التفكير الناقد

التَّفكير النَّاقد، مفكرون، مناهج ونظريات

مقدمة:

يتناول هذا المقال المراحل التاريخية التي تعكس علامات بارزة ومُمَيزة في تَطور موضوع التَّفكير الناَّقد، وذلك من خلال الإشارة الى الإنْتاج الفلسفي والتَّطور الفكري المُمنهج في المراحل التاريخية المختلفة لأهمِّ الفلاسفة  الذين أسهموا في التَّطور العلمي والتقني منذ العصر اليوناني\الإغريقي، العصر الإسلامي، عصرالنهضة والتنوير.

1- إسهامات الإغريق في موضوع التّفكير النَّاقد

يُعتبر مَوضوع التفكير النَّاقد وليدًا للعصر الحديث كما أنه يُعتبر موضوعا مثيرا للجدل وتدور حوله نقاشات عديدة. لقد مرَّ تطور التفكير الناقد في مراحل تاريخية أسهمت في انتشاره في القرن العشرين بشكل واضح. فجذوره الفكرية قديمة، فهي تستند  على رؤية سقراط منذ 2500 عام، فقد وضع سقراط الحقيقة، “أنه لا يمكن للمرء أن يعتمدَ على من هم في “السلطة” للحصول على المعرفة السليمة والبصيرة” (باول والدر ،2001). كما أشار إلى أن الأشخاص قد تكون لديهم قوة ومكانة عالية ومع ذلك يكونون مرتبكين وغير عقلانيين. لقد أثبت سقراط  أهمية طرح الأسئلة العميقة لنبحثَ بعمقٍ في التَّفكير قبل أن تٌقبل نتائجهُ كأفكار.  وفي أسلوبه في الاسْتجواب، سلط سقراط الضّوءَ على الحاجةِ في التَّفكير الواضح الذي يتسقُ ويتميزُ  بالمنطق، فأثبت  أهمية البحث عن أدلةٍ  وفحص الاسْتدلال والافتراضات عن كثب، فأشار إلى أهمية تَحليل المفاهيم الأساسية، وتَتبع الآثار ليس فقط لما يُقال ولكن لما تم فعْله أي تتبع مرحلة التَّفكير ومعرفة حيثياتها.

تُعرَف طريقة  سقراط في طرح الأسئلة الآن باسم “التساؤل السُّقراطي” وهي أشهر اسْتراتيجية تدريس للتفكير النَّاقد (كراوت ،2018). وضعَ سُقراط أجندة لتقليد وممارسة التَّفكير النَّاقد كالتشكيك في المُعتقدات والتَّفسيرات الشَّائعة بشكل انْعكاسي، والتَّمييز بعناية بين تلك المُعتقدات المعقولة والمنطقية من تلك التي  تَفتقر إلى الأدلة الكافية أو الأساس العقلاني لتبرير اعتقاد الفرد.

في أعقاب سُقراط  كان أفلاطون تلميذه الذي دوَّنَ أفكارَه وتبِعه في مُمارسة التَّفكير النَّاقد ثمَّ تبعه أرسطو والمُشككون اليونانيون. لقد أكدَّ هؤلاء جميعًا على “أن الأشياء غالبًا ما تكون مُختلفة تمامًا عما تبدو عليه”، لذلك فهناك حاجة  لتدريب العقل من أجل فهم الحقائق بصورة أعمق وليس بصورة ظاهرية. من هذا النَّهج العلمي اليوناني ظَهرت الحاجة  لإعدادِ المُفكر النَّاقد الذي  يَطمح إلى فهم الحقائق الأعمق، والتَّفكير المُمنهج، ويتبِع مراحل التَّفكير والوصول للإجابة واستعمال  التَّفكير الشَّامل، والمنطق الجيد القادر على رد الفعل وفهم ما وراء الظاهر المُضلل للأُمور.

2- إسْهامات علماء المُسلمين في تَطوير نَهج التَّفكير النَّاقد

أسهمَ العلماءُ المُسلمون في وضعِ اللبنات الأولى للتَّطورالعلمي الحديث بينما كانت أوروبا غارقةً في الظلام، الجهل، التَّخلف والخرافات الشَّعبية. لقد شهدت القرون الوسطى في بلاد الإسلام تقدماً مُميزًا في كلِّ العلوم والمجالات، ومهدَ هذا التقَّدم الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضعِ أُسس المَنهج العلمي الذي يَعتمد على التَّجربة، المُشاهدة ،الاسْتنتاج والتفكير الناقد. إليك أهم هؤلاء العلماء:

الخوارزمي

لُقب الخوارزمي (164 هـ 236  \ 781 -847 م) بأستاذ الغرب في الرِّياضيات  وهو أحد‏ ‏أعظم‏ ‏الرِّياضيين‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏العصور. لقد أطلق‏ ‏جورج‏ ‏سارتون (1884م-1956م) ‏في‏ ‏كتابه‏ “‏مقدمة‏ ‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏العلوم”،‏ على  ‏النِّصف‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏الميلادي‏ “عصر الخوارزمي” . يُجمع‏ ‏مؤرخو‏ ‏العلم‏ ‏وعلماء‏ ‏الرِّياضيات‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏على ‏أن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏هو‏ ‏مُؤسس‏ الجبر‏، وهو algebra ‏كعلم‏ ‏مستقل‏ ‏عن‏ ‏الحساب، ‏وهو الذي ‏ ‏أطلْقَ‏ ‏على‏ ‏هذا‏ ‏العِلم  الاسم‏ ‏الذي‏ ‏يُعَرفُ‏ ‏به‏ ‏في‏ ‏جميع‏ ‏اللغات‏ ‏تقريباً‏. ‏ومن‏ ‏المَعروف‏ ‏أن‏ ‏ هذا‏ ‏العلم‏ ‏ أحدثَ‏ ثورةً‏ ‏كبيرة‏ ‏في‏ العلوم ‏كافة‏، فأدى إلى قيام ‏الثورة‏ ‏التكنولوجية‏ ‏في‏ ‏الحاسبات‏ ‏الإلكترونية‏ ‏في‏ ‏العصر‏ ‏الحديث، ‏ويُعرف‏ ‏بالخوارزمية‏ (الرقمية‏).‏ نُقل‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏إلى‏ ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏ثم‏ ‏انتشر‏ ‏ ‏في‏ أنحاء‏ ‏العالم. كما ابْتكر ‏الخوارزمي ‏علم‏ ‏حساب‏ ‏اللوغاريتمات‏، ‏وهو‏ ‏مُصطلح‏ ‏محرف‏ ‏لاسم‏ ‏الخوارزمي، ويقوم على تحويل‏ ‏عمليات‏ ‏الضَّرب‏ ‏إلى ‏جمع،‏ ‏و‏القسمة‏ ‏إلى ‏طرح. وضع‏ ‏الخوارزمي أُسس‏ ‏البحث‏ ‏العلمي‏ ‏التَّجريبي‏ ‏الحديث، ‏وذلك‏ ‏باسْتخدام‏ ‏النَّماذج‏ ‏الرياضية‏.‏ كما ألف كتاب “الجبر‏ ‏والمقابلة“، وهو‏ ‏أعظم‏ ‏كُتبه ‏انتشاراً‏ ‏في‏ ‏الغرب، ‏وقد ‏تأثر‏ ‏بهذا  ‏الكتاب‏ ‏كثيرٌ‏ ‏من‏ ‏المُتعلمين‏ ‏والعلماء، سواء‏ ‏من‏ ‏المُسلمين‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏غيرهم. ‏ويُذكر‏ ‏أن‏ ‏العالم‏ ‏ليوناردو‏ ‏البيزي‏ (الموسوعة العربية ،1996) ‏كان‏ ‏أشد‏ ‏الغربيين ‏تأثراً‏ ‏به، منذ‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏مع‏ ‏أبيه‏ ‏في‏ ‏ما يسمى اليوم بالجزائر، ‏ولما‏ عاد‏ ‏إلى ‏أوروبا ‏نشره‏ على ‏نطاق‏ ‏واسع‏،‏‏ وظل‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏يُدرَّس‏ ‏في‏ ‏الجامعات‏ ‏الأوروبية‏ ‏حتي‏ ‏القرن‏ ‏السَّادس‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي. كما  ألّف‏ الخوارزمي كتاباً‏ ‏في‏ ‏علم‏ ‏الحساب‏ ‏لم‏ ‏يسبقه‏ ‏أحد‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏إليه، ‏وأدخل نظام الأرقام العربية إلى العالم الغربي، وهذا النظام مُتطابق مع النِّظام  المُستخدم في الوقت الحالي.

كذلك  ‏ألف‏ ‏الخوارزمي‏ ‏في‏ ‏الفلك‏ ‏كُتباً ‏عن ‏علم‏ ‏النُّجوم، و‏العمل‏ ‏بالأسطرلاب و‏جدول‏ ‏النجوم‏ ‏وحركاتها، و‏كتاب‏ ‏”الرَّخامة”، ‏لمعرفة‏ ‏الوقت‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الشَّمس ‏وقد ترجمت‏ ‏هذه‏ الكتب ‏إلى ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثَّاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏خصوصا‏ ‏الأجزاء‏ ‏الخاصة‏ ‏بالجيوب‏ ‏والظلال‏ ‏الفلكية، ‏وظلت‏ ‏قروناً‏‏  تُشكل ‏أساسًا‏ ‏لعلم‏ ‏الفلك‏ ‏في‏ ‏أوروبا ‏(محمد ،2003).
إنَّ هذه المؤلفات تَشهد على المنطق، الإبداع والقدرة على التَّفكير المُمنهج النَّاقد (انيس ،2011:باول، 1993 : فاسيون، 1990) الذي تميزَ  به الخوارزمي.

ابن رشد

لُقب  الفيلسوف العربي، الأندلسي  القرطبي ابن رشد ( 520 هـ- 595 هـ) بفيلسوف “الشَّرق والغرب”، لما انتجه من تفكير فلسفي في مؤلفاته، المختصرات ،الشروح الصغرى، الشروخ الوسطى والكتابين، مناهج الأدلة وتهافت التهافت (فكري ،1983).

من خلال دراسة هذا الإنتاج الرُّشدي نستنتج أن هذا الإنتاج الفلسفي مرَّ  في مراحل متعددة: الأولى، مرحلة تأسيس الوعي والإدراك، وتنعكس في  المُختصرات الأولى لبعض كُتب المفكرين السّابقين. الثانية “مرحلة تطور الوعي الفلسفي وتَنعكس في إعادة قراءة وشرح التُّراث الأرسطي وتحتوي على “الشُّروح الصغرى” و” التلخيصات”.  الثالثة هي “الشُّروح الوسطى”، وهي عبارة عن  نقد، إعادة، قراءة وشرح التُّراث الإسلامي. تنعكس هذه المرحلة في المؤلفات الأصيلة في كتاب “فصل المقال”. و والرَّابعة هي مرحلة اكتمال الوعي الفلسفي وبلوغه قمة النُّضج في العلم والفلسفة، وتُعتبر مرحلة الشُّروح الكبرى والمقالات الاسْتدراكية التي تَحمل تأويلات وتفسيرات جديدة لمواقف قديمة انعكاساً لعمليات التفكير النَّاقد، وتنعكس هذه المرحلة في المؤلفَين ” مناهج الأدلة.. وتهافت التَّهافت. وهذه الأعمال لابن رشد أسْهمت في تَطور التَّفكير النَّاقد وسُميت طريقتُه بالطريقة الرُشدية وتعتمد على البرهان والحجة (باول والدر، 2001).

الإمام ابن تيمية

تَميز مَنهج ابن تيمية الحراني  الدمشقي (661هـ – 728هـ / 1263م – 1328م) في إصدار الأحكام النَّقدية الذي  قامت على قاعدة وأسس تشكلت لديه من خلالها معايير وأسس لمُمارسة التفكير الناَّقد للقيام بعملية الإصلاح، وتمثلت تلك القاعدة في اعتماد العلم والعدل في نقد الآخرين والحكم عليهم.

إتصفَ ابن تيمية بالإخلاص والتأني في إصدار الأحكام، بواسطة التَّمييز بين الرأي والحقيقة والاهتمام بالأدلة والبراهين ومحاولة الوصول إلى الحقيقة بطرق صَحيحة، تعريف المُشكلة بوضوح، والموضوعية والبُعد عن العوامل الذاتية، والفصل بين الحكم على الأفكار وبين الحكم على الأشْخاص، والانْفتاح على أفكار الآخرين وتقبل ما كان صائبا موافقا للحق، واهتمامه  بالمصادر، والحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة والإصلاح ومراعاة شروط وآداب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ومراعاة الأولويات. وهذه الصفات تَعكس نموذج الشَّخصية المفكرة النَّاقدة لابن تيمية (فاسيون،2013).

اهتم ابن تيمية بتاريخ الأفكار والمذاهب، وذكر حيثيات نشأتها وتطوراتها وصيرورتها، وقام بالمقارنة بين هذه  المذاهب والفِرَق. امتاز ابن تيمية في عرضه لآراء المذاهب والفرق، بقدرته على تركيب وتفكيك وجهات النظر المختلفة في  الرأي والمنهجية، فقارن بينها وأشار إلى الاختلاف والتَّشابه بين هذه المناهج وخصوصًا التي تَخُص الفلاسفةَ المتكلمين وأهل الحديث أي الحنابلة.

في كتابه” الرد على المنطقيين”، قام  إبن تيمية بنقض المَنطق اليوناني الذي انْفردَ بالقضايا العقلية التي استعملتها التيارات الإسلامية من فقهاء ،متصوفة ومتكلمين ( البزار، 1976).

نستطيع أن نخلص إلى انَّ منهج ابن تيمية يُؤكد إرساء التَّفكير العلمي والتفكير النَّاقد، و يشكلُ  قاعدةً لتطوير نَهج التَّفكير النَّاقد. ويَعكس هذا العمل قدرةَ وتمتع ابن تيمية بمنهجيةٍ علميةٍ غاية في الدِّقة والموضوعيةِ في تعامله وإصداره الأحكام النَّقدية على قضايا وشخصيات عصره الذي تتميز بالمتناقضات والفِتن.

ابن سينا ( 370هـ  27 4 هـ \  980- 1037م)

يَنتمي إبن سينا للمُعتزلة، وهم أصحاب المنهج العلمي والمنهج العقلي في الإسلام، وهذا المنهج “المُعتزلي”  الذي يُؤمن بالسَّببية أي ارتباط النّتائج بالأسباب يعكس  المنهج العلمي. لقد ساعد هذا المذهب في ظهور فلاسفة الاسلام وعلمائِه أمثال إبن سينا والرَّازي والفارابي. ويَعتقد ابن سينا أنّ هناك حقائق يمكن للمرء الوصول إليها باستخدام العقل. من هذه الفكرة، حاول أن يبدأ في بناء طريقة تفكير تَعتمد فقط على ما لديه من أدلة مَنطقية، ويَستبعد كل شيء لا يعتمد على الحجة والبرهان والقياس، وهو الأمر الذي حاول أن يعمل به بعد قرون الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (1596-1650) الذي يُعتبر “أبو الفلسفة الحديثة” (الذهبي ،2011). وبهذا أسهم ابن سينا في تَطور الانْفتاح  العقلي و الحرية الفكرية التي سَبقت عصر النَّهضة في أوروبا.

3- التفكير النَّاقد  في العصور الوسطى \ توماس الأكويني 

تجسد التَّفكير الناقد المُمَنهج في كتابات وتعاليم مفكرين مثل”توماس الأكويني ” (1225 –1274) . زاد الأكويني من الوعي ليس فقط بالقوة الكامنة للتفكير ولكن أيضًا بالحاجة إلى تنمية التفكير بشكل منهجي والقيام  “بالاسْتقصاء”. يعكس نهج الأكويني في التَّفكير أن أولئك الذين يفكرون بشكل ناقد لا يرفضون دائمًا المعتقدات الراسخة إنما يرفضون المُعتقدات التي تفتقر إلى الأسس المعقولة.

4- التفكير النَّاقد في عصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر)

ظهر نهج التَّفكير النَّاقد عند الكثير من العلماء في أوروبا وخصوصا التفكير الناقد في الدين والفن والمجتمع والطبيعة البشرية، القانون والحرية. لقد شرع هؤلاء العلماء في افتراض أن معظم مجالات الحياة البشرية كانت بحاجة إلى تحليل ونقد بحثي. وكان من بين هؤلاء العلماء كوليت وإيراسموس ومور في إنجلترا. أما أهم هولاء فكان فرانسيس بيكون. لقد أدرك بيكون الإنجليزي أنه لا يمكن ترك العقل بأمان لميوله الطبيعية (ديورانت، 1988) في كتابه” تَقدم التعلُّم” The Advancement of Learning.

جادل  بيكون في أهمية دراسة العالم بشكل تَجريبي ووضع الأساس للعلم الحديث مع تركيزه على عمليات جمع المعلومات. لقد أشار  إلى حقيقة “أن معظم الناس، إذا تُركوا على طبيعتهم الخاصة، سيطورون عادات فكرية سيئة”، والتي أطلق عليها اسم “الأصنام”. هذه العادات تقودهم إلى تصديق ما هو خاطئ أو مُضلل. ولفت الانتباه إلى “أصنام القبيلة” المقصود بها الطُّرق التي تميل بها أذهاننا بشكل طبيعي إلى خداع نفسها. و”أصنام السوق” وقصد بها الوقوع في الفخ في النُّظم التقليدية للفكر، أما  “أصنام المدارس” فتعني مشاكل التَّفكير عندما تستند إلى قواعد عمياء وتعليم ضعيف. لذلك يمكن  اعْتبار كتابه “تقدم التَّعلم” أحد أقدم النُّصوص في التفكير الناقد، لأن نهجه و أجندته يتوافقان إلى حد كبير مع الأجندة التقليدية للتفكير الناقد.

ديكارت الفرنسي 1596 -1650م

بعد حوالي خمسين عامًا من فترة بيكون الإنجليزي، كتب ديكارت الفيلسوف والرِّياضي الفرنسي ما يمكن تسميته بالنص الثاني في التفكير الناقد، “قواعد توجيه العقل”. في هذا  الكتاب، دافع ديكارت عن الحاجة إلى نظام منهجي خاص للعقل لتوجيهه في التَّفكير. وهذا النظام يتميز بالوضوح والدِّقة، طريقة التَّفكير تكون على أساس الشَّك المنهجي. وهذا  التفكير يكون مدروسًا من خلال الافتراضات التأسيسية. كما أشار ديكارت  بأن كل جزء من التفكير يجب أن يكون موضع تساؤل وشك واختبار، لذلك يُعتبر ديكارت واحدًا من فلاسفة الحقبة الحديثة البارزين في تطوير نهج التفكير النَّاقد.

توماس مور

في نفس الفترة الزَّمنية  لديكارت، طور توماس مور نموذجًا لنظام اجتماعي جديد، “يوتوبيا “،حيث كان كل مجال من مجالات العالم الحالي عرضةً للنَّقد استنادا لأطروحته التي أشار من خلالها إلى أنَّ الأنظمة الاجتماعية الرَّاسخة بحاجة إلى تحليل ونقد جذريين (ديورانت، 1988). هذا العمل فتح المجال للتفكير النَّاقد لعلماء عصر النَّهضة وما بعد النَّهضة ومهد الطَّريق أمام ظهور العلم وتَطوير الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الفكر (بارنيت،1997).

مكيافيللي

أما في عصر النَّهضة الإيطالية، قام مكيافيللي في كتابه ” الأمير”، بتقييم السِّياسات السَّائدة في ذلك الوقت بشكل نقدي، ووضع الأساس للتفكير السّياسي الذي يَكشف، من ناحية، الأعمال والأجندات الحقيقية للسياسيين، ومن ناحية أخرى، يكشف  العديد من التناقضات في عالم صعب وقاس في سياسةِ عصره. يُقدِّم ميكيافيلي قي كتاب ” الأمير” نظريات في الحكم والإمارة، ويجيب على أسئلة لطالما شغلت بال الحُكَّام والأُمراء، و كان موسوليني يقرأ كتاب الأمير قبل أن ينام، ويشار إلى  إن “نابليون” و”هتلر” اتخذاه مرجعًا لسياساتهم (هانس، 1961).

هوبز  ولوك

ظهر كل من هوبز  ولوك في إنجلترا في القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر، ويُعتبر نهجهما في التَّفكير  النَّاقد مُماثلا وشبيها لنَّهج مكيافيلي. لم يقبل هؤلاء بالصورة التقليدية للأشياء السَّائدة في التفكير اليومي. تبنى هوبز وجهة نظر طبيعية للعالم حيث كل شيء يجب أن يُفسر بالأدلة والمنطق. أما  لوك  فدافع عن تحليل الفطرة السليمة للحياة اليومية والفكر، ووضع الأساس النَّظري للتَّفكير النَّاقد حول حقوق الإنسان الأساسية ومسؤولية الحكومات في الخضوع للنقد العقلاني للمواطنين والمفكرين (خليفة،2005).

أما في القرن السَّابع عشر فكانت هناك مُساهمات مهمة أُخرى في التَّفكير النَّاقد، إذ انتقد بويل (1691-1627) بشدة النَّظرية الكيميائية التي سبقته، وطور نيوتن (1642-1727) بدوره إطارًا فكريًا بعيد المدى ينتقد بشدة وجهة النَّظر العالمية المقبولة تقليديًا. وانتشر واتسع  الفكر النقدي لعقول أُخرى مثل كوبرنيكوس (1473-1727) وجاليليو (1564-1642) وكبلر (1571-1630).

كذلك أسهم  مفكرو عصر التَّنوير الفرنسي: أمثال بايل ومونتسكيو (1689-1755) وفولتير (1694-1778) وديدرو (1713-1784) من خلال فرضيتهم “أن العقل البشري عندما يكون منضبطًا عن طريق التفكير، يكون قادرًا بشكل أفضل على معرفة طبيعة العالم الاجتماعي والسياسي”. أعتقد  هؤلاء المفكرون أنه يجب على العقل أن ينقلب على نفسه من أجل تحديد نقاط الضَّعف والقوة في الفكر أي التَّفكير على التَّفكير “ميتا كوجنيتسيا “، كما أشاروا إلى أهمية  التَّبادل الفكري المُنضبط ، والذي كان يجب فيه إخضاع جميع الآراء للتَّحليل والنَّقد الجاد. وآمنوا أن كل سلطة يجب أن تخضع بطريقة أو بأخرى للتَّدقيق في الاسْتجواب النَّاقد المعقول.

أما  مفكرو القرن الثامن عشر فقد وسعوا مفهوم الفكر النَّاقد إلى أبعد من ذلك (باول ،2008)، وطوروا الإحساس بقوة الفكر النَّاقد وأدواته عند تطبيقه على مشكلة الاقتصاد، وفي هذه الفترة  ظهر  كتاب “ثروة الأمم” لآدم سميث (1723-1790). وتم تطبيقه على المفهوم التقليدي للولاء للملك، كذلك  ظهر كتاب كانط “نقد العقل الصافي” (1787).

5- التفكير النَّاقد في القرن التاسع عشر

امتد التفكير النَّاقد إلى أبعد من ذلك في مجال الحياة الاجتماعية البشرية من قبل كونت وسبنسر. وانْعكس في  تطبيقه على مشاكل الرأسمالية، وظهر النَّقد الاجتماعي والاقتصادي للباحث كارل ماركس (1818-1883)، من خلال  تطبيقه على تاريخ الثقافة البشرية وأساس الحياة البيولوجية، مما أدى إلى ظهور نظرية داروين وأصل الإنسان. كما  ينعكس التفكير الناقد في أعمال سيغموند فرويد (1856-1939) عند تطبيقه على العقل اللاواعي، وفي  تطبيقه على الثقافات، مما أدى إلى إنشاء مجال الدراسات الأنثروبولوجية. وعند تطبيقه على اللغة أدى إلى مجال اللغويات والعديد من الاستقصاءات العميقة لوظائف الرموز واللغة في حياة الإنسان.

خلاصة:

يتضحُ مما تقدم  إسهام الفلاسفة والباحثين في تَطور التَّفكير النَّاقد، نَشره ، تعريف أدواتِه وموارِده التي ساهم المئات من المفكرين في تطويرها. كما  قدم كل موضوع وتخصص رئيسي ببعض المساهمة في توسيع فهم وادراك أهمية التفكير النَّاقد (فاسيون ،2013). على الرغم من المساهمة الجماعية لتاريخ التفكير الناقد فإن الأسئلة الأساسية لسقراط  وما يسمى “بالطريقة السُّقراطية ” تعتبر الأكثر قوة وتأطيرًا واستخدامًأ لتنمية التَّفكير النَّاقد، فإن طرح الأسئلة الذي يركز على أساسيات التَّفكير والاسْتدلال أصبح الآن أساسا للتفكيرالنَّاقد.

 

 


المراجع العربية: 

إبراهيم شهابي، إ. & علوش، ط . “بيكون “. الموسوعة العربية https://ar.wikipedia.org/wiki

البزار، ح. (1976) الأ العلية في مناقب شيخ  الإسلام إبن تيمية ،دار الكتاب الجديد ،بيروت.

الذهبي، (2011) سير اعلام النبلاء، مادة ابن سينا، دار الكتب، بيروت.

الخوالدة، ن. (2014) تحليل المحتوى في المناهج والكتب الدراسية ؛ الدليل والمرشد النظري والعملي والمعايير .زمزم ناشرون وموزعون

الموسوعة العربية العالمية (1996)موسسة أعمال ،المؤسسة للنشر والتوزيع السعودية   https://ar.wikipedia.org/wiki

النجار،ع. (1994) الطب في تاريخ الدولة الإسلامية ،دار المعارف ،مصر.

توما الأكويني. موسوعة الفلسفة- الجزء الأول. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

ديورانت، أ. (1988) قصة الحضارة. ترجمة زكي نجيب محمود دار الجيل، بيروت – لبنان

فكري، أ. (1983) قرطبة في العصر الإسلامي تاريخ وحضارة ،مؤسسة شباب الجامعة.

هاورد، ج. (2004) أطر الفكر \نظرية الذكاءات المتعددة  مكتب التربية العربي لدول الخليج.

خليفة، ف. (2005) المجتمع المدني عند توماس هوبز وجون لوك, مكتبة مدبولي.

 

المراجع الإنجليزية:

Barnett, R. (1997). Higher education: A critical business. Buckingham, UK: Open UniversityPress.Barnett, R. (2004). Learning for an unknown future. Higher Education Research and Development,23(3), 247–260.

Facione. P. A (2013) Critical Thinking: What It Is and Why It Counts.  https://www.researchgate.net/publication/251303244

Hans, B, (1961), “Machiavelli: The Republican Citizen and the Author of ‘the Prince'”, English Historical Review Vol. 76, No. 299 (Apr., 1961), pp. 217–253 in JSTOR

Kraut, R (2018), “Socrates”، www.britannica.com.

Paul, R., & Elder, L. (2001). Critical thinking: Tools for taking charge of your learning

 

البحث في Google:





عن عطاف مناع صغير

مرشدة ومحاضرة في قسم التربية في الكلية العربية لإعداد المعلمين في حيفا، منذ سنة 1997 وحتّى الآن ، كما عملت في كليتي غرناطة (كفر كنا ) وكلية سخنين لإعداد المعلمين في السَّنوات ( 2004- 2006 ) بالإضافة لعملها في الكلية في حيفا. طالبة دكتوراه في علم النفس التربوي والتفكير. صدر لها العديد من المقالات في الإدارة التربوية والفلسفة باللغة العربية و اللغة العبرية. صدر لها العديد من الدواوين الشعرية. - فلسطين -

تعليق واحد

  1. موضوع اكثر من رائع يتناول زاوية مهمة من زوايا الفكر النقدي وتطوراته عبر المراحل التاريخية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *