التعثر في منظومة التربية و التعليم بالمغرب

“في سياق التقرير الذي نشرته اليونسكو، والذي تناقلته عدد من الجرائد الوطنية حول واقع التعليم في المغرب، وتفاقم الأزمة التي يشهدها هذا القطاع الحيوي بحيث عمل هذا التقرير على تشخيص  الأعطاب و الإكراهات، وأبرز تجليات  التعثر في قطاع التربية والتعليم. ومساهمة منا في إثراء النقاش في هذا الملف اخترنا المشاركة في هذه المناقشة  بهذا المقال”

رغم أن الرهان الذي راهنت عليه كثير من دول العالم العربي، بما في ذلك المغرب كان هو تأسيس مدرسة الجودة والإنصاف والارتقاء وتكافؤ الفرص و الإبداع والتجديد، باعتبار أن هذه المواصفات هي الكفيلة ببروز مدرسة متسمة بالجودة، تسعى إلى تحقيق التنمية والتقدم، وتحقيق الاستقرار وضمان العيش الكريم، و السعي نحو اقتلاع التخلف، وإبعاد الهشاشة من المجتمع، مما يتيح للمتعلم الاندماج الفاعل والسريع في هذا الأخير عبر اكتساب مهارات الحياة التي يحتاج إليها لتحقيق هذا الهدف.

و هذا الرهان مازال مطلبا ملحا وضروريا في جميع دول العالم العربي بما في ذلك المغرب، مما جعل المدرسة التي تشكل أهم الفضاءات لتلقين التربية والتعليم، ونشر ثقافة التسامح والاعتراف بالغير، تعيش تعثرا حادا وتراجعا كبيرا في جميع المستويات والأصعدة حسب ما أفاد به تقرير التنمية العربي الرابع الصادر مؤخرا فضلا عن التقارير الوطنية التي اشتغلت على أعطاب المدرسة المغربية.

التعثر في التعليم

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التعثر الكبير والحاد الذي تشهده المنظومة التعليمية ببلدنا، و في العالم العربي  بصفة عامة، إذ دلت كثير من التقارير بما في ذلك تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر مؤخرا، و تقرير مركز المعرفة العربي، بأن المتعلم في الوطن العربي يعاني من عدة تعثرات تتصف بالحدة، خاصة ما  تعلق بمكتسباته في اللغات، أو بمحصوله المتصل بالتعلمات الأساسية، التي تهدف  إلى إنماء مهارات  الفهم والتحليل والتركيب والاستنتاج، أو ما اتصل باكتساب القيم، و تحصيل السلوكات الإيجابية التي بالإمكان أن يستثمرها المتعلم  في حياته والإعداد لمستقبله. فالقيم هي السبيل إلى تنمية القدرة على الاندماج الفاعل في المجتمع، وفي المحيط.

أ- تجليات التعثر

1-التعثر اللغوي

إن الملكة اللغوية للمتعلم ومكتسباته في اللغات ومنجزه الكتابي والشفهي يبدو عليها بعض التشويش والضعف والقصور الشديد، إذ أصبح المنجز اللغوي الإنشائي والتعبيري للمتعلم محل استغراب مريب و موضع شك، وسبب في إدانة المنظومة التعليمية، والحكم عليها غيابيا بالفشل الذريع والإخفاق الكبير، والتراجع المهول…[1].

لأننا اليوم أمام متعلم بدون لغة، لا يجيد التواصل، ولا يحسن التعبير الكتابي، وغير متمكن من القراءة، بل الأكثر من هذا يجد صعوبة كبيرة وشديدة في استثمار منجزه اللغوي في وضعيات لغوية جديدة خاصة في مادة الإنشاء، فهذه التعثرات التي يعاني منها المتعلم اليوم في محور تعلم اللغة، يرجعها البعض إلى المشاكل البيداغوجية، و الصعوبات اللسانية، والطرائق الديداكتيكية المتبعة، و السائدة في تدريس اللغات وتعليمها في المدرسة المغربية.[2]

و من آثار هذا   التعثر ما يعرفه تعلم  اللغة العربية في تعليمها من تراجع كبير على مستوى الأداء، والإنجاز، والتحصيل اللغوي للمتعلم، بحيث مس هذا التراجع جميع المهارات، والمكتسبات، والأنشطة الصفية ذات الصلة باكتساب اللغة عند المتعلم خاصة ما تعلق بمهارتي  التعبير الكتابي أو الشفهي، و مهارة القراءة والتواصل الصفي، ففي هذه المهارات والأنشطة يحضر القصور اللغوي عند المتعلم بشكل كبير وجلي.

وهذا القصور مرتبط بالصعوبات التي يجدها هذا المتعلم في تعلمه للغة العربية، وتحققه من أنشطتها وكفاياتها، الكتابية والشفهية والتواصلية بحيث تغيب فيها الوسائل التعليمية المحفزة والداعمة لهذا التعلم  والمساعدة والمحفزة عليه.[3]

التعثر اللغوي وفضاء التمدرس

إن الفضاء الذي تجري فيه تلك التعلمات المصاحبة  للتدريس، يعرف عدة اختلالات خاصة في الأقسام الابتدائية المتواجدة في العالم القروي، والبعيدة عن العالم الحضري، إذ يسود فيها القسم المشترك المتعدد المستويات، والمتداخل في المناهج، يتولى الإشراف عليه معلم واحد، أجبر على الجمع بين اللغة العربية والفرنسية في التدريس، مما أثقل  كاهله، وصعب من مأموريته، وجعله حائرا في تلقين مواد غريبة عنه بسبب تكوينه الأدبي، علما أن القسم المشترك  قد يصل  في كثير من الأحيان إلى أكثر من أربع مستويات.[4]

كما يعرف هذا الفضاء بجميع أشكاله، عدة تحديات واختلالات من حيث تزايد الطلب على التعليم، والإقبال على التمدرس، بحيث لا يتناسب هذا الطلب مع ما يعرفه العرض التربوي من تزايد مستمر، وطلب متنام على التعليم خاصة في الآونة الأخيرة، وهو ما أدى إلى بروز كثير من المشاكل التربوية، أبرزها الاكتظاظ الكبير والحاد في الأقسام، والتناوب على الحجرات مما  خلق مشاكل متعددة  للطاقم التربوي والإداري. [5]

بل الأكثر من هذا، ذهب التقرير التنموي الخمسيني أن المدرسة العمومية تعرف هجرة جماعية نحو التعليم الخاص، هذا التعليم الذي يراهن على تجاوز أعطاب ومعوقات المدرسة العمومية، من خلال الرفع من الحصيص الزمني للغات، والتقليص من المساحة الزمنية لمواد التفتح والانفتاح على التكنولوجيات الجديدة، و إرهاق أولياء الأمور بالدعم الخارجي من خلال الأنشطة المنزلية، فضلا عن إثقال المتعلم  بالكتب المدرسية الأجنبية، وبالأخص منها الفرنسية، رغم وجود مذكرة في الموضوع تمنع جعل الكتاب الأجنبي هو الأساس في التدريس.

هذه الأعطاب والمعوقات التي يعيشها التعليم العمومي في المغرب عامة، والمدرسة المغربية خاصة جعلت المحققين يقولون بأن أزيد من 55 في المائة من تلامذة المغرب في أفق سنة 2020 سيجدون أنفسهم في أحضان التعليم الخصوصي[6].

اللغة ورهان الجودة في التعليم

إن الحديث عن اللغة وعن تعليمها يأتي في سياق الحديث عن خطاب الجودة في التعلمات من حيث إن الجودة هي رهان استراتيجي راهن عليه المغرب، وحرص على اختياره في منظومة التربية والتعليم، بحيث لا يمكن الحديث عن الجودة دون الحديث عن لغة التدريس التي ينبغي أن يفهمها الجميع، وتصل إلى الجميع، ويتمكن منها الجميع. وبدون شك فإن اللغة العربية هي اللغة المرشحة و القادرة على القيام بهذه المهمة، حتى تكون خادمة للاقتصاد، وقنطرة للتنمية، مما يؤهلها لتكون اللغة المرشحة في التدريس، لأنها في أصلها ومرجعيتها هي اللغة الأم للمتلقي، علما أن من مداخل  الجودة  في التعليم الرفع من تعلم اللغات.

لكن الواقع التعليمي يشهد العكس بحيث أن المتعلم يعاني من عدة مشاكل في إنتاج النصوص على النحو المرغوب، والصورة المطلوبة خاصة في الأقسام الابتدائية.[7] وهذا يعود إلى عدم تحكم هذا المتعلم في الكفايات الأساسية لموارد اللغة العربية التي منها: التراكيب – النحو – الصرف -المعجم.[8]

كما لا ينبغي أن ننسى، أو أن نتجاهل بأن سياق الحديث عن اللغات، وعن تدريسها، وعن تعليمها يأتي في صدارة الاهتمام الذي أخذت تحتله اللغة العربية بين جميع لغات العالم، من حيث تزايد الطلب على تعلمها، وتنامي الاهتمام بتدريسها وتعليمها.

2- التعثر في التعلمات الأساس

إن المتعلم المغربي يعاني من صعوبات شديدة في مجال التعلمات الأساس، بحيث كشفت  نتائج البرنامج الوطني لتقويم التعلمات أن المتعلم المغربي يجد صعوبات شديدة وكبيرة حينما يتعلق الأمر بتوظيف مهارات من قبيل تلك المرتبطة بالتحليل والتركيب والاستنتاج.

وهذا القصور في هذه المهارات أكدته كثير من البحوث التدخلية التي كشفت بالأرقام عن مستوى تدني هذه المهارات في مكتسبات المتعلم المغربي.

وهذا يعود إلى طرائق التدريس المتبعة التي تغيب قدرات المتعلمين وميولاتهم في بناء تعلماتهم.

3- اكتساب القيم

إن من أبرز وظائف المدرسة غرس القيم في المتعلم، حتى يتشبع بروح المواطنة والقيم الإنسانية، ويصبح قادرا على خدمة الوطن والمحافظة على المقدسات، مساهمة منه في التنمية، علما أن القيم هي أساس البناء والنهوض الاجتماعي والاقتصادي. فهي جوهر الإنسان، وهي ملتصقة بالإنسان، وإحدى مواصفاته التي تميزه عن غيره من الكائنات الحية.

لهذا الاعتبار نقول إن منتوج المدرسة من القيم وتأثير هذه القيم على المتعلم وعلى المجتمع، مازال ضعيفا بسبب ما يشهده العالم اليوم من تحولات عميقة في بنياته الاجتماعية و مؤسساته الثقافية، وهي التحولات التي أثرت مباشرة على فضاء المدرسة، فرغم هذا الموقع المهم للقيم في البرامج التعليمية باعتبار أن  القيم  هي   التي تؤسس شخصية الإنسان، وتعمل على  الحفاظ على هويته، فإنها تعرف  تراجعا من حيث التأثير، والفعل  في سلوك المتعلم.  فالمنتوج القيمي في المدرسة المغربية ضعيف وهزيل رغم أن المدرسة من أدوارها الأساسية القيام بدور التربية والتنشئة، وتطبيع المتعلم بثقافة المجتمع، وتربيته على القيم الإيجابية، فهي فضاء يمنح رأسمالا ثقافيا للمتعلم، يسعى  إلى استثماره  في حياته العملية.[9]

وهذا التراجع في القيم على مستوى المدرسة المغربية  يعود إلى  التحولات العميقة والسريعة التي شهدها العالم اليوم، وأثرت على المدرسة في وظيفتها  القيمية بشكل واضح.

إن ضعف المنتوج القيمي في المدرسة، أدى إلى بروز كثير من السلوكات غير المعهودة، والدخيلة على فضاء المدرسة بصفة عامة منها خاصة ظاهرة العنف المدرسي التي تفشت بشكل بكبير في الوسط المدرسي.

4- استنتاج عام: إعداد المعلم والنهوض بالعملية التعليمية

للخروج من هذه المعضلة التي لازمت المنظومة التعليمية في الوطن العربي عامة والمغرب خاصة، في مكوناتها، ومستوياتها لأمد بعيد، دعا كثير من خبراء التربية والتعليم سواء في المغرب، أو في الأقطار العربية إلى  ضرورة إعادة النظر في برامج التكوين والتأهيل للمعلم الذي يتولى التدريس، والحصيص الزمني المخصص لهذا التكوين، و ذلك من أجل أن  يلبي  هذا المعلم الجديد الحاجيات، ويستجيب للمتطلبات التي يقتضيها العصر، وهي متطلبات يطغى عليها التنافس الدولي في اكتساب المعرفة، وهذا لا يتيسر إلا بمراعاة الحاجيات البيداغوجية لهذا المعلم الذي يتولى مهنة التعليم من خلال إعداد عدة  جديدة في التكوين تراهن على هذه الحاجيات الأساسية والمستعجلة، منطلقين من هذا الاعتبار العلمي وهو أن تحسين نوعية التعليم والرفع من منتوجه يتوقف على تأهيل  العنصر البشري .[10].

إن إعداد المعلم الكفء هو المفتاح الحقيقي لتطوير التعليم، وتجاوز التعثرات التي تمر منها منظومة التربية والتعليم.

 

 

 


المراجع:

 

[1] – المُنجَز اللغوي لتلميذ المدرسة المغربية: دراسة ميدانية للتعثرات بجهة مراكش-آسفي لهشام فتح:5

[2] –  يراجع :المسألة اللغوية في المغرب والعالم العربي: التوجهات والتحليلات  عدد خاص- العدد -26-السنة:2015. مجلة عالم التربية المغربية

[3] -اللغات في المدرسة المغربية ملف خاص أنجزته مجلة المدرسة المغربية:مقدمة العدد3.السنة:2011.

[4]-بحث تدخلي:التعليم في العالم القروي انجاز طلبة الفوج-3-السنة التكوينية:2015-2016.المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الناضور.

[5] -يراجع: المغرب الممكن تقرير الخمسينية للتنمية:22

[6] -نفسه

[7] -الجودة في التعليم لعبد الرحيم ليه .محاصرة ألقيت بمركز الدراسات والبحوث بوجدة السنة العلمية:2015-2016.

[8] المُنجَز اللغوي لتلميذ المدرسة المغربية: دراسة ميدانية للتعثرات بجهة مراكش-آسفي لهشام فتح:11.

[9] -تمثل الطفل في المجتمع المغربي لأحمد اوزي:117

[10]مكامن الخلل في منظومة التربية والتعليم لأحمد إوزي.مجلة علوم التربية.العدد:-51-السنة:2012.

البحث في Google:





عن د. محمد بنعمر

أستاذ التعليم العالي مساعد - حاصل على الدكتوراه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية - ظهر المهراز فاس - مكون تربوي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فرع الناضور - عضو بمختبر ابن خلدون للبحث التربوي الناضور - عضو بعدة مراكز للبحث الأكاديمي والعلمي والبيداغوجي - شارك في عدة ندوات دولية ووطنية - له دراسات وبحوث وكتب منشورة - المملكة المغربية

2 تعليقات

  1. Mehdi boukartoufa

    بعد التحية والسلام عليكم، أقول أن قطاع التعليم أصبح حقلا لتجريب الطرق التعليمية المستوردة دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات السوسيولوجية والتربوية الخاصة ببلدنا.

  2. عمر سالم الزائري

    السلام عليكم
    التعثر الدراسي إخفاق مؤقت لدرس قائم من سلسلة دروس المنهاج سببه عدم فهم التلميذ لدرس سابق سواء لغيابه جراء الظروف الصحية أو الاجتماعية ، أو لشروده… ويظهر هذا التعثر أثناء الحصة القائمة والمعلم يعرف ذلك جيدا ويتفطن له بسرعة فيبادر إلى تذليل ذلك بالدعم.
    التأخر الدراسي تراكم لعدة تعثرات وتظهر في تزايد قلق التلميذ، وشعوره بأن الركب قد فاته ولن يستطيع اللحاق.. فيعمد إلى القيام بطلب الخروج بسبب ومن دون سبب .. المعلم الفطن يفهم ذلك جيدا..وهذا يستوجب العلاج.
    الفشل الدراسي ، لا سمح الله ، يستوجب الإصلاح الشامل، أي تغيير المسار تغييرا تاما بما يضمن للتلميذ فتح باب جديد لإتقان مهارات عملية وذلك بالاتفاق مع والده في إطار القانون بتحويل وجهته إلى مؤسسة أخرى كالتكوين المهني مثلا، … بما يتفق وميوله… ليضمن الترزق من عرق جبينه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *