يرى كثير من الشباب ضعف الفرص في تحقيق أحلامه المادية والمعنوية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة، أو ضعف الفرص للتخصص الذي درسه، فبالتالي يفضل السفر والبحث عن فرص بديلة، مما يمثل هدرا في الاستثمار التعليمي من ناحيتين: الأولى وهي الفترة الطويلة والتي قد تصل إلى عشرين عامًا والثانية هي ضياع فرصة إنتاجية هؤلاء الأفراد في المجتمع. [5]

وتمثل هجرة العقول العربية إلى الدول الغربية تحديًا كبيراً، حيث أنه إذا أرادت الدول العربية الاحتفاظ بخبرات ومهارات أبنائها التي استثمرت فيهم لسنوات، فإن على تلك الدول النظر بجدية إلى ما يتطلع إليه هؤلاء الشباب والعمل على تحقيقه.

أما بالنسبة للتعليم الفني الصناعي والذي يعتبر قاطرة التنمية البشرية، فإن النظرة إلى التعليم الفني مازالت قاصرة ومتدنية، وبالتالي لا يشمل غالبًا الاستثمار في التعليم جانب التعليم الفني الصناعي على الرغم من أهميته، فغالبية الاستثمار تتوجه إلى جميع مراحل التعليم من التعليم ما قبل المدرسي إلى التعليم الجامعي مروراً بالمتوسط والثانوي، لكن يتم تجاهل الاستثمار في قطاع التعليم الفني والذي تعتبره كثيرًا من الدول ركيزة أساسية من ركائز التنمية الصناعية حيث أنه يشمل العمل اليدوي، والمهارات الفنية الأساسية، ويعتبر العنصر الاستراتيجي والمكون الأساسي لتوفير العمالة المدربة. [6]

والتعليم الفني يعتبر الحجر الأساس للتصنيع، خاصةً في الفترة الماضية والتي تسمي الثورة الصناعية الثانية، التي تنظر إلى التصنيع والصناعة باعتبارها الركيزة الأساسية للاقتصاد.

أما الإشكالية الأخرى التي تواجه الاستثمار في التعليم فهي جودة التعليم نفسه، فحتى هذه اللحظة لا يوجد إجماع على الشكل الأمثل للتعليم الجيد أو بمعنى آخر جودة التعليم. ويرجع ذلك الاختلاف أو عدم الاتفاق إلى الاختلاف على رأس المال البشري نفسه، حيث لا يمكن قياسه ماديًا مثلما نستطيع فعله عندما نريد قياس رأس المال المادي، ويرجع ذلك للعديد من الأسباب منها اختلاف الثقافات، والاختلافات الفردية بين الأشخاص، والفروق بين الأفراد في الميول والاتجاهات، حيث غالبًا ما تخفق الدول في ضبط جميع تلك العناصر والعوامل وبالتالي تخفق في تحقيق جودة التعليم مما يؤدي إلى الفشل في الاستثمار التعليمي. [7]

وتؤخذ في الاعتبار الجهود العديدة التي تقوم بها الدول للنهوض بالتعليم وجودته لكن دائمًا ما يصيب تلك الجهود والخطط العملاقة الفشل، للعديد من الأسباب من أهمها: إهمال المتعلم نفسه، وهو الهدف الرئيسي من عملية التعليم نفسها. ولعل إشراك المتعلم في اختيار ما يتعلمه يمكن أن يؤدي في النهاية إلى جودة التعليم وتحسين مخرجاته.

وكأي استثمار، فإن الاستثمار في التعليم يسعى إلى الاستقلالية في العمل والإنتاج، لكن عندما تفتح الحكومات الباب للاستثمار الخارجي والمؤسسي في التعليم فإن تدخلها بشكل أو بآخر يؤثر بطريقة سلبية على هذه الاستثمارات والمستثمرين، فلكي تحصل الحكومات على الاستثمار الذي تبتغيه يجب عليها تسهيل الإجراءات، والكف عن التدخل الذي من شأنه أن يشعر المستثمر بالقلق ويلغي استثماره. [8]

وأخيراً، فإن الاستثمار في التعليم يتأثر مثل أي استثمار آخر بالعوامل الخارجية، فعلى سبيل المثال تسببت جائحة كورونا في أكبر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية، وكنتيجة لهذه الجائحة فإن اقتصادات الدول حتى العملاقة منها قد تأثرت بشدة، واضطرت الحكومات إلى زيادة الانفاق على القطاع الصحي والخدمات العامة، مما كان له أثر كبير على القطاعات الأخرى ومنها التعليم، وكما حدث في الحكومات حدث للمؤسسات المستثمرة في القطاع التعليمي ولعل العديد منها قد انسحب أو عمل على ترشيد الإنفاق، مما أدى إلى تقليل جودة التعليم. [9]

وفي النهاية، فإن التعليم هو حجر الزاوية الذي تقوم عليه الدول، فبدون التعليم الجيد لا يصبح لدى الدول من الأفراد ما يساعد على تحقيق الخطط المستقبلية، ولا الأهداف التي تسعى لتحقيقها. ولكي تحقق الحكومات والدول مرادها لابد من النظر إلى التعليم على أنه استثمار جيد، كما لابد أيضًا من النظر إلى التحديات التي تواجهه.

إن مواجهة التحديات والعوائق التي تحول دون النهوض بالتعليم والاستثمار فيه لم يعد اختيارًا، وإنما أصبح لزامًا وأمراً لابد منه إذا كانت الدولة تريد النهضة بصورة حقيقية ومؤثرة، سواء في الوقت الحالي أو بالنظر إلى المستقبل البعيد.

المراجع:

[1] تتقوت، وفاء. (2012). التعليم العالي ودوره في بناء اقتصاد المعرفة. رسالة دكتوراه. جامعة باجي مختار عنابة سيدي عاشور.
[2] جوهر، علي، والباسل، ميادة. (2016). الاستثمار الامثل في التمويل التعليم. القاهرة: المكتبة العصرية.
[3] الزلزلة، يوسف. (2011). مفهوم الاستثمار في التعليم العالي. المؤتمر التربوي الثاني، الاستثمار في التعليم العالي، جمعية المركز الاسلامي للتوجيه والتعليم العالي.
[4] محمد، سهام كامل. (2015). الاستثمار في التعليم العالي وأثره في سوق العمل. مجلة دراسات محاسبية ومالية، 10(33)، 196-212.‎
[5] صالح، رضوان محمد. (2021). تصور مقترح لمتطلبات الاستثمار في رأس المال البشري بالتعليم الفني الصناعي على ضوء خطة التنمية المستدامة 2030. مجلة كلية التربية، جامعة المنصورة، (116)، 377-405.
[6] عبد العال، أزهار، ومظلوم، نهلة. (2015). التعليم الثانوي الفني. السكان: بحوث ودراسات، لجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء – مركز الأبحاث والدراسات السكانية، (89)، 33-69.
[7] يوسف، مسعداوي. (2017). الاستثمار في التعليم وأثره على تنمية رأس المال البشري حالة الجزائر. المؤتمر العلمي الثالث لعلوم المعلومات.
[8] International Finance Guide. (2010). Education Investment Guide A Guide for Investors in Private Education in Emerging Markets.
[9] European Commission, Directorate-General for Education, Youth, Sport and Culture, (2022). Investing in education in a post-Covid EU, Publications Office of the European Union

البحث في Google:





عن خلود عياد واصل الحربي

باحثة دكتوراة مناهج وتقنيات التعليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *