التعليم العالي في الوطن العربي

التعليم العالي في العالم العربي واستراتيجيات المواجهة

يواجه التعليم العالي في العالم العربي الكثير من التحديات والصعوبات، كما تشهد مسيرة التعليم العالي في السنوات الأخيرة تباينا واضحاً في مستوى الجامعات، حيث نرى تراجعاً في مستوى كثير منها، بينما شهد البعض الآخر تقدما سريعاً، مثل مصر والأردن والإمارات والسعودية والمغرب والجزائر، حيث تحتل بعض من جامعات تلك الدول مراتب متقدمة في التصنيف العالمي، بالرغم من كثرة التحديات التي تواجهها، والتي تتطلب استراتيجيات مناسبة لحلها.

التحديات التي تواجه التعليم العالي في العالم العربي

لعل أبرز التحديات التي تواجه التعليم العالي في العالم العربي تحدي العولمة التربوية، التي تحاول أن تدفع به بعيداً عن أداء دوره التربوي والثقافي، وتحول دون تحقيق رسالته، بل وتزداد التحديات في ظل المحاولات الغربية للنيل من الهوية العربية، حيث تذهب إلى تذويب الخصوصيات الثقافية، وحتى التربوية؛ وصولاً لتحدي التربية والتعليم.

إن تحسين نوعية وجودة التعليم العالي يحتاج لتكلفة عالية مما يجعله تحدياً إضافياً، خاصة مع التدني الملحوظ لنوعيته وظهور لكثير من الجامعات والكليات التي تمنح شهادات عليا دون أدنى جهد بحثي يذكر، وبالمقابل نجد طلباً متزايداً على القوى العاملة والكوادر المؤهلة، أضف إلى ذلك تحدي التزايد الديمغرافي في كثير من البلاد العربية، حيث أن معظم الطلاب يتجهون للتعليم العالي كمخرج من الحالة المتردية التي يعيشها المجتمع، ومع ذلك نجد ارتفاع معدلات التسرب في معظم الجامعات العربية، ولا سيما بعد السنة الأولى.

ومن التحديات البارزة التي يعاني منها التعليم العالي في العالم العربي نجد البحث العلمي، الذي يتناقص ويضمحل بشكل مستمر، حيث نجد انخفاض الإنتاج العلمي العربي مقارنة بالدول المتقدمة؛ ولعل السبب يعود إلى تقليص تمويل الجامعات، والأموال المخصصة للتعليم، والدعم المعنوي وهجرة الكفاءات.

كما أن الهيمنة الدولية والصراع العربي الإسرائيلي، وظهور نظام عالمي جديد بهيمنة أمريكية، وتزايد الأطماع، ومحاولة القوى العظمى إعادة تشكيل العالم، كلها تحديات لن تنتهي حتى لو وقع العرب والإسرائيليون اتفاق سلام، لأنه صراع حضاري يأخذ شكلاً سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافياً.

نماذج من التعليم العالي في العالم العربي

جمهورية مصر العربية

إن لمصر تاريخ طويل في مضمار التعليم العالي، فقد كانت جامعة “أون، عين شمس” إحدى أقدم الجامعات في التاريخ، والتي تأسست من حوالي 5000 سنة، وتخصصت في علوم الفلك والطب والهندسة، ثم مكتبة الإسكندرية، والتي يقال أنها شيدت على يد بطليموس الأول وقيل الثاني، وفي روايات أخرى أنها تأسست على يد الإسكندر الأكبر، ثم جاءت جامعة الأزهر، المؤسسة الدينية العلمية الإسلامية الأكبر في العالم، وثالث أقدم جامعة في العالم بعد جامعتي الزيتونة والقرويين.

تضم مصر ثلاثة أنواع من الجامعات، الحكومية، ثم الجامعات الأهلية، والجامعات الخاصة، ثم يلي ذلك إنشاء الكليات العليا في عصر محمد علي عام (1805م) والتي كانت نواة للجامعات المصرية بداية بحامعة القاهرة والجامعة الأهلية عام (1908م).

اتبعت مصر استراتيجية تُركز على التطوير في كافة أطراف العملية التعليمية، وتحسين دور الهيئات التدريسية وقدراتهم البحثية، وتطوير أسس وقواعد اختيار المعيدين في الجامعات، كذلك كل ما يتعلق بالجهات الإدارية والعاملين بمؤسسات التعليم العالي، كما اهتمت بالتعليم التقني، واحتياجات سوق العمل، والمستشفيات الجامعية، وتفعيل نظم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في إدارة التعليم والبحث العلمي وتحسين جودتها؛ حيث احتلت الجامعة الأمريكية المرتبة العاشرة عربياً و411 عالمياً، تليها جامعة القاهرة  ضمن تصنيف كيو إس (QS) للعام (2020-2021 م)، ثم جاءت جامعة عين شمس، والتي اعتبرت واحدة من أفضل 400 جامعة في العالم لدراسة التخصصات الطبية، وعدد من التخصصات الإدارية.

المملكة الأردنية الهاشمية

شهدت الأردن إصلاحاً في التعليم العالي حيث استطاعت الحكومة الأردنية خلال العقد الماضي تحقيق إنجازات وطنية واضحة في إصلاح هذا القطاع؛ من خلال سياسات هدفت لتحسين جودته، بالإضافة لإكساب الطلاب المهارات التي تمكنهم من المنافسة بكفاءة على الوظائف المحلية والإقليمية والعالمية، فقد عملت الحكومة خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، على توفير دعم مالي من البنك الدولي، وطُوِرت المناهج في الجامعات والكليات، وبموازنة بلغت 380 مليون دولار أمريكي، ضمن خطة خماسية “تطوير التعليم من أجل اقتصاد المعرفة”، حيث هدف البرنامج لإصلاح السياسات التعليمية، وتحسين جودة ونوعية البرامج المقدمة، كذلك المرافق الخاصة بتكنولوجيا المعلومات.

كما حرصت الحكومة على متابعة التوصيات الخاصة بالتعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والواردة في تقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي عام (2008م)، والذي يقترح إعادة النظر في التشريعات التي تنظم التعليم العالي، بالإضافة لضمان الاستقلال الإداري والأكاديمي والمالي لمؤسسات التعليم العالي، وإعادة النظر في معايير القبول والاعتماد. كما يدعو لتقديم المساعدات المالية للجامعات، والاهتمام بتفعيل صندوق دعم البحث العلمي.

ولما كان الأردن يمر حالياً بزيادة ملموسة في أعداد الشباب، والمغتربين، كما يشهد زيادة ملموسة في الطلب على التعليم العالي وظهور للعديد من الجامعات الاستثمارية الربحية، التي لا تخضع لمعايير الجودة العالمية والتي تمنح لقباً جامعياً يصل لدرجة الدكتوراه في عدد من التخصصات، وعلى الرغم من ذلك التدهور فقد احتلت الجامعة الأردنية المرتبة 601 عالمياً ضمن تصنيف كيو إس (QS) للعام 2020-2021.

دول مجلس التعاون الخليجي

أشار تقرير مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية الصادر عام 2019 أن عدد الجامعات العربية ارتفع وخاصة في مجلس دول التعاون الخليجي (السعودية، الإمارات، البحرين، الكويت، سلطنة عُمان، قطر) خلال فترة (2001-2018) من 37 إلى261 جامعة، مع تسارع ملحوظ في معدل نمو عدد الجامعات في دول المجلس، حيث حازت 18 جامعة منها على ترتيب ضمن تصنيف كيو إس (QS) خلال العام 2020-2021 وذلك لاعتمادها معايير عالمية في التدريس؛ علماً بأن جامعة الملك عبدالعزيز حصلت على المرتبة الأولى عربياً و 143 عالمياً، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن الثانية عربياً؛ وجامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا الثالثة عربياً، وجامعة قطر الخامسة عربياً، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، السادسة عربياً و284 عالمياً؛ تلتها جامعة الملك سعود في المرتبة السابعة عربياً و287 عالمياً، وأما الثامنة فكانت الأمريكية في الشارقة، ثم التاسعة جامعة السلطان قابوس، وبمرتبة 475 عالمياً ضمن تصنيف كيو إس (QS) للعام 2020-2021.

كما شهدت تلك الدول زيادة ملحوظة في الجامعات الخاصة والاستثمارية، وارتبط كثير منها بجامعات أجنبية، ومناهج أجنبية معتمدة، واهتمام بالتكنولوجيا المستخدمة، كما زاد عدد الطلبة الملتحقين بالمدارس والجامعات الخليجية وتتصدر دولة الإمارات باقي الدول من حيث معدل الإنفاق على التعليم.

استراتيجيات المواجهة

لعل مواجهة التحدي السكاني والزيادة الملحوظة في عدد الدارسين تحتاج بشكل خاص لدعم مالي حكومي، مع الاهتمام الخاص برعاية التجارب الإبداعية الجديدة والمميزة، في مجالات التغيير والتطوير والتنمية الإدارية بالوحدات المختلفة للنظام التربوي، مع الاهتمام بنشرها وتعميمها على مستوى الدولة، مع العمل على تحقيق التوازن في الموارد البشرية، من حيث الكمية والنوعية، وبين احتياجات ومتطلبات النظام، وذلك بدعم استراتيجيات وخطط القوى العاملة في النظام التربوي، بمنهجية علمية وعلى أسس تربوية، مع التركيز على إعادة هيكلة العاملين، بوضع “الرجل المناسب في المكان المناسب” وفقاً لخبراته وشهاداته العلمية ونتاجه العلمي، وما يحمله من مؤهلات لذلك المنصب الإداري أو التربوي؛ لا وفق دين أو انتماء حزبي أو درجة الولاء للإدارة أو لأصحاب النفوذ، وأن لا تلعب العلاقات الاجتماعية دوراً في تعيين الكوادر. كما لا بد من التعاقد مع هيئات تدريس تتناسب وعدد الملتحقين، وذلك لمكافحة ظاهرة التسرب.

كما يتطلب من الجامعات القيام بتحديث الهياكل التنظيمية للنظام التربوي بوحداتها المختلفة، وذلك للحد من مشكلة العولمة في ضوء المستجدات البيئية المعاصرة، وبما يتناسب مع تطور النظام التربوي والزيادة الحاصلة في عدد الدارسين، والجودة في اختيار المدرسين والكوادر التعليمية المؤهلة والخبيرة.

ولا بد من العمل على تحديث أدلة الإجراءات في الشؤون الإدارية والمالية، وإدخال التكنولوجيا الحديثة والاهتمام بتعليم وتدريب الإداريين على استخدام اتجاهات إدارية معاصرة مثل إدارة التغيير والإدارة الإلكترونية، وإدارة الجودة الشاملة.

ومن استراتيجيات المواجهة التي قامت بها مصر لتحسين جودة التعليم العالي أنها عكفت على تأسيس “الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد” عام 2001  والتي كانت وظيفتها الترويج لأهمية ضمان الجودة في التعليم العالي، والتشجيع على تحسين المعايير الأكاديمية، بالإضافة لتسهيل تطوير المعايير المرجعية الوطنية وتطبيقها، مع الأخذ بعين الاعتبار المعايير الدولية، ودعم المؤسسات العامة والخاصة، خلال تطوير أنظمتها الداخلية المتعلقة بضمان الجودة. كما عملت الحكومة، وبدعم من البنك الدولي على وضع برنامج ” الارتقاء بالتعليم العالي”، والذي هدف لتحسين الكفاءة، وإصلاح الحوكمة والإدارة في التعليم العالي، والعمل بجدية وبخطى مدروسة على تحسين جودة التعليم الجامعي، خاصة تلك المتعلقة باحتياجات سوق العمل، إضافة الى العمل على تحسين جودة التعليم التقني المتوسط، والجدوى من وجوده في سوق العمل.

أضف إلى ذلك ضرورة أن تعمل الدولة على تحسين وتطوير البحث العلمي، باعتباره راية التقدم والتنافسية العالمية، بحيث تتلاءم الخطة التطويرية في البحث العلمي مع الأهداف الموضوعة للدولة وللمؤسسات التعليمية، والتي تتماشى بدورها مع الخطة التنموية العامة للبلاد.

ولا بد من مشاركة كافة الهيئات الحكومية وغير الحكومية في دعم قطاع البحث العلمي، سواء في تمويله أو حوكمته، أو بدعمه مادياً، أو بتوفير المعامل والمختبرات، كل بحسب إمكانياتها واختصاصها، باعتبارها مستفيدة من نتائج البحوث، إضافة إلى كافة الوزارات؛ كالصناعة والتجارة والمواصلات والاتصالات والمالية والاقتصاد وحتى السياحية والدفاع؛ وكذلك كافة هيئات المجتمع المدني.

ولا بد من الإشارة إلى الهيمنة الدولية والصراع العربي الإسرائيلي، وهو التحدي الأكبر الذي يتطلب تظافر الجهود العربية، لبناء قوتنا ووجودنا على الساحة العالمية، فمدخلنا الأساسي هو تربية بجودة عالية، وتعليم مميز، لإعداد مواطن أكثر وعياً وتنوراً وقدرة على تحدي المستجدات الراهنة والمستقبلية، ومواجهة كافة االصعوبات.

 


المراجع:

حجي، أحمد، وشهاب، لبنى (2011) التعليم العالي والجامعي المقارن حول العالم، عالم الكتب، القاهرة، مصر..

دياني، مراد (2017) الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، لبنان.

العيسى، ايناس (2020) إدارة الإدارة: إدارة التغيير وإدارة الجودة الشاملة والإدارة الإلكترونية، دار الشروق، عمان، الأردن.

لفته، جواد (2013) الإدارة الاستراتيجية لمنظومة التعليم العالي، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.

البحث في Google:





عن د. إيناس عبّاد العيسى

بكالوريوس في الكيمياء والرياضيات والفيزياء، دبلوم عال في أساليب تدريس الرياضيات والعلوم. ماجستير في الإدارة من جامعة ليڤريول- بريطانيا، دبلوم عال في الإرشاد التربوي من الجامعة العبرية. ماجستير ثان في التربية من جامعة بيرزيت. دكتوراه في فلسفة التربية وقيادة المؤسسات التربوية. تعمل محاضرة في عدد من الجامعات والكليات والمؤسسات التربوية منها جامعة القدس المفتوحة، كلية المقاصد الجامعية، جامعة النجاح الوطنية، جامعة القدس، مركز إرشاد المعلمين، مركز إبداع المعلم وغيرها .. ناشطة مجتمعية، عضو مجلس أمناء وعضو هيئة إدارية في عدد من المؤسسات المحلية والدولية، سفيرة للعمل التطوعي في المنظمة الدولية للعمل التطوعي. لها عدد من المؤلفات في التربية وعلم الاجتماع والإدارة والقيادة. بالاضافة إلى عشرات الأبحاث والمقالات المنشورة بالعربية والإنجليزية ومنها مترجمة للفرنسية والعبرية في عدد من المجلات المحلية والعالمية. القدس. فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *