المناهج الدراسية في المملكة العربية السعودية

إدارة المخاطر المؤسسية : من التنبؤ إلى التمكين

أصبحت إدارة المخاطر المؤسسية ركيزة جوهرية في حوكمة المؤسسات تحديدًا في القطاع التعليمي الذي يعد أساسا جوهريا للتنمية الوطنية. وانطلاقًا من رؤية المملكة العربية السعودية 2030 تم تأسيس مجلس المخاطر الوطنية التي جاءت ترتيباته التنظيمية بقرار مجلس الوزراء رقم (445) وبتاريخ 12شعبان 1443هـ الموافق 15 مارس 2022م، ليكون مظلة تنسيقية عليا لجميع الجهات الحكومية، بهدف رفع الجاهزية الوطنية، وتعزيز القدرة على التنبؤ والتعامل مع المخاطر والأزمات، بالإضافة إلى ترسيخ ثقافة مؤسسية قائمة على الاستباقية والوقاية و الاستجابة، وقيادة توجه استراتيجي يدمج بين التخطيط، وإدارة الأزمات، واستمرارية الأعمال (مجلس المخاطر الوطنية،2023). وفي ظل هذا التوجه الوطني برزت أهمية تطبيق إدارة المخاطر المؤسسية في وزارة التعليم من خلال تحليل السياقات التعليمية والتشغيلية لتحديد المخاطر المتأصلة والمتبقية، وبناء خطط استجابة واستمرارية تعليمية تضمن بقاء العملية التعليمية في ظل الأزمات، وتعزيز الالتزام بالأنظمة واللوائح الوزارية، وتقليل فرص التعثر المؤسسي، والربط بين الأهداف التعليمية وخطط التحول الوطني، لتحقيق مخرجات تعليمية فعّالة ومستدامة. وأظهر تطبيق إدارة المخاطر في التعليم نتائج وتحولات في رفع كفاءة اتخاذ القرار على مستوى القيادات، وتقليل الهدر المالي والتشغيلي عبر رصد المخاطر مبكرًا، وتعزيز استقرار واستمرارية العملية التعليمية على مدار العام، وتمكين الإدارات من التعامل مع التحديات بثقة ومرونة.

من التنبؤ إلى التمكين: تطور إدارة المخاطر المؤسسية في ضوء مؤشر صمود الوطني

تبدأ رحلة إدارة المخاطر المؤسسية من التنبؤ الاستباقي، حيث يُبنى الفهم العميق للسياقين الداخلي والخارجي للمنظمة، وتحليل نقاط الضعف والفرص المحتملة، لتشكيل صورة شاملة عن التهديدات المستقبلية، وتقدير احتمالات وقوعها وتأثيرها، وهو ما يعد الأساس الأول لتوجيه القرارات الاستراتيجية بوعي ودقة (ISO 31000, 2018).. لكن التنبؤ وحده لا يكفي. فالممارسات الفعّالة ترتقي إلى الاستعداد والاستجابة، وهنا يأتي مفهوم الجاهزية المؤسسية، التي تعني امتلاك القدرات التنظيمية والمرونة التشغيلية والموارد المناسبة لمواجهة المواقف الطارئة. وقد أولى مجلس المخاطر الوطنية السعودي هذا الجانب اهتمامًا بالغًا من خلال تطوير مؤشر صمود، الذي يُستخدم لقياس مدى الجاهزية المؤسسية للصمود أمام المخاطر والأزمات، والطوارئ عبر محاور تشمل: البنية التحتية، والحوكمة، والوعي، والتدريب، واستمرارية الأعمال، ونؤكد بأن إدراج مؤشر صمود ضمن منظومة التقييم المؤسسي يدفع الإدارات نحو التحول من رد الفعل إلى الفعل القيادي الاستباقي المبادر، مما يجعل إدارة المخاطر شريكًا استراتيجيًا في النمو والابتكار إلى جانب وظيفة الدعم والمساندة (مجلس المخاطر الوطنية، 2023).

ومع النضج المؤسسي، تنتقل المنظمات إلى مرحلة التمكين، حيث تصبح المخاطر عنصرًا فاعلًا في تحقيق القيمة وتعزيز اتخاذ القرار، ودمجها في النسيج الإداري والقيادي (الهيكل التنظيمي “الإدارات، الأقسام، الوحدات”، والعلاقات الإدارية الرأسية والأفقية، والتنسيق والتكامل بين الأدوار والمهام، والأنظمة واللوائح التي تنظم العمل وتحوكمه)، وتحويلها إلى ميزة تنافسية من خلال التعلم المؤسسي، وتوظيف التكنولوجيا في إدارة المخاطر، وتحليل السيناريوهات باستخدام أدوات تحليلية متقدمة، ووفقًا لما ورد في دراسة بوداود (2023) فإن تطبيق أداة مونتي كارلو يعزز فاعلية إدارة المخاطر داخل المؤسسات الاقتصادية، خاصةً في البيئات التي تتسم بعدم التيقن وتعقيد المتغيرات، حيث تتيح هذه الأداة بناء تصورات كمية دقيقة لاحتمالات حدوث المخاطر مما يساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية قائمة على معطيات واقعية.

العلاقة بين مالك الخطر وقسم المخاطر والالتزام واستمرارية الأعمال

بحسب معيار ISO 31000:2018، يُعد مالك الخطر أحد المرتكزات الأساسية في منظومة إدارة المخاطر المؤسسية، ويعرّف المعيار مالك الخطر على أنه الشخص أو الجهة التي تمتلك الصلاحية والمساءلة عن إدارة خطر معين، وهو بذلك يتكامل مع نظام الحوكمة المؤسسي، ويؤدي دورًا فاعلًا في تحويل التوجهات الاستراتيجية إلى ممارسات وقائية وواقعية.

ويبدأ دور مالك الخطر من لحظة التعرف على التهديد أو الفرصة المحتملة التي قد تؤثر على تحقيق أهداف الوحدة أو القسم أو الإدارة التي يشرف عليها، ثم يتولى تحليل هذا الخطر وفقًا لمعطيات الاحتمالية والأثر، مستعينًا ببيانات موثقة وتقديرات موضوعية، بعد ذلك يختار من بين استجابات المخاطر المتاحة ما يتناسب مع طبيعة الخطر وسياق الإدارة، سواء بالتقليل من تأثيره أو نقله أو تقبله ضمن مستوى التحمّل المقبول أو تصعيده، ويمتد دور مالك الخطر ليشمل المتابعة الدقيقة والتحديث المستمر لسجل المخاطر، بما يضمن بقاءه تحت السيطرة والتحكم، وتوافقه مع التغيرات الاستراتيجية والتشغيلية أو البيئية وغيرها.

ويتجلى دور مالك الخطر في رفع التقارير لقسم المخاطر، وتقديم المشورة في حالة تصاعد التهديدات أو الحاجة إلى تدخل الإدارة العليا، ومن خلال التفاعل المستمر مع فريق إدارة المخاطر، يساهم مالك الخطر في ترسيخ ثقافة واعية اتجاه المخاطر مما يعزز من اتخاذ قرارات مبنية على المعلومات، ويحفز على الاستعداد للمستقبل. إن هذا الدور التفاعلي لمالك الخطر وفق ما تؤطره ISO 31000 هو دور قيادي في بناء مؤسسة قادرة على التنبؤ والتكيف والاستمرار بثقة في بيئة مليئة بالتحولات والتحديات.

وتعد العلاقة بين مالك الخطر وقسم المخاطر والالتزام واستمرارية الأعمال علاقة تكاملية قائمة على التعاون والتنسيق لضمان تحقيق أهداف الإدارة، ورفع جاهزيتها للتعامل مع المخاطر المحتملة، ويتحمل مالك الخطر المسؤولية التشغيلية عن المخاطر التي تقع ضمن نطاق وحدته أو قسمه أو إدارته، ويعمل بوصفه الذراع التنفيذي الذي يطبق أدوات إدارة المخاطر في الميدان التعليمي.

بينما قسم المخاطر والالتزام واستمرارية الأعمال فيوفر الإطار المرجعي والسياسات والإجراءات التي تحكم إدارة المخاطر، كما يقدم المشورة والدعم التخصصي من خلال عقد لقاءات عن بعد أو تنفيذ زيارات ميدانية أو متابعة تقارير إدارة المخاطر الصادرة من مالكي المخاطر، ويتابع التزام الملاك بالإجراءات المقررة وفق اللوائح والأنظمة، والتأكد من مدى فاعلية الإجراءات التصحيحية وخطط المعالجات.

كما يتولى القسم دور محوري في ربط جهود إدارة المخاطر بمفاهيم الالتزام والحوكمة، والتأكد من أن كل خطر تتم معالجته بما يتوافق مع الأنظمة والتشريعات المعتمدة، ويمتد ذلك إلى التخطيط لاستمرارية الأعمال، حيث يكون مالك الخطر أحد مصادر البيانات الرئيسة في تحديد الأولويات التشغيلية (اختيار وترتيب المهام والأنشطة اليومية أو الدورية داخل المنظمة بحسب أهميتها وتأثيرها على تحقيق الأهداف، والتركيز أولًا على ما هو أكثر أهمية أو حساسية لضمان سير العمل بكفاءة واستمرارية)، وتقييم تأثيرات الانقطاعات المحتملة (تحليل ما قد يحدث إذا توقفت بعض العمليات أو الأنشطة الأساسية في الإدارة، وتقدير حجم الضرر الناتج عنها على الأداء العام، سواء من ناحية الوقت، أو التكلفة، أو السمعة، أو رضا أصحاب العلاقة الداخليين والخارجيين).

وتجدر الإشارة إلى إن إدارة المخاطر المؤسسية باتت ضرورة استراتيجية في ظل عالم (الفوكا) الذي يتسم بعدم اليقين وتسارع التغيرات والغموض والتعقيد، حيث يبدأ الطريق من التنبؤ الذكي بالمخاطر، ويمر بمحطات الجاهزية والاستجابة، وصولًا إلى التمكين المؤسسي الذي يجعل من إدارة المخاطر ركيزة للقرار والابتكار، وتأتي مبادرات وطنية رائدة كـمؤشر صمود لتعكس هذا التحول المفاهيمي الذي يحفّز الجهات على تطوير قدرتها المؤسسية والاستثمار في مرونتها التنظيمية. وفي خط موازٍ تمضي المملكة العربية السعودية بخطى واثقة نحو تحقيق رؤية 2030 مستندةً على إدارة المخاطر المؤسسية، والتي تعد عملية فعّالة لتحقيق الاستدامة والاستمرارية وتعزيز الكفاءة المؤسسية، وتمكين الكيانات من الصمود، بالإضافة إلى التفوق في مواجهة التحديات وتحقيق التميز المؤسسي محليًا ودوليًا وعالميًا.

 


المراجع والمصادر:

بوداود، خليد. (2023). استراتيجية إدارة المخاطر في المؤسسة الاقتصادية – دراسة حالة (أطروحة دكتوراه غير منشورة). جامعة الجزائر 3، الجزائر

مجلس المخاطر الوطنية. (2022). الإطار الوطني لإدارة المخاطر والطوارئ واستمرارية الأعمال. المملكة العربية السعودية.

مجلس المخاطر الوطنية. (2023). مؤشر صمود”قياس مستوى الجاهزية في إدارة المخاطر والطوارئ واستمرارية الأعمال”. المملكة العربية السعودية.

ISO. (2018). ISO 31000: Risk management – Guidelines. International Organization for Standardization.

البحث في Google:





عن دينا بنت مسفر الحربي

ماجستير قيادة تربوية/ أخصائي حوكمة ومخاطر والتزام/ وزارة التعليم كاتبة وباحثة في مجالات القيادة، وإدارة المخاطر، وصانعة التغيير في بيئة العمل، أقدّم مقالات معرفية تهدف إلى إثراء المحتوى العربي من خلال تبسيط المفاهيم الإدارية المعقّدة وربطها بالواقع المهني، مع اهتمام خاص بتطبيق المفاهيم في القطاع التعليمي أؤمن بأن المعرفة أداة تمكين، وأن الكلمة الواعية والمدروسة قادرة على إحداث أثرٍ حقيقي ومستدام.

اترك تعليقاً

اكتشاف المزيد من تعليم جديد

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading