الرياضيات في سنغافورة

التدريس الغني بالمفاهيم ودوره في تنمية البراعة الرياضية للطلبة

منذ فجر التاريخ ارتبطت الرياضيات بجميع مجالات الحياة التي مر ويمر بها الإنسان، تجارية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو عسكرية، أو علمية. وبهذا؛ ارتبط تقدم الأمم بمدى فهم أبنائها للرياضيات، ولذا تولي المؤسسات التعليمية أهمية عظمى لتعلم وتعليم الرياضيات.

والرياضيات علم قائم على المفاهيم والحقائق والمسلمات، والتعميمات والقوانين، والنظريات، يصعب فهمه بدون إدراك للغته الرياضية؛ القائمة على الرموز التي يحتاجها المتعلم في بناء علاقاته وأفكاره الرياضية، وترجمة الصيغ اللفظية إلى صيغ رياضية، وتفسير الرسوم، والجداول الرياضية، وبناء النماذج، والتمثيلات الرياضية.

وأشار المجلس القومي للبحوث في الولايات المتحدة National Council of  Resarches  [NCR]، أن مفهوم النجاح في الرياضيات يتمثل بمدى قدرة المتعلم على استيعاب المفاهيم الرياضية، وربط المفاهيم السابقة بالمفاهيم الحديثة، وقدرته على الاستفادة منها في الاجراءات المتبعة والصحيحة في حل المهام الرياضية المعطاة، وقدرته على التعرف على الأخطاء الرياضية المتبعة، وتلافيها، وقدرته على التبرير، والتفسير، والشرح، والتوضيح، والاستنتاج، والتقييم، وصولاً لإعطاء الحلول المناسبة، ثم اتخاذ القرار في اختيار الحل الأمثل.

وقد حدد المجلس القومي للبحوث ((NCR أهمية امتلاك الطالب للبراعة الرياضية والتي حدد لها خمسة مكونات مجتمعة معا (NCR, 2001)، وهي: الاستيعاب المفاهيمي (Conceptual Understanding ) وهو الإدراك المتكامل للأفكار الرياضية التي تمكن الطلبة من تعلم أفكار جديدة من خلال ربط المفاهيم السابقة بالمفاهيم الحديثة، ويتضمن كذلك الدقة والسرعة في استخدام الرموز الرياضية في اللغة الرياضية والتي تكسب الطالب المرونة والطلاقة في حل المشكلات الرياضية (الريان،(2019، والطلاقة الإجرائية (Procedural Fluency) وهو القدرة على أداء كل من العمليات والإجراءات الرياضية بمرونة ودقة وإتقان (Mac Greger, 2013)، والكفاءة الاستراتيجية (Strategic Competence) وهي القدرة على صياغة وإعادة تقديم المشكلات رياضيا ووضع استراتيجيات لحلها باستخدام المفاهيم والإجراءات بشكل مناسب (Groves, 2012)، والاستدلال التكييفي (Adaptive Reasoning) وهو القدرة على تفسير وتبرير الحلول لمشكلة رياضية معطاة (Samuelsson, 2010)، والرغبة المنتجة ((Productive Disposition وهي مجموعة معتقدات المتعلمين حول قدرتهم على فهم الرياضيات، وإمكانية تعلمها واستخدامها بالجهد والإصرار، وضرورة الرغبة في المثابرة عند مواجهة مشكلة رياضية ومحاولة حلها (الشمري، 2019).

والشكل الآتي يوضح مكونات البراعة الرياضية:

الشكل1: مكونات البراعة الرياضية

يعتبر الاستيعاب المفاهيمي المكون الأساسي للبراعة الرياضية للمتعلم وذلك لأنه لا يمكن أن تكون لدى المتعلم القدرة على الطلاقة الإجرائية حيث لا يمكن للمتعلم أن يقوم بإجراءات الحل دون أن يكون لديه مخزون كاف من المعرفة المفاهيمية، فالمعرفتين المفاهيمية والإجرائية معرفتين مترابطتين لا يمكن حل المشكلات الرياضية بدونهما معا، كما أن الاستيعاب المفاهيمي يعطي قوة للمتعلم في تكوين استراتيجية للحل من تكوين الفرضيات وتحليلها واختبارها والتنبؤ بالحلول وصولا لاتخاذ القرار المناسب للحل الأمثل، كما تعمل على تنمية قدرات المتعلم في تفسير الخطوات الإجرائية وتبريرها وشرحها، ومن ثم الخروج بالاستنتاجات السليمة والصحيحة، وتعمل هذه المكونات مجتمعة على تغيير اتجاهات المتعلم نحو تعلم الرياضيات وتغيير نظرته نحو نفعية الرياضيات للفرد والمجتمع والإحساس بالقيمة الجمالية للرياضيات.

وقد أورد المعثم والمنوفي ((2014 مجموعة من الممارسات الصفية التي تعمل على تنمية البراعة الرياضية نذكر منها: المهام الرياضية، وتوفير فرص التعلم من خلال المهام التي يقدمها المعلم لطلبته والتي تعمل على تنمية قدراتهم في استخدام الحس والتبرير وتشجعهم على جمع البيانات، واستكشاف المواقف الرياضية، والاستماع، والانتباه للشروح الرياضية، والتخطيط المدروس، وتنمية الدافعية، والتحفيز للطلبة في الانخراط المنتج في دروس الرياضيات، وتشجيع الطلبة على الانخراط في مجتمعات تعلم بدلا من التعلم الفردي، وتشجيع الطلبة على تقييم أدائهم بفعالية ليصبحوا بارعين، وتطوير المواد التعليمية.

ومما يؤسف له، أن الاستراتيجيات التدريسية التي يتبعها معلمو الرياضيات قائمة في كثير من الأحيان على التلقين، والاستذكار وحشو أذهان الطلبة بأكبر قدر من المعارف، والمفاهيم الرياضية، دون الاهتمام بخبراتهم السابقة، ومناقشتها معهم سعيا لتصحيح المفاهيم الخاطئة؛ مما ينعكس سلبا على قدراتهم المعرفية والمهارية والذهنية في حلهم للمشكلات والمواقف الرياضية التي قد تواجههم؛ وهذا ما تسبب في تدني مستوى الكثير منهم في الرياضيات علاوة على تكوين اتجاهات سلبية لديهم نحو هذه المادة والحرص على تعلمها. كما يتشكل لديهم الاحساس بعدم نفعية الرياضيات في الحياة الواقعية، وبالتالي الاحساس بعدم جدوى تعلمها، وهذا ما يفسر عزوف الكثير من الطلبة عن حضور حصص الرياضيات، أو التركيز والانتباه فيها.

ولحرص المؤسسات التعليمية على الارتقاء بمستوى الطلبة في الرياضيات؛ فقد حث التربويون القائمون على إعداد المناهج المدرسية بضرورة إعادة بناء مناهج الرياضيات المدرسية، وتغذيتها بالاستراتيجيات التعليمية الحديثة التي قد يكون لها الأثر الايجابي في تنمية البراعة الرياضية لدى الطلبة، ومن هذه الاستراتيجيات التعليمية الحديثة التي أثبتت فاعليتها في التدريس (اربيع وآخرون، 2020؛ أبو صنعة وأبو لوم، 2020) استراتيجية التعليم الغني بالمفاهيم الرياضية.

وتمثل المفاهيم الرياضية أحد المكونات الأساسية للمعرفة الرياضية؛ لما لها من دور مهم في تعلم الطلبة، وتنمية قدراتهم على حل المشكلات الرياضية، والمواقف الحياتية. ويعتبر التعلم الغني بالمفاهيم إثراء لعمليات التفكير، والإدراك، والتحليل، وتعليم العمليات المفاهيمية، يتبعه تدريس العمليات الإجرائية التي تحقق المفهوم، ولذا فإن إجراءات الحل لا يمكن أن تتم بصورة سليمة وصحيحة، بمنأى عن تعلم المفاهيم (أبو زينة وعبابنة، 2007).

ويرى سريرامان (Sriraman, 2005) أن التعلم الغني بالمفاهيم يسهم في إثراء عمليات التفكير العقلية، والإبداع، من خلال تنمية الطلاقة لدى الطلبة، وتعليمهم كيف يفكرون؛ مما يقود إلى الممارسة التي تمتاز بالدقة، والإتقان.

وتعتبر استراتيجية التعليم القائم على التدريس الغني بالمفاهيم Concept- rich Instruction   إحدى استراتيجيات تعليم المفاهيم؛ وهو تعليم قائم على أساس النظرية البنائية Constructivism Theory، والتي تقوم على تشخيص المفاهيم السابقة لدى الطلبة، وتصحيحها، ومن ثم إعادة صياغتها بمفاهيم جديدة، ومن ثم البناء عليها (Kusmayant, et al., 2018).

حدد بنهور (Ben- Hur) المذكور في (اربيع وآخرون، 2020) خمسة مكونات للتعلم الغني بالمفاهيم؛ هي: الممارسة Practicing حيث يتطلب تعلم المفاهيم الممارسة والتطبيق الكافيين؛ وذلك من خلال تزويد التدريس بقدر كبير من الأمثلة، والأنشطة الغنية بالمفاهيم، والتدرب على تكرارها، وتنوع السياقات Decontextulization  والتي تتمثل بمناقشة أفكار الطلبة أثناء حل التمارين، وتحليل الأخطاء الشائعة لتلافيها مستقبلاً، وإعداد معنى المفهوم Meaning وهي ترجمة المفهوم وتفسيره بالرموز والكلمات؛ مما يعمل على تطوير فهم الطلبة للمفاهيم، وإعادة السياق Recontextulization أي إعادة صياغة المفهوم بعد ربط المعرفة الحديثة بالمعرفة السابقة، والتخلي عن المعرفة السابقة والتي تستند إلى المفاهيم الخاطئة، والتحقق Realization وذلك من خلال تشجيع الطلبة للانتقال إلى خبرات جديدة من خلال المنهج المدرسي، والمشكلات الواقعية بمعنى نقل الطلبة لما فهموه، وتعلموه، من مفاهيم، وتوظيفها في الحياة الواقعية.

 


المراجع العربية

  • أبو زينة، فريد وعبابنة، عبدالله (2007). مناهج تدريس الرياضيات للصفوف الأولى، عمان، دار المسيرة.
  • اربيع، إبراهيم والزعبي، علي والعمري، وصال ((2020. فاعلية تدريس الرياضيات القائم على مكونات التدريس الغني بالمفاهيم في تنمية مهارات التفكير الإبداعي في الكسور العشرية لدى طلبة المرحلة الأساسية، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات التربوية والنفسية، 28(2)، -602 .627
  • الشمري، عفاف ((2019. واقع الممارسات التدريسية لدى معلمات الرياضيات بالمرحلة الابتدائية في ضوء البراعة الرياضية، مجلة تربويات ألرياضيات، 22(6)، 85- 137.
  • صنعة، محمد وأبو لوم، خالد (.(2020 أثر استخدام استراتيجية التعلم التوليدي لتدريس الدوال الرياضية في تنمية المفاهيم الرياضية لدى طلبة كلية التربية في جامعة صنعاء، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات التربوية والنفسية، 28(2)، 763- .785
  • المعثم، خالد والمنوفي، سعيد (2014). تنمية البراعة الرياضية توجع حديد للنجاح في الرياضيات المدرسية، المؤتمر الرابع لتعليم الرياضيات وتعلمها في التعليم العام 21  23/ 9/ 2014، الجمعية السعودية للعلوم الرياضية (جسر).
  • References
  • Ben-hur, M. (2006). Concept- rich Mathematics Instruction: Building a Strong Foundation for reasoning and problem solving, Association for supervision and curriculum Development, Alexandra, Virginia, USA.
  • Groves, S. (2012). Developing Mathematical Proficiency, Journal of Science, Mathematics and Education in Southeast Asia, 35(2), 119- 145.
  • Kusmayanti, I.,Sumantri, S. & Noornia, A. (2018). The Effect of Concept- Rich Instruction on the Ability of Mathematical Study School Students Under reviewed from Math Anxiety, International Journal of Scientific and Research Publications, 8(8), 430- 436.
  • MacGregor, D. (2013). Developing mathematical proficiency, EPS Literacy and Intervention, 1-9. Academy of Math.
  • National Research Council (NRC) (2001). Adding it up: Helping children learn mathematics, Mathematical learning study committee, Center for education, division of behavioral and social sciences and education, Washington, DC: National Academy Press.
  • Sriraman, B. (2005). Are giftedness and creativity synonyms in mathematics?, Journal Secondary Gifted Education, 17(1), 20- 36.

 

البحث في Google:





عن د. عماد عواد بروق

دكتوراه مناهج الرياضيات وأساليب تدريسها- جامعة اليرموك، معلم رياضيات- متقاعد (وزارة التربية والتعليم- المملكة الأردنية الهاشمية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *