التربية مدى الحياة

التربية مدى الحياة ومقومات منظومتها في مجتمع المعرفة

تمهيد

لا غنى عن التربية مدى الحياة في عصر المعرفة والمنافسة الاقتصادية الشرسة، فهي مفهوم يشمل كل مستويات التعليم والتكوين وتتعلق بكل مراحل الحياة وتهم مختلف أشكال التعلم الرسمي وغير الرسمي والتعليم غير النظامي.

إن التربية مدى الحياة تهدف إلى تزويد كل أفراد المجتمع بالأدوات التي تساعدهم على تفتح شخصيتهم وعلى الاندماج الاجتماعي الفعال والمساهمة في مجتمع المعرفة بشكل إيجابي.

إن الحاجة إلى إدماج مبادئ التعلم مدى الحياة في التربية والتعليم وفي السياسة العامة للتنمية، شيء يفرض نفسه أكثر فأكثر، شريطة أن يتم ذلك بكيفية منظمة، بحيث تساهم مبادئ التعلم مدى الحياة في بناء مجتمعات تسودها العدالة والمساواة. ومن أجل هذا قامت اليونيسكو بنشر تقريرين هامين في مجال التربية مدى الحياة، وهما تقرير إدجار فور (E. Faure)[1] (1972)، وتقرير دولور (1996)، وقد بين هذان التقريران المبادئ الأساسية لهذه التربية، كما وضعا استراتيجية المدى المتوسط لهذه التربية، والتي امتدت من 2008 إلى 2013 مبينة الأهداف المحورية لقطاع التربية والتي من بينها: ” تحقيق تربية متسمة بالجودة للجميع والتعلم مدى الحياة “. كما أن عقد الأمم المتحدة للتربية من أجل التنمية المستدامة قام بالتنسيق مع اليونيسكو للتركيز على أهمية التعلم مدى الحياة واعتباره مفتاح الدخول إلى القرن الحادي والعشرين. ونجد أيضا أن إطار عمل بلم (Le Cadre d’action de Beléme)[2] ركز بدوره على الدور الكبير للتعلم مدى الحياة، وذلك بالنظر إلى المشكلات العامة للتربية وتحديات التنمية. ونظم معهد اليونيسكو للتربية مدى الحياة خلال العشرية الأخيرة بدوره مجموعة كبيرة من الأنشطة التي تتعلق باستراتيجية هذه التربية، كالقيام بالبحوث ودعم قدرات الإنسان وعقد الشراكات وغيرها، إلخ.

ولما كان للتربية مدى الحياة هذه الأهمية المحورية، واستنادا إلى هذا السياق، فإن من الأهمية بمكان تحليل مفهوم التربية مدى الحياة وبعض المفاهيم المرتبطة بها، وبشكل خاص الحاجة إليها في الألفية الثالثة التي تشهد تغيرا سريعا يطال كل شيء، و ذلك من خلال التصميم التالي:

أولا: مفهوم التربية مدى الحياة؛

ثانيا: دواعي التربية مدى الحياة ومرجعيتها الأساس:

  1. خصائص مجتمع المعرفة وحاجاته الأساس
  2. مظاهر ومقومات منظومة التربية مدى الحياة

ثالثا: إعـداد المدرسين وتنميتهم مهنيًّا وفق مفهوم التعلم مدى الحياة.

رابعا: التربية مدى الحياة في المجتمعات النامية.

خلاصة عامة.

 

أولا: مفهوم التربية مدى الحياة

 إن مفهوم أو شعار ” التربية مدى الحياة ” كثيرا ما يستخدم في ارتباط بالتنمية المجتمعية وبمجتمع المعرفة. ومن هنا يتوجب علينا فهم دلالة هذا الشعار الذي تتناقله منظومات التربية والتكوين في مستهل الألفية الثالثة بشكل متواتر.

إن من بين المهام الأساسية لبرامج وأهداف التعلم مدى الحياة: الاستثمار في الموارد البشرية، وزيادة تعلم أفراد الشعب، وتحويل المدارس والمؤسسات التعليمية إلى مؤسسات متعددة الأغراض، بحيث تكون مفتوحة أمام الجميع، وتستثمر خدمات تكنولوجيا الإعلام والاتصال بكيفية جيدة وبصفة مستمرة.

يعرف الاتحاد الأوربي ” التربية مدى الحياة بأنها ” مفهوم يغطي كل أنشطة التعلم التي تتم لأهداف شخصية ووطنية واجتماعية وكذلك لأهداف مهنية “. من خلال هذا التعريف نجد أن لهذه التربية تحديات كبيرة، فأهدافها لا تقتصر على السعي الدائم والمستمر لتفتح شخصية الفرد فقط، وإنما أيضا تنمية وتطوير مجتمعه، خاصة عندما ننظر إلى سعة وشمول الأفراد الذين تشملهم هذه التربية، وتعدد المواقف والوضعيات المهنية التي يمكن أن تصل إليها.

ومن جهة ثانية، ومن منظور آخر، فإننا نستطيع فهم ضرورة وأهمية التربية مدى الحياة، وذلك بالنظر إلى عدم اكتمال تكوين الإنسان، عند دخوله إلى معترك الحياة. ذلك أن بعض الباحثين يعتبرون مفهوم ” الراشد” أسطورة أكثر منها واقعا في سياق نمو ونضج الإنسان. كما نجد ذلك على سبيل المثال لدى جورج لابساد (G. Lapassade ) في كتابه ” أسطورة الراشد ” Mythe de l’adulte”  . وبهذا المعنى فإن فكرة التربية مدى الحياة تنبثق ضرورتها وأهميتها من نقص الإنسان وعدم اكتماله على صعيد النضج المعرفي وعلى صعيد خبرات الحياة.

إن التربية مدى الحياة تغدو في هذا المنظور أفقا لا يتعلق فقط بالأنشطة المهنية التي تقتضي التكوين والتطوير المهني المستمر، وهو المطمح الذي ظهر منذ السبعينيات من القرن الماضي، فهو في الوقت الراهن غدا مفهوما متسعا يتجاوز التكوين المستمر في مجال النمو المهني، ليدل كذلك على السعي إلى توسيع وتعميق ثقافتنا وتكويننا الدراسي باستمرار. كما يتعلق بالحياة الاجتماعية والحياة الثقافية ويمس مختلف أنشطة الحياة الأسرية وأنشطة الوقت الثالث وغيرها، إلخ.

كما ينبغي أن نأخذ مفهوم التربية مدى الحياة في بعده الزمني الطويل في الحياة، دون أن نستثني مرحلة ما بعد الستينيات من العمر، فنجعل التربية تبدأ منذ سن مبكرة ثم تستمر مدى الحياة وتأخذ بعين الاعتبار كل الأنشطة التكوينية النظرية منها والتطبيقية.

إن مختلف هذه الخصائص والسمات السالفة الذكر التي تشكل بنية مفهوم التربية مدى الحياة تسعى في مجملها إلى إطالة زمن وعمر الفعل التربوي حتى يشكل قوة إضافية في يد الفرد والمجموعات البشرية لربح الرهانات المطروحة في عصر العولمة ومجتمع المعرفة.

ثانيا: دواعي التربية مدى الحياة ومرجعيتها الأساس 

إن العمل التربوي يسعى على إعداد المتعلمين لتحقيق أفضل اندماج مع مجتمعهم، مما يستلزم من عملية التربية التطور والتغير الدائم لاكتساب الكفايات والمهارات التي يتطلبها عصرهم. ولما كانت المجتمعات البشرية تشرئب إلى الانخراط الإيجابي في مجتمع المعرفة، فإنه من اللازم معرفة متطلبات هذا المجتمع الجديد للانخراط فيه بفعالية. ومن هنا اتجهت مختلف النظم التربوية الحديثة إلى التركيز على مفهوم التعلم مدى الحيـاة، لإعداد المتعلمين للاندماج في واقع حياتهم الجديد، الذي يعرف العديد من التغيرات التي تتطلب التطوير والتجديد الدائم والمستمر للخبرات والتعلمات المكتسبة.

1.خصائص مجتمع المعرفة وحاجاته الأساس

يعيش العالم في العقود الأخيرة من الزمن تحولات جذرية، على شكل نقلة نوعية في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، مما كان له تأثير واضح على صعيد العديد من مستويات الاقتصاد العالمي، وعلى الثقافة الإنسانية بشكل عام. وإذا كان المقصود بمجتمع المعرفة ما يزال غير واضح بالكيفية المطلوبة، فهو مفهوم ما يزال في طور التشكل والنضج، إلا أنه كثيرا ما يشار إلى أن هذا المجتمع هو ذلك المجتمع الراهن الذي بلغته المجتمعات البشرية التي خطت خطوات هامة في التقدم والازدهار. فهو على وجه التحديد ذلك المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، المجتمع المدني، السياسة، والحياة الخاصة، على نحو يتكثف فيه المدخل المعرفي في الحياة اليومية لأعضاء ومؤسسات هذا المجتمع، وتتفاعل فيه المعرفة وتتقاطع مع التقانة والاقتصاد والمجتمع بشكل تفاعلي. وتتوافر له بيئات تمكينية مساعدة ومحفزة من تشريعات ومؤسسات وانفتاح وحرية وتواصل عبر تقنيات المعلومات والإعلام والاتصال بشكل يعم الكرة الأرضية. وخلاصة القول فإن مجتمع المعرفة يُـفترض فيه أن يُنتج ويتقاسم ويستعمل المعرفة لضمان الرفاهية والتقدم لأفراده كافة. ومجتمع المعرفة مجتمع يقاس فيه تقدم أي مجتمع وتطوره بمقدار توافره على البيئة الحاضنة للمعرفة والمساهمة في إنتاجها وتطوير أسسها إبداعاً وابتكاراً[3].

واستنادا إلى ما سبق، فإن استغلال الطبيعة أحسن استغلال وأجوده، وإدارة رؤوس الأموال وتحريكها وتطوير التقانة من أجل إنتاج السلع والتبادل التجاري، كلها تحتاج إلى العناصر البشرية الماهرة في عالمنا الذي يشهد تطوراً، مما يدعو إلى تطوير قدرات الإنسان بشكل دائم ومستمر من أجل العمل المنتج للفرد والمجتمع ويساهم في إنتاج موارد بشرية قادرة على امتلاك رؤى وتصورات استراتيجية وخلق آليات التنفيذ والتقويم والمتابعة لإنجاح الخطط التنموية.

إن تكوين العنصر البشري المتسلح بالمعارف والخبرات والمتمكن من المبادرة الخلاقة ينبغي أن يتصدر أولويات السياسات والاستراتيجيات التنموية. فالإنسان يشكل أهم العناصر الإنتاجية التي يمكن أن تساهم بفاعلية في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي وصولا إلى التنمية الشاملة[4].

إن طبيعة المجتمعات الجديدة التي وصفها البعض بأنها ” مجتمعات المخاطر“، تجعل التقدم المعرفي والتكنولوجي والأفراد في حالة مواجهة علمية ومعرفية دائمة.

وفي هذا السياق علينا ألا نخلط بين مجتمع الإعلام (société de l’information )، كما تدعو اليونيسكو إلى ذلك، وبين مجتمع المعرفة (société du savoir ). فهذا المفهوم الأخير يتضمن بعدا إنسانيا لا يتوافر في الأول:

إن مجتمع الإعلام يشكل فيه الإعلام سلعة لها قيمة يمكن تغييرها عن طريق البيع والشراء ويمكن تخزينها ونقلها ومعالجتها. وخاصية مجتمع الإعلام هي التكنولوجية. فمجتمع الإعلام هو مجتمع الفجوة الرقمية.

أما مجتمع المعرفة فإنه ينبغي أن يكون مجتمعا إنسانيا يستجيب لطموحات الأفراد ويتيح لهم العدالة والتضامن والديمقراطية والسلم. وينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار تحديات إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية. يهتم مجتمع المعرفة بالمضامين أكثر من اهتمامه بالاتصال، إنه يهتم بالمعرفة أكثر من الاهتمام بتخزينها.

إن أهمية المعرفة تضاعفت من جراء العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية في العقود الأخيرة، لاسيما تقانة المعلومات والاتصال.

ووفقا لمفهوم مجتمع المعرفة، يلعب الاستثمار في التعليم دورا محوريا في تنمية الموارد البشرية وتوسيع فرص الشباب وقدراتهم على المساهمة في هذه النقلة النوعية التاريخية التي أحدثت مجتمع المعرفة بهذا المعنى الواسع للمفهوم. وفي هذا الإطار أصبح العاملون في المعرفة هم الأساس لتنمية الثروة الاقتصادية، ولم تعد الأنشطة الرئيسية المنتجة للثروة تكمن في استخدام المواد الخام أو رأس المال أو العمالة وإنما صارت القيمة المضافة “تنتج من خلال التجديد والإبداع ومن خلال تطبيق المعرفة في العمل. وتتحدد قيمة السلع في المعرفة التي تكمن في المنتج النهائي”.[5]

وإذا كان مجتمع المعرفة حالة من التقدم في سلم الحضارة الإنسانية، فهو ليس مجتمع المعلومات. فالمعلومات سلعة يتم تبادلها وشراؤها وبيعها. والمعلومات حالة وسط بين البيانات والمعرفة. والمعرفة مفاهيم ورؤى وإبداعات في عقل الإنسان قبل أن تجسد في منتجات أو توثق أو تضمر في خبرات الأفراد. ومجتمع المعرفة مجتمع إنساني يفرض القيم الإنسانية على استعمال المعلومات وتداولها من أجل تدعيم قيم العدل والتضامن والسلام من خلال جعل المعلومات والمعرفة متاحة للجميع في خدمة الإنسان ( Austin 2008). كما لا ينحصر مجتمع المعرفة في الاقتصاد فحسب، فالاقتصاد ليس إلا أحد ميادين المعرفة لإنتاج الثروة. إن مجتمع المعرفة حالة تتحقق من خلال مستوى عال من رأس المال البشري المسلح بالمعارف والمهارات التي تجعل أعضاءه قادرين على العمل معاً في فريق، حتى وإن كانوا متواجدين في أماكن متفرقة، وقادرين على الاعتماد على الذات وتسيير الذات وحل المشكلات جماعياً، وقادرين أيضاً على الإبداع والتجديد، ويمتلكون مهارات التواصل والفهم والعمل في بيئات متعددة الثقافات، ولديهم مستوى عالٍ من القدرة على التفسير المنطقي والتحليل والتركيب والتعلم الذاتي المستمر مدى الحياة ( Austin 2008).

  1. مظاهر ومقومات منظومة التربية مدى الحياة

هناك في العصر الحالي ضرورة لإعادة صياغة وتنظيم التعلم في سياق التعلم مدى الحياة، وذلك بشكل يجسد القيم التي تؤكد عليها البشرية وتدعو إليها في الوقت الراهن مثل: قيم حقوق الإنسان، وقيم حقوق المرأة، وحقوق الطفل، ورعاية الموهوبين وذوي الحاجات الخاصة، والتعلم للجميع، إلخ. وهذا ما يدعو نظام التعليم إلى بلورة رؤاه في هذا الاتجاه وتكييف عمله ليصبح أقدر على الموازنة بين تدفق المعرفة والقيم التي على النظام التعليمي ترسيخها، والتي يأتي في مقدمتها تطوير كفاءات الإنسان وتنمية مواهبه والتعامل مع مواقف الحياة بكيفية إيجابية. ومن هنا فإن سياسات التعلم مدى الحياة تشكل مساحة جديدة تقوم على الدمج بين الجوانب الرسمية وغير الرسمية للحياة الاجتماعية والثقافية وحياة العمل.

كما يتوجب على المنظومة التربوية في هذا الإطار أن تترك الباب مفتوحًا أمام المتعلم للاستفادة من كُلِّ الوسائل التربوية، التي تُتاحُ له في أي وقت وفي أي مكان. فالمهم هو إنْماء قدراته على معالجة المشكلات الجديدة والتغلُّب عليها، وقدرته على سرعة الحركة، وعلى الاقتصاد في الجهد المبذول؛ للتغلب على المعدل السريع للتغير، وأنْ يتعلَّم كيف يُمكنه القيام بعمل افتراضات احتمالية تتكرر في المستقبل.

وينبغي في هذا الإطار كذلك أن تغدو العملية التربوية مسؤوليَّة المجتمع كله بكل طاقاته وأجهزته وبكل أفراده، وإلى جانب ذلك فإنَّها تعتبر كُلَّ فرد مُعلمًا ومُتعلمًا في نفس الوقت، مما هو في الواقع جديد على التربية الحديثة.

ولكي تتحقق هذه الأهداف بشكل جيد، فإنَّ الأمر يتطلب رسوخ الباعث الدَّائم المتجدد للدِّراسة لدى أفراد المجتمع، بحيث تتوافر لديهم دوافعُ قويَّة ومُتجددة ومُستمرة، حتَّى يُقبلوا على التعليم مدى الحياة.
ومع التربية المُستمرة يتغير مفهوم النَّجاح والرسوب المدرسي؛ لأنَّ الشخص الذي قد يرسُبُ في فترة مُعينة أو في مرحلة مُعيَّنة من مراحل عُمره – سوف تتاح له فرص أخرى للنَّجاح بقية عمره، ولن يستسلم لليأس، فالهدف الرئيس: هو زيادة الفُرَص التي يختبر الفرد فيها قُدراتِه وإمكانيَّاته، وهي كثيرة ومُتنوعة، وتَمتد معه بامتداد حياته، مما يقتضي منه مواصلته للتعليم مدى الحياة.

إن شؤون التربية في هذا السياق التعليمي الجديد ليست قضية تقتصر على الجهات الرسمية المسؤولة على النظام التربوي والتعليمي بمفرده. إذ تنفتح منظومة التعليم على عدة قطاعات فاعلة وفعالة في المجتمع، حتى تساهم كلها بكفاءاتها ومهاراتها في إغناء التكوين المستمر لأفراد المجتمع، وتحيينه بما تتطلبه حاجاته. إن على مختلف قطاعات المجتمع الحديث أن تتيح أصنافا من التعليم خارج المقاعد المدرسية، لإكساب الفرد كفايات متطورة وقدرات جديدة على التكيف.

إن مفهوم التعلم في القرن الواحد والعشرين إذن أصبح يمتد مدى الحياة كلها، مما يقتضي مراجعة مراحل التعليم وعدم الاحتفاظ بالتقسيمات التقليدية التي درج عليها النظام التعليمي منذ أكثر من قرن من الزمن: تعليم ابتدائي وتعليم ثانوي، إلخ. إننا على أعتاب تعلم يشمل كل مراحل حياة الإنسان من الطفولة إلى نهاية العمر. كما ينبغي لنوع التعليم أن يكون شاملا لمختلف الأنشطة التي تتيح لكل فرد اكتساب المعارف الحية والدينامية التي تتعلق بالإنسان ذاته، وبالآخرين، وبالعالم، بكيفية مرنة ومترابطة. ولعل هذا ما حددته اللجنة التي ترأسها جاك دولور بطلب من المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) لمراجعة النظم التربوية حتى تصبح مهيأة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين والتي أنجزت تقريرها تحت عنوان ” التعلم ذلك الكنز المكنون” في عام 1995 والتي كان عملها هو استشراف مستقبل التربية ودورها في التنمية الشاملة التي تتطلع إليها دول العالم. وقام التقرير برسم التوجهات المستقبلية مبينا الدعائم الأربعة الأساسية التي ينبغي أن تحدو العمل التربوي لحفظ التوازن المنشود في اهتمامات المدرسة وعملها وممارستها اليومية خلال تربية الأطفال وتعليمهم. بحيث ينبغي للتعليم مدى الحياة أن يركز على أربع دعائم: التعلم للمعرفة والتعلم للعمل والتعلم للعيش مع الآخرين، وتعلم المرء ليكون:

  • التعلم للمعرفة: وهو التعلم الذي يجمع بين ثقافة عامة وواسعة بدرجة كافية، وبين إمكانية البحث المعمق في عدد محدود من المواد. وهو ما يعني أيضا تعلم التعلم، للإفادة من الفرص التي تتيحها التربية مدى الحياة.
  • التعلم للعمل: وهو تعلم لا للحصول على تأهيل مهني فحسب، وإنما أيضا لاكتساب كفاءة تؤهل بشكل عام لمواجهة مواقف عديدة وللعمل الجماعي، وكذلك التعلم للعمل في إطار التجارب الاجتماعية المختلفة وتجارب العمل المتاحة للنشء إما بصورة غير رسمية بفضل السياق المحلي أو الوطني، وإما بشكل رسمي بفضل تنمية التعليم المتناوب مع العمل.
  • التعلم للعيش مع الآخرين: ويتم بتنمية فهم الآخر وإدراك أوجه التكافل التي تحقق مشروعات مشتركة والاستعداد لتسوية النزاعات في ظل احترام التعددية والتفاهم والسلام.
  • تعلم المرء ليكون، حتى تستطيع شخصيته أن تتفتح على نحو أفضل، وليكون بوسعه أن يتصرف بطاقة متجددة دوما مع الاستقلالية في الحكم على الأمور والمسؤولية الشخصية. وينبغي لهذه الغاية ألا تغفل التربية أي طاقة من طاقات كل فرد: الذاكرة والاستدلال والحس الجمالي والقدرات البدنية والقدرة على التواصل، إلخ.

ثالثا: إعـداد المدرسين وتنميتهم مهنيًّا وفقً مفهوم التعلم مدى الحياة

إن الاتجاه التربوي الحديث “التربية مدى الحياة” أدى إلى تحولات هامة في مفهوم إعداد وتدريب المدرسين أثناء الخدمة فأصبح أكثر شمولا وعمقا، بحيث تجاوز مجرد التدريب للحصول على بعض المهارات التعليمية وتخطيط الدروس وإعداد المواد التعليمية والتقويم، وذلك من أجل تلبية الحاجات المؤسسية الجديدة ورفع الكفايات لتمتد إلى آفاق أوسع من النمو المهني، حيث تجد الاحتياجات المعرفية والمهارية والوجدانية للمدرسين اهتماما كبيراً في إطار مفهوم المهنة بكل ما يتضمنه ذلك من أبعاد معرفية واجتماعية، إلخ. وإن إعداد المدرسين لا يتوقف عند تخرجهم والتحاقهم بالمهنة، وإنما يتواصل طوال خدمتهم فيها، فهي بذلك طويلة المدى تقوم على فكرة التعلم مدى الحياة، وليست مرتبطة بمدة زمنية معينة من أجل مدهم بكل ما هو جديد في مجال تخصصهم وتأهيلهم لمواجهة ما يُستجد من تطورات تربوية، والربط المستمر بين إعداد المدرس وحاجة المجتمع  والعصر وبذلك فهي عملية مكملة للإعداد قبل الخدمة.

إن من أهم العوامل التي تساعد المدرسة في مسعاها لممارسة مفهوم التعلم مدى الحياة العمل على دمج تقنية المعلومات في أنشطة التدريس والتعلم التي يقوم بها المعلمون والطلاب وتبني أساليب ”تعليم كيفية التعلم”. وتبني مبدأ ”التعليم بوصفه استثمارًا”. كما يقتضي الأمر تبني سياسة جديدة لاستقطاب أفضل الأفراد لمهنة التعليم وإتاحة الفرصة لهم لإتقان مهارات التوصل إلى المعرفة ذات الجودة وذات الصلة بمادة التخصص وبأساليب التدريس، ومهارات استخدامها، وتطويرها بشكل مستمر. وإعـداد المعلمين وتنميتهم مهنيًّا وفقًا لأحدث الاتجاهات التربوية المرتكزة على مفهوم التعلم مدى الحياة، ليتمكنوا من مواكبة المستجدات العلمية والمهنية، والتفاعل الإيجابي مع متغيرات الحياة في مجتمعاتهم وعلى مستوى العالم، بفكر ناقد بناء. ومن هنا تظهر أهمية إحداث مقرر جديد في كليات ومعاهد التربية يُعنى بدراسات المستقبل واستشرافه والنظر في متغيراته، وتدريب الدارسين عمليًّا على مناقشة واستنباط الصور المأمولة في تطوير مسار التعليم، والعمل على التحديث المستمر لبرامج مؤسسات إعداد المعلمين وتنميتهم أثناء العمل، من منظور التعلم مدى الحياة، وقيام وسائل الإعلام ومراكز البحث العلمي بدورها الداعم لترسيخ مفاهيم التعلم مدى الحياة للمعلمين، مع توفير متطلبات أساليب التعلم مدى الحياة من مصادر تعلم  وتثقيف ووسائل نشر وتواصل في المؤسسات التربوية.

رابعا: التربية مدى الحياة في المجتمعات النامية

إن تطبيق التربية مدى الحياة في المجتمعات النامية يحتاج إلى البيئات التمكينية التي من شأنها تعزيز الاستمرار في طلب التربية والتكوين. ولن يتأتى لهدف التربية مدى الحياة أن يجد طريقه إلى التطبيق في هذه الأقطار، وواقع نظام التربية والتكوين يعيش أوضاعه الحالية في تقييد ووضع الشروط القاسية أمام الراغبين في ولوج مؤسسات التعليم على اختلاف مستوياتها لاستكمال معارفهم وتطوير كفاياتهم. الشيء الذي لا يشجع على نشر التعليم بقدر ما يبعد المقبلين عليه.

وحتى تستطيع هذه الدول توطين مفهوم التربية مدى الحياة، فإنه ينبغي، في نظرنا، أن تتحقق فيها لعامة أفراد الشعب الشروط التالية:

  • جعل التعليم والتدريب المستمر للتأهيل للعمل، شعاراً اجتماعياً يتبناه المجتمع بأسره. وأن تتضمن برامجه مواصلة إعادة التأهيل وتجديد وبناء المعارف والقدرات للفرد بشكل يجعله قادرا على التكيف مع متغيرات سوق العمل المهني، وهي تغيرات متسارعة بحكم ثورة المعرفة والتكنولوجيا.
  • بناء سياسات واستراتيجيات داعمة وحافزة لإشراك الدولة والقطاع الخاص على تنمية منظومة التربية مدى الحياة.
  • إعطاء مؤسسات التعليم مساحة أكبر من الحركة والدعم وتمكينها من الموارد المادية الكافية وخاصة الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية…
  • ضرورة تعزيز دور شبكات الاتصال في العملية التعليمية والاستفادة من تقنيات التعليم الالكتروني والتعليم عن بعد، مما يعطي فرصة أكبر للراغبين في التعلم.
  • ضرورة تفعيل دور الجماعات المحلية والمجتمع المدني في فتح ونشر دور الثقافة في مختلف الأحياء لتقريب مواد الثقافة ومصادرها من الساكنة.

الخلاصة

إن التعلم مدى الحياة هو مفتاح الدخول إلى القرن الحادي والعشرين، وهو يتجاوز التمييز التقليدي بين التعليم الأولي والتعليم المستمر، ويلتقي بمفهوم كثيرا ما يزداد الاهتمام به، وهو مفهوم مجتمع التعلم الذي يتيح كل شيء فيه فرصة للتعلم وتنمية المواهب والقدرات. فالتربية مدى الحياة تقوم على أسس تكييف المناهج الدراسية، في مُختلف مراحل التعليم، حتى تستطيع أن تُكوِّن المتعلم التكوين الملائم، وتزوده بالمهارات والقدرات التي تساعده على أنْ يكون مُعلِّمَ نفسه بعد الحياة المدرسية، و تجعله باحثًا عن الثقافة والتعليم بما يتلاءم والعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي يحيا فيها؛ حتَّى لا يغدو متخلِّفًا عن ركب عصره، والعالم حوله ينبض بالتقدُّم الحضاري والرُّقي التِّقني الذي يتميز به عصرُ العولمة ومجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، وهي تُراعي طبيعته، وتتماشى معها في نطاق قُدراتها، وتُحاول أنْ تدفع الفرد إلى تحقيق ذاته وتنمية طاقاته إلى أقصى درجة مُمكنة، ثم إنَّها تربية تهدف إلى نُمُو الفرد بصورة مُستمرة، فهي عمليَّة يتطور فيها الفرد؛ ليكونَ صالحًا للعمل في مجتمعه طوال حياته، وهي تَمتدُّ حيثما يكون نشاط الفرد وميدان عمله، كما أنَّها تشمل مختلف مواقف حياته في العمل وفي الأسرة، وفي المجتمع الخاص والمجتمع العام على السواء، وإلى جانب هذا فإنها تترك الباب مفتوحًا أمام المتعلم للاستفادة من كُلِّ الوسائل التربوية، التي تُتاحُ له في أي وقت وفي أي مكان.

إن المعرفة هي المحور الرئيس في عناصر الإنتاج الكلية في الاقتصاد الحديث، وهي أداة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وبناء الاقتصاد المعاصر الذي يطلق عليه اقتصاد المعرفة. وتؤكد العديد من الدراسات أن البلدان الرائدة في المعرفة والعلوم والتكنولوجيا ظلت تتمتع بمعدل نمو اقتصادي على المدى البعيد أعلى بكثير من البلدان النامية. وفي الفترة ما بين عامي 1986 و1994، كان متوسط ​​معدل النمو في مجموعة البلدان الرائدة في المعرفة والعلوم والتكنولوجيا أكبر بنحو ثلاث مرات من بقية بلدان العالم النامية. ويؤكد التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع أن الدولار الواحد المنفق على التعليم يدُرّ بين 5 و15 دولاراً من خلال نسبة النمو الاقتصادي في الدول النامية. (UNESCO 2012).

لقد أدى اقتصاد المعرفة إلى زيادة الطلب الاقتصادي والاجتماعي على نسبة كبيرة من قوة عمل مزودة بتعليم عالٍ مع قدرتها على مواصلة التعليم المستمر مدى الحياة، ومن ثم تزايد استثمار الدول المتقدمة في التوسع في إتاحة أكبر قدر من الفرص في التعليم العالي.

والخلاصة أن الحضارة العالمية المعاصرة التي نعيشها ترتكز على المعرفة باعتبارها الثروة الحقيقية والمحور الأساس في عملية النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

 

 


المراجع:

[1]  تقرير إدجار فور عبارة عن تقرير أعدته لجنة برئاسته بطلب من اليونيسكو يتناول التفرير قضايا التربية وتحدياتها الراهنة، وهو يحمل عنوان ” تعلم لتكون”( Apprendre à être).(1972).

[2]  (Le Cadre d’action de Beléme) عبارة عن وثيقة إطار تم تبنيها في المؤتمر الدولي لتعليم الكبار في 4 دجنبر 2009.

[3]  أحمد أوزي، تقرير المعرفة العربية 2010/2011 (حالة المغرب)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم، ص. 352.

[4]  أحمد أوزري، المرجع السابق، ص. 353.

[5]  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم، 2014، تقرير المعرفة العربي الثالث، ” الشباب وتوطين المعرفة “.

البحث في Google:





عن أ.د أحمد أوزي

أستاذ علم النفس وعلوم التربية، كلية علوم التربية، جامعة محمد الخامس - الرباط ، مدير وحدة التكوين والبحث في علم النفس النمائي التربوي. باحث مهتم بقضايا الطفولة والمراهقة والشباب. أستاذ زائر بالعديد من الجامعات وخبير لدى المنظمات الدولية التي تعنى بالتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو، الألكسو، الإيسيسكو). مدير ومؤسس مجلة علوم التربية (دورية فصلية متخصصة) ورئيس الجمعية المغربية لدراسات الطفولة. نشر له العديد من المؤلفات العلمية في مجال علم النفس وعلوم التربية.

تعليق واحد

  1. أماني محمد عتيلي

    شكرا لك دكتور على هذا المقال العميق الثري والذي يكشف الحاجة إلى ثورة في نهج تعليم وتأهيل المعلمين اولا وثورة في بناء وتصميم مناهج المتعلم مدى الحياة ثانيا.
    من المجالات الغائبة عن مدارسنا الاهتمام بالجانب الانفعالي والاجتماعي للمتعلم واكسابه المهارات الانفعالية والاجتماعية التي تدعم صحتهم النفسية وتعلمهم الأكاديمي وتعدهم للحياة.
    هل يمكن دكتور الحصول على ايميل حضرتك للتواصل معكم.
    دمتم بخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *