التعليم عن بعد في المغرب

التعليم عن بعد في المغرب : مضامين أم كفايات  ؟

يقول مونتاني michel montaigne: “الفكر الجيّد أفضل من الفكر الممتلئ”

ما أن علق المغرب الدراسة الحضورية، حتى عوضها بالدراسة عن بعد من خلال إطلاق مجموعة من البرامج والتطبيقات جاءت مواكبة للأزمة التي يمر منها التعليم المغربي في الآونة الأخيرة.

لاشك وأن المتتبع للحقل التربوي سيلاحظ عددا من الإصلاحات التربوية همت البرامج الدراسية والطرائق البيداغوجية، حيث تم الانتقال تدريجيا من التلقين بمفهومه التقليدي (ملء الوعاء) إلى المقاربة بالكفايات (قدح الشرارة)، هذا الأمر سيثير العديد من الأسئلة أبرزها: إلى أي حد استطاعت المقاربة بالكفايات رفع جودة التعليم؟ لكننا لسنا بصدد الجواب عن هذا السؤال الذي أفقد التربويين تركيزهم ولسان حالهم يقول: أنمسكه على هون أم ندسه في التراب. لكننا بطبيعة الحال سنجانب جواب هذا السؤال وسنلمسه لمسا خفيفا ونحن نجيب عن السؤال الذي حملنا على رفع القلم وكتابة هذا المقال وهو: هل استطاع التعليم عن بعد أن يحقق ما جاءت به التشريعات والرؤى المستقبلية للتعليم من خلال مراهنتها على المقاربة بالكفايات؟ هل يحقق التعليم عن بعد إكساب المعارف والمهارات والخبرات التي تؤهل المتعلمين لولوج سوق الشغل؟

التعليم عن بعد في المغرب جاء كرد فعل على الأزمة التي تمر منها المملكة، فبعد تفشي كوفيد- 19 صار لزاما على الدولة أن تتخذ قرار توقيف الدراسة الحضورية وتعويضها بالدراسة عن بعد، فالتجربة الجديدة التي يخوضها التعليم المغربي في هذه الفترة يمكن القول إنها تجربة استطاعت أن تخرج الجميع من الداخل إلى الخارج. كيف؟ بعدما كان المدرس والمتعلم يلتقيان في حجرة دراسية، يتم الالتزام داخلها بميثاق تربوي تحكمه قيم نصت عليها الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، أي كانت الدراسة الحضورية من الخارج إلى الداخل.[1]

التعليم عن بعد يخدم ما جاءت به المقاربة بالكفايات وعلى رأسها الكفاية التكنولوجية، فقد مكن المتعلم من التعرف على مجموعة من البرامج والتطبيقات المعلوماتية مثل بوابة (مايكروسفت تايمز) (الواتساب)، وهذا الأمر في حد ذاته حفز للانفتاح على التكنولوجيا بمختلف أنواعها. لكن الأمر الذي استدعى كتابة هذا المقال هو الإجابة عن السؤال: هل يمكن تحقيق الكفايات العرضانية من خلال التعليم عن بعد؟

إن الكفاية لا تكتسب عن طريق التلقي بل تبنى عبر المجهود الذي يقوم به المتعلم لأجل اكتساب كفايته بنفسه، ثم إن البناء التفاعلي للكفايات لا يمكن أن يتم بدون تبين نموذج تناوبي بين فضاء المدرسة الذي هو فضاء تعلم المعارف والمهارات وفضاء الحياة والمحيط الذي هو فضاء الفعل والتجريب والبحث.[2] وهذا يستدعي تفعيل الطرائق البيداغوجية والوسائل الديداكتيكية التي بدونها يستحيل استمرار العملية التعليمية التعلمية.

فالمعرفة قوة كما عبر عن ذلك أينشتاين، لكن كيف يمكن أن يكتسب الطفل والمراهق هذه القوة وهو لم يتعلم كيف يكتسب المعرفة. ثم قبل أن يتعلم معرفة جديدة لابد أن العائق الابستمولوجي الذي تحدث عنه باشلار يقف حائلا بين المتعلم والمعرفة الجديدة. لأن العائق الابستمولوجي، بهذا الشكل، ليس نقصا في المعرفة، ولكنه يؤشر لتمثلات خاطئة. إنه يمثل المعرفة العامية والقناعات السابقة.[3] فالمتعلم مجبر على التعامل مع وضعيات جديدة من خلال ما يعرفه سابقا، لذلك فالمدرس مطالب بتوفير محيط تعلمي غني ومثير. وبعد هذا كله سيواجه المتعلم صراعا معرفيا وهذا يتطلب موجها ومرشدا ويتأسس هذا الصراع على النظرية التكوينية لجان بياجي[4]، ثم ما يلبث هذا الصراع المعرفي حتى ينتقل إلى صراع سوسيو معرفي فالمتعلم ملزم بالتفاعل مع أقرانه في جماعات. هذا التفاعل ينتج عنه “حسب ديبوا وداكو” مواجهة بين تمثلات عدة أشخاص في وضعية تفاعل حول معين.[5] أي أن المتعلم يمر من ثلاث مراحل حسب بياجي، المتعلم يكون في حالة توازن حتى تقع له خلخلة في المعارف (وضعية مشكلة) فيفقد على إثرها توازنه ثم يستعيد توازنه مجددا وهذا التوازن لا يحصل إلا بتدخل الموجه أو المرشد الذي يتابعه عن قرب. كل ما قلناه لا ينفي الدور الهادف للتعليم عن بعد إذا استطاع المدرس أن يدرِّس داخل القسم بطريقة ناجعة واستطاع أن يجعل متعلميه يتتبعون طريقة منهجية تكسبهم الكفايات والقدرات التي يراهن عليها المنهاج، وبعد أن يعود للتعليم عن بعد سيجد متعلميه قد استحضروا تلك الطريقة التي تعينهم على تتبع الدروس بطريقة تتماشى مع المقاربة بالكفايات.

إذا ما يجب التنبيه إليه هو أن التعليم عن بعد يستطيع أن يعوض التعليم الحضوري إذا كانت الطرق والأساليب المتبعة في التدريس الحضوري تراعي التعليم عن بعد، ويمكن في المستقبل أن نجد بيداغوجيات جديدة في التعليم عن بعد يمكنها من إكساب المتعلمين خبرات ومؤهلات ومهارات تؤهلهم لولوج سوق الشغل.

التعليم عن بعد يراهن على المعرفة، همه الوحيد والأوحد هو المعرفة، ولا يمكن أن نتحدث عن الكفايات في التعليم عن بعد إلا الكفاية التكنولوجية والتي تحتاج طبعا هي الأخرى إلى موجه ومساعد، فالتعليم عن بعد يعتمد المضامين ركيزة أساسية في العملية التعليمية التعلمية. هذا النوع من التعليم سينتج لنا متعلمين متشابهين يختلفون فقط في مدى استيعابهم للكم المعرفي، وبذلك نعود إلى التعليم بالمضامين الذي كان سائدا ونعتمد فيه على المنظومات والمحفوظات مدخلا أساسا للتعليم شعاره: (ملء الوعاء).

يبدو أن الأمر صار واضحا فيما يخص التعليم عن بعد، واعتماده المطلق على المعرفة باعتبارها حجر الزاوية في التعليم عن بعد، فهذا الموضوع يلبس قشيبة العسر لكونه موضوعا لم يأخذ نصيبه الأوفر في المناهج والتشريعات حتى وقت قريب. لذلك ندعو المهتمين بهذا الحقل إيجاد الطرق والسبل الكفيلة بتحقيق جودة التعليم عن بعد.

 


الإحالات 

[1] – خارج القسم أو المدرسة إلى داخلها حيث كانت تتم العملية التعليمية التعلمية داخل وسط تحكمه ضوابط منهجية تعين المدرس على إكساب المتعلمين بالخبرات والمعارف التي تساهم في الحصول على مواطن صالح.

[2] – انظر المقاربة بالكفايات في مجال التدريس، إعداد الدكتور لحسن مادي، جريدة تربويات.

[3] – الجامع في ديدكتيك اللغة العربية، عبد الرحمان التومي. طبعة 2/ 2016 ص 22

[4] – نفسه ص 22

[5] – نفسه ص 23

البحث في Google:





عن محمد رضا الجراري

أستاذ التعليم الثانوي - طالب باحث - المملكة المغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *