مقدمة:
يعد التوحد من أهم الاضطرابات انتشارًا في العصر الحديث، حيث وصلت في الولايات المتحدة الامريكية إلى حالة لكل ست وثلاثون حالة في الاطفال[1]. وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية في عام 2023 إلى معاناة طفل لكل مئة من أعراض التوحد[2] على مستوى العالم وهو ما يستدعي منا الاهتمام والبحث، ونتناول فيما يلي ما يتعلق بالتوحد من خلال نظرة متعمقة تتناول ما يتعلق به من وجهة نظر متخصصة كما سيتضح فيما يلي.
تعريف التوحد:
يشير معجم الدوحة التاريخي للغة العربية أن كلمة(التوحد) تحمل عدة معان منها (توحد المرء) أي استوحش فلا أنيس له، وتوحد الشيء أي تفرد ولم يتعدد.[3] وبناءً على ذلك فإن التوحد يعني في اللغة العربية العزلة وعدم وجود أنيس كذلك يعني التفرد، وهو ما يشير أن اضطراب التوحد في اللغة العربية يعني الوحدة وعدم الالفة.
ويشير قاموسOXFORD أن التوحد حالة تؤثر على نمو الدماغ قد تكون شديدة أو خفيفة. وقد يجد المصابون بالتوحد صعوبة في التواصل وتكوين العلاقات، وقد يُظهرون أنماطًا متكررة أو محدودة من التفكير والسلوك.[4]
**وقد تم اكتشاف التوحد على يد الطبيب الأمريكي من أصل نمساوي ليو كانر؛ حيث كان يجري دراسة على أطفال من ذوي الإعاقة الذهنية (منخفضي الذكاء) إلا أن لديهم سمات خاصة تتميز بانغلاقهم على أنفسهم وانعدام التواصل مع الآخرين، وقيامهم بسلوكيات نمطية متكررة وغير ذات معنى، وقيامهم بعمل روتين شديد متكرر وليس له داع، وهو ما استدعى الدراسة المتعمقة لحالاتهم وتصنيفهم تصنيف مختلف عن الإعاقة الذهنية. وتعني كلمة Autism باللغة اليونانية (الذات) والانطواء عليها، وهو أهم سمات وخصائص اضطراب طيف التوحد، وقد أطلق كانر على هذا الاضطراب (توحد الطفولة المبكرة)، وقد أدى توسيع معايير التشخيص بتطور البحث العلمي إلى تحديد سمات وخصائص التوحد بشكل كبير.[5]
وقد عرفت جمعية علم النفس الامريكية في عام 2013(الإصدار الخامس للدليل التشخيصي والاحصائي للاضطرابات العقلية) بأنه اضطراب يتطلب تشخيصه قصور مستمر في التواصل والتفاعل الاجتماعي عبر سياقات متعددة، كما يتجلى ذلك في الآتي:
قصور في التبادل الاجتماعي والعاطفي، وفي السلوكيات التواصلية غير اللفظية المستخدمة للتفاعل الاجتماعي، وفي تطوير العلاقات والحفاظ عليها وفهمها.[6]
ويمكننا وفق ما سبق تعريف اضطراب التوحد بأنه ” اضطراب نمائي عصبي يمكن البدء في تشخيصه من سن ستة شهور، ويشخصه المتخصصون بدقة في السنة الثانية حتى الثالثة من عمر الطفل، وتتمثل أهم أعراضه في القصور الشديد في التواصل والتفاعل الاجتماعي، وانعدام العواطف مع وجود سلوكيات نمطية غير ذات معنى”.
ويمكننا تحديد أهم معايير تشخيص التوحد وفق الدليل التشخيصي الاحصائي الخامس لجمعية علم النفس الامريكية:
- العجز في التبادل الاجتماعي والعاطفي للطفل ويتمثل ذلك في:
النهج الاجتماعي غير الطبيعي وفشل المحادثة الطبيعية إرسالًا واستقبالًا إضافة إلى انخفاض في مشاركة الاهتمامات أو المشاعر أو التأثير؛ وكذلك الفشل في المبادرة أو الاستجابة للتفاعلات الاجتماعية.
- العجز في السلوكيات التواصلية اللفظية وغير اللفظية المستخدمة للتفاعل الاجتماعي ومنها على سبيل المثال سوء التكامل بين التواصل اللفظي وغير اللفظي؛ وكذلك الشذوذ في التواصل البصري ولغة الجسد أو العجز في فهم واستخدام الإيماءات فضلا عن الافتقار التام لتعبيرات الوجه والتواصل غير اللفظي.
- العجز في تطوير العلاقات مع الآخرين والحفاظ عليها وفهمها، ومنها على سبيل المثال:
صعوبات في تعديل السلوك ليناسب السياقات الاجتماعية المختلفة إضافة إلى صعوبات في المشاركة في اللعب الخيالي أو تكوين صداقات وكذلك غياب الاهتمام بالأقران.
**ويوضح الشكل التالي مختصر أعراض التوحد:
شكل رقم (1) يوضح أعراض وسمات التوحد
**ونلاحظ من الشكل السابق تعدد أعراض التوحد، ونود الإشارة أن كل حالة تختلف عن الأخرى؛ فالتمايز سمة من سمات حالات التوحد، ويعني ذلك أن كل حالة لها من الخصوصية والسمات التي تميزها عن الأخرى، ويجب التعامل معها طبقًا لخصوصيتها.
مقاييس تشخيص التوحد:
يتم تشخيص طفل التوحد من قبل فريق عمل متكامل ومتعدد التخصصات، يشتمل في معظم الأحيان على طبيب نفسي، وأخصائي أعصاب، وأخصائي أمراض اللغة والتخاطب، وأخصائي علاج وظيفي، وأخصائي تربية خاصة؛ وذلك حتى يتم التشخيص الدقيق من كافة الاتجاهات ووفق التخصصات وبيان نقاط الاحتياج ونقاط القوة للطفل.
**ويعتبر مقياس كارز CARS) ) Childhood Autism Rating Scale من أشهر المقاييس المشتقة من معايير كانر للتوحد، ويصلح لتقدير التوحد تحت سن ثلاث سنوات، ويمتاز مقياس كارز للتوحد بالآتي:
- يعمل على تحديد شدة ودرجة التوحد في الطفل ومدى تأثيرها عليه، من خلال الأسئلة التي تغطي أبعاد المقياس.
- يساعد على التفريق بين الأطفال المصابين بالتوحد والمصابين بإعاقة مرتبطة بالنمو.
- يساعد على التفريق بين الإصابة بالتوحد والإصابة باي اضطراب أو إعاقة أخرى.
ويتم سؤال ولي الأمر أسئلة عن حالة الطفل تغطي أبعاد المقياس، حيث لا يكون لدى الطالب أي أعراض توحد إذا كانت درجاته أقل من 30، بينما قد تكون لديه أعراض توحد (بسيط) إذا كانت درجاته تتراوح بين (30-37) ويكون لدى الطفل أعراض توحد متوسطة وشديدة طبقًا للدرجات من (38-60).
ويؤخذ على مقياس كارز ضعف تمييزه التوحد للطلاب ذوي القدرات العقلية العالية او المنخفضة جدًا.
**كما يعد مقياس جيليام Gilliam Autism Rating Scale (GARS) من أشهر مقاييس التوحد للأعمار من سن 3- 22 سنة. ويتكون مقياس جيليام من ثلاثة مقاييس فرعية يمكن من خلالها تحديد مرحلة التوحد وتشخيصه حيث يتم من خلال كل مقياس طرح عدد من الأسئلة على الأبوين ومراقبة سلوكيات الطفل وإحصاء تكراره للسلوكيات النمطية، حيث يقيس المقياس ثلاثة أنماط رئيسة لأعراض التوحد وهي:
- السلوكيات النمطية.
- مهارات التواصل.
- القدرة على التفاعل مع الآخرين.
** وتجدر الإشارة ان جميع مقاييس التوحد تكون نتيجتها (محتمل الإصابة بالتوحد) أو (ربما لديه توحد) أو (غير محتمل) الإصابة بالتوحد؛ حيث أن تقرير الإصابة التامة بالتوحد تتطلب ملاحظة شاملة ووقت طويل.
**وقد حدد الإصدار الخامس للدليل التشخيصي الاحصائي لجمعية علم النفس الأمريكية تصنيف التوحد لثلاثة مستويات كالتالي:
المستوى الأول يشار إليه بالتوحد الخفيف:
وفيه يكون الطفل قادرًا على التحدث بعبارات كاملة، ولكنه يواجه بعض المشاكل في القدرة على تبادل الحديث بطلاقة مع الآخرين، وصعوبة فهم الإشارات ولغة الجسد؛ لذلك فهو يحتاج إلى رعاية.
المستوى الثاني توحد متوسط:
حيث يواجه طفل التوحد المتوسط صعوبة أكبر في التواصل فيقتصر حديثه على عبارات بسيطة، كما ينخرط في سلوكيات متكررة، ويحتاج إلى رعاية ودعم كبير.
المستوى الثالث توحد شديد:
وهو أشد درجات التوحد وفيه يحتاج الطفل إلى رعاية شاملة، حيث يعاني من صعوبة شديدة في التواصل، وعدم القدرة على التحدث بوضوح، ونادرًا ما يتفاعل مع الآخرين، كما تظهر عليه الأعراض السلوكية بصورة أكثر حدة.
شكل (2) يوضح أنواع التوحد
التقنيات الحديثة في تشخيص التوحد:
تستخدم حاليًا تقنيات متقدمة لاكتشاف وتشخيص اضطراب التوحد تتمثل في الآتي:
- تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لتحليل كهربة الدماغ ونشاطه.
- تقنيات تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي (MRI) للكشف عن تشوهات المخ والوصلات العصبية.
- استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وفق تقارير تخطيط الدماغ والرنين المغناطيسي ومراقبة سلوك الطفل في تحديد وتشخيص الإصابة باضطراب التوحد.
أسباب التوحد:
بداية نشير أن أسباب التوحد أسباب اضطراب التوحد غير معروفة بصورة سليمة وواضحة ومؤكدة حتى الآن، ولم يتوصل العلم لأسباب محددة بشكل قاطع وإنما كلها اجتهادات لم تثبت صحتها، ويمكننا تحديد الأسباب المحتملة للتوحد (وفق اجتهادات العلماء) لجزئين[7]:
-
أسباب وراثية:
نظرًا لن اضطراب التوحد اضطراب عصبي نمائي فتشير الأسباب البيئية إلى وجود عدة جينات قد تسبب اضطراب التوحد كما تعزز الطفرات الجينية السريعة فرصة الإصابة بالتوحد كما تؤثر جينات أخرى في تطور الدماغ.
وقد فسر العديد من العلماء السلوكيات النمطية للتوحد إلى الكهرباء الزائدة في القشرة المخية للطفل، نتيجة بعض الأسباب الوراثية المتعلقة بالدماغ.
-
أسباب بيئية:
تتمثل العوامل البيئية في العدوى الفيروسية وملوثات الهواء أثناء الحمل أو الأدوية والمعادن الثقيلة قد تكون سببًا في حدوث اضطراب طيف التوحد، كما تشير بعض الدراسات إلى أسباب غير مؤكدة علميًا ترتبط باكتساب التوحد نتيجة العزلة والانطواء والبعد عن الآخرين خلف التقنيات الحديثة.
علاج التوحد:
تشير الدراسات العلمية ان اضطراب طيف التوحد يمكن أن يتحسن وتقل أعراضه السابق ذكرها من خلال نوعين:
النوع الأول- العلاج السلوكي التربوي:
ويتمثل في التدخل المبكر، باستخدام برامج تعديل السلوك، وبرامج التدريب المختلفة المنبثقة من تحليل السلوك التطبيقي ومنها[8]:
- برنامج والدن Walden Toddler program:
يعد برنامج Walden Toddler أحد البرنامج الشاملة المقدمة للأطفال الصغار الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد، حيث قام بإصداره الأول كلًا من (McGee, Morrier&Daly,2001) وقد أصبح نموذجا للكثير من البرامج اللاحقة له.
- برنامج تيتش The TEACCH Program:
وهو برنامج تدريبي للوالدين لتدريب الطفل على المهارات الاجتماعية اللازمة له.
- برنامج نظام التواصل بتبادل الصور (PECS) Picture Exchange Communication System:
حيث يتم تدريب الطفل غير الناطق على التواصل من خلال استخدام الصور المعبرة.
وهناك العديد من البرامج التدريبية التي تستخدم بشكل تربوي سلوكي؛ للتخفيف من سلوكيات واعراض التوحد، وتأتي تلك البرامج بنتائج طيبة إذا تمت في السنوات الأولى من عمر الطفل.
النوع الثاني- العلاج الطبي السريري:
تشير الدراسات الطبية الحديثة إلى فعالية بعض الأدوية لتحفيز خلايا الفصل الجبهي للطفل[9]، كما تشير بعض الدراسات لنجاح التجارب في خفض التوحد باستخدام بعض العقاقير المخفضة لنشاط المخ[10].
وتجدر الإشارة أن العلاج الطبي لم تثبت فعاليته بدرجة التعميم؛ نظرًا لاختلاف حالات التوحد عن بعضها البعض، إضافة إلى كون تلك الدراسات في طور التجريب.
الخاتمة:
من خلال العرض السابق لاضطراب التوحد، يتبين لنا أهمية دراسة هذا الاضطراب والتكاتف للتقليل منه كتربويين ومتخصصين وأولياء أمور ومجتمع محلي، بما يخفض من أعداد حالات التوحد، ويساهم في علاجه.
كذلك يجب على أفراد المجتمع حسن التعامل مع حالات التوحد وتقدير أسرهم وهو ما يعطي دفعة قوية لأسر أفراد التوحد لتقبلهم ومساعدتهم وتدريبهم.
المراجع العربية:
- عطيه فايد, جمال. (2020). البرامج المقدمة للأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد (ASD). مجلة تکنولوجيا التعليم والتعلم الرقمى, 1(1), 11-24. doi: 10.21608/jetdl.2020.170157.
المراجع الأجنبية:
- Atakhanov, S., & Yoqubjonova, D. (2025). THE ROLE AND IMPORTANCE OF MODERN COMPUTER TECHNOLOGIES IN THE DIAGNOSIS AND TREATMENT OF AUTISM IN YOUNG CHILDREN. Modern Science and Research, 4(2), 1034-1038.
- Zakrocka, M., Gruszka, M., Polańska, P., & Kubicka, M. (2025). Autism spectrum disorder: definition, global epidemiology, prevalence in Poland and worldwide, and heredity. Journal of Education, Health and Sport, 78, 57619-57619.
المواقع الالكترونية:
- منظمة الصحة العالمية(2023). التوحد، متاح على https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/autism-spectrum-disorders
- معجم الدوحة التاريخي للغة العربية(2025). التوحد. متاح على https://www.dohadictionary.org/dictionary/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%AF
- Autism speaks(2025).Autism statistics and facts, Available at https://www.autismspeaks.org/autism-statistics-asd .
- Oxford dictionary(2025). Autism. Available at https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/autism?q=autism
الهوامش
[1] Autism speaks(2025).Autism statistics and facts, Available at https://www.autismspeaks.org/autism-statistics-asd .
[2] منظمة الصحة العالمية(2023). التوحد، متاح على https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/autism-spectrum-disorders
[3] معجم الدوحة التاريخي للغة العربية(2025). التوحد. متاح على https://www.dohadictionary.org/dictionary/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%AF
[4] Oxford dictionary(2025). Autism. Available at https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/autism?q=autism
[5] Zakrocka, M., Gruszka, M., Polańska, P., & Kubicka, M. (2025). Autism spectrum disorder: definition, global epidemiology, prevalence in Poland and worldwide, and heredity. Journal of Education, Health and Sport, 78, 57619-57619.
[6] Autisn speaks(2025).Autism diagnostic criteria:DSM-5,Avaliable at https://www.autismspeaks.org/autism-diagnostic-criteria-dsm-5
[7] Atakhanov, S., & Yoqubjonova, D. (2025). THE ROLE AND IMPORTANCE OF MODERN COMPUTER TECHNOLOGIES IN THE DIAGNOSIS AND TREATMENT OF AUTISM IN YOUNG CHILDREN. Modern Science and Research, 4(2), 1034-1038.
[8] عطيه فايد, جمال. (2020). البرامج المقدمة للأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد (ASD). مجلة تکنولوجيا التعليم والتعلم الرقمى, 1(1), 11-24. doi: 10.21608/jetdl.2020.170157
[9] Liu, Z., Zhong, S., Ho, R. C., Qian, X., Tang, Y., Tian, H., … & Pascual-Leone, A. (2025). Transcranial Pulsed Current Stimulation and Social Functioning in Children With Autism: A Randomized Clinical Trial. JAMA Network Open, 8(4), e255776-e255776.
[10] Valeeva, E. V., Nikitin, D. O., Nikiforova, L. S., Semina, I. I., & Ahmetov, I. I. (2025). Effects of Pharmacological Treatment on Telomere Length and the Expression of Telomerase/Shelterin-Related Genes in Rat Models of Autism. Journal of Molecular Neuroscience, 75(2), 55.