الفجوة الرقمية داخل المدرسة الفلسطينية في ظل أزمة كورونا (الواقع والرهانات)

ألقت جائحة كورونا بظلالها وتأثيراتها السلبية المختلفة على كل مناحي الحياة في كل دول العالم، الأمر الذي استدعى اتخاذ التدابير اللازمة على مختلف المستويات من قبل الدول وعلى مختلف الصُعد، وأياً كانت الميادين المتأثرة بتلك الجائحة فقد كان الميدان المدرسي الأشد تأثراً، حيث أشار البنك الدولي” إلى أن حوالي( 1.5) مليار طالب في أكثر من( 170) بلداً تم إغلاق مدارسهم ضمن الإجراءات الوقائية للحد من خطورة هذا الفايروس “( مدونة البنك الدولي).

وفي (5مارس2020)، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مرسوماً رئاسياً أعلن فيه حالة الطوارئ في جميع الأراضي الفلسطينية لمواجهة فايروس كورونا، حيث تم اغلاق جميع المؤسسات الحكومية، ومنها المدارس والجامعات ورياض الأطفال، وهذا أدى إلى وقف العملية التعليمية في فلسطين من لحظة بدء حالة الطوارئ،  وقد بدأت المؤسسات التعليمية الفلسطينية  بتطبيق خطة التعليم الالكتروني كخيار بديل من أجل استمرار العملية التعليمة.

وشهدت  المحافظات الجنوبية لفلسطين (قطاع غزة) أيضاً إغلاقاً للمؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها حيث أقفلت (751) مدرسة أبوابها في قطاع غزة موزعة من حيث جهة الإشراف إلى مدارس حكومية، ووكالة الغوث الدولية، والمدارس الخاصة، وما نُريد تسليط الضوء عليه بشيء من التفصيل والتشخيص العلمي هو المدارس الحكومية في قطاع غزة والبالغ عددها (414) مدرسة، تضم فيها ما يقارب(277153) طالباً وطالبة(الكتاب الإحصائي للتعليم في فلسطين2019/2020).

وفي هذا الإطار وضمن توجهات المسؤولين عن التعليم تم طرح عدة سيناريوهات للتعامل مع الأزمة كان أهمها اعتماد سيناريو التعليم الهجين الذي يجمع بين التعليم الوجاهي، والتعليم الإلكتروني عبر توظيف أدوات التعليم الافتراضية (Google Classroom،WhatsApp، Telegram).

علاوة على أدوات أخرى يُوظفها المعلمون كلما أمكنت الظروف المتاحة، وخدمتهم الإمكانيات المتوفرة في المدارس.

وقد طُلب من الطلبة وأولياء أمورهم التسجيل للالتحاق بهذه المنصات الإلكترونية لمتابعة دروسهم، وحل واجباتهم، وتقديم الامتحانات، والتعيينات البيتية الواقعة ضمن أنشطة الأعمال الطلابية في التقويم الواقعي، وإرسال الأبحاث والتقارير المكلفين بها، والتواصل مع معلميهم لمتابعة العملية التعليمية بثوبها الجديد التي فرضته جائحة كورونا على المدرسة الفلسطينية.

وبالولوج لعالم التعليم الإلكتروني الافتراضي في مدارسنا الفلسطينية وجدنا أنفسنا حاضرين عبر تلك المنصات التعليمية افتراضياً وغياب الحضور الجسدي، وقد سرعت هذه الأمور بفرض ضروريات جديدة أهمها ما يتعلق بالمعلم، وهو ضرورة امتلاكه جهاز اتصال حديث يدعم تواصله الدائم مع طلابه لرفع محتواه التعليمي وتقديمه لطلابه، وكذلك ضرورة تعلم أبجديات التعليم الإلكتروني وصولاً لامتلاك الكفايات اللازمة لإنجاز مهامه المطلوبة، مثل التعامل مع (تصميم الامتحانات والتعيينات الإلكترونية، ورفع الملفات بمختلف أنواعها، وتوظيف الرحلات الأفتراضية، وتقديم وتصميم الفيديوهات التعليمية، وتصميم الألعاب التربوية الإلكترونية).

ومن الواقع الميداني المُعاش كشفت هذه الجائحة عن عجز وخلل في البنية المهنية لدى العاملين في الميدان المدرسي وبالتحديد لدى فئة ليست بالقليلة من المعلمين المقاومين للتغيير، لعدم إيمانهم بوسائل جديدة للتعليم غير التعليم الوجاهي، وعدم جاهزيتهم للتعليم الجديد والتفاعل مع منهجياته المطروحة، ولكن تحت ضغط الأزمة وطول أمدها وعدم وضوح معالم الخط الزمني لها اضطرت تلك الفئات للتعاطي مع المتغيرات الجديدة بعد تلقيها تدريب في هذا الجانب لرفع كفاياتهم للتعامل مع التعليم الإلكتروني بصورة أكثر كفاءة وجدارة أعلى، والتكيف مع سياقاته.

وبتحليل للواقع نرى أنه تدهورت مختلف القطاعات الحياتية بفعل فايروس كورونا المستجد(كوفيد-19) في فلسطين شأنها شأن دول العالم الأخرى، وتأثر القطاع التعليمي أشد التأثر جراء تبعات الإغلاق للمدارس، مما أدى للتحول للتعليم الإلكتروني الذي كشف عن عدم جاهزية لدى المنظومة التعليمية نتيجة لتواضع الإمكانيات، مما وسع من الفجوة الرقمية بين الطلاب و الأسر الأشد فقراً الأمر الذي كشف عن حرمان لفئة تصل لنصف المجتمع المدرسي من الوصول للتعليم الرقمي، وزاد لديها فاقد التعليم والاستبعاد والتهميش، مما أظهر حالة اللاعدالة في الوصول لاكتساب التعليم عبر ثوبه الجديد، وتجلت صورة اللاعدالة الرقمية بين أطراف العلمية التعليمية سواء الطالب أو المعلم، عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات التعليم الرقمي من توفير للأدوات وتهيئة البيئات الرقمية لذلك.

وبالانتقال من المعلم كأحد العناصر المهمة في مثلث العملية التعليمية، ننتقل لضلعٍ آخر من أضلاع هذا المثلث ألا وهو الطالب باعتباره محور العملية التعليمية كما يُجمع التربويين على هذه المُسلمة التربوية. فقد بينت هذه الجائحة وفي ظل الواقع التعليمي الجديد فجوة رقمية جديدة كان أبرز ملامحها غياب العدالة الرقمية لدى الأسرة الفلسطينية في وصولها للتعليم الافتراضي بسبب عدم توفر الإمكانيات الكفيلة لهؤلاء الطلبة وأولياء أمورهم في الوصول للمنصات التعليمية المعتمدة، الأمر الذي أدى لتوسيع الفجوة الرقمية. ومن واقع العمل الميداني لاحظنا زيادة في الفاقد التعليمي من المنهاج لدى فئة وصلت إلى ما يقارب(50%) من مجموع الطلبة في كل مدرسة، وهنا مكمن الخطورة الكبير في أن هذه الفئة حُرمت من التواصل مع المعلمين عبر تلك الأدوات الإلكترونية التي اعتمدتها المنظومة التعليمية في قطاع غزة، وعدم أداء التكاليف المناطة بهم أسوةً بقرنائهم من المتفاعلين على منصات التعليم الإلكتروني.

وبلغة تحليلية فإننا نجد أن:

1- نسبة الأسر الفلسطينية التي لها خطوط نفاذ للإنترنت في قطاع غزة بلغت( 38%) حسب الجهاز الإحصائي الفلسطيني (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني).

2- نسبة قطع التيار الكهربائي تصل إلى (8) ساعات يومياً بالتناوب بين الفترة الصباحية والمسائية يومياً.

3- جودة خطوط الأنترنت والوصول له تشهد تقطعاً في أغلب الأحيان، وتشويشاً مما يصعب من إتمام المهام بجودة حسب إفادات أولياء الامور الذين نتعامل معهم بشكل يومي.

4- بلغ متوسط أسعار الأجهزة الذكية القادرة على التعامل مع متطلبات التعليم الإلكتروني في قطاع غزة(500) شيكل للأجهزة المحمولة، و(750$) لأجهزة اللاب توب الثابتة، حيث شهدت ارتفاعاً في الأسعار في ظل زيادة الطلب على تلك الأجهزة، وهذا يعني بقاء حالة الحرمان قائمة لدى شريحة كبيرة من الطلبة لعدم قدرة أسرهم لتوفير أجهزة رقمية للتواصل مع التعليم الإلكتروني، وهذا يعني استمرار حالة الفجوة الرقمية قائمة.

5- بلغ عدد ساعات الفاقد التعليمي خلال الفصل الواحد للطالب الذي لم يتلقى أي نوع تعليمي (وجاهي، أو افتراضي)، (750) ساعة تعليمية هي مجموع حضوره لكل أيام الفصل الدراسي البالغ(150) يوم، في(5) ساعات دراسية يومياً.

وعليه فإن المساواة الرقمية بين طلابنا في قطاع غزة لا زالت في حالة هشاشة وتواضع، والوصول الرقمي ليس في حالته المطلوبة، وما زال الإخفاق في سد الفجوة الرقمية ساريا على أرض الواقع، لأن البنية التحتية للوصول الرقمي ليست متكاملة الأضلاع، فإن كان معلم المدرسة جاهزا فإن طرف العملية التعليمية الأهم وهو الطالب غير حاضر في سماء التعليم الإلكتروني.

6- (22%) من المعلمين لم يقوموا بتنفيذ أنشطة تعليمية إلكترونية حسب الإحصائيات(https://www.aman-palestine.org/cached_uploads/ A).

7- التناوب بين أفراد الأسرة على جهاز إلكتروني واحد وصل لحد (6) أفراد في بعض الأسر ملتحقين بالمدارس يتابعون دروسهم على هذا الجهاز.

وثمة مشكلة أكبر نلمسها في ملامح الفجوة الرقمية، وهي ضعف عام لدى الفئات الضعيفة في مهارات التعامل مع الوصول الرقمي مدفوعين بدافع داخلي للمطالبة الدائمة باعتماد التعليم التقليدي الذي يعتبرون أنفسهم أكثر حضوراً فيه، رافضين التعليم الإلكتروني الذي كشف عن تفاقم حالة اللامساواة في التعليم بين الفقراء و الأغنياء.

وبنظرة للمستقبل فإن الرهانات المبنية على معطيات ميدانية لنجاح التعليم الافتراضي، ورقمنة التعليم لابد أن تُبنى على تهيئة سليمة للمدخلات بكل فاعلية وجودة، وعمليات ذات صبغة فاعلة، وصولاً لمخرجات ذات كفاءة تتمثل في غياب تام للفجوة الرقمية وسد لروافدها لتصبح حالة الحرمان من الوصول للعالم الرقمي تساوي صفر.

وإجمالاً:

وعلى الرغم من قتامة المشهد فإن هناك جانب مشرق في ظل جائحة كورونا يدعونا للتفاؤل في الميدان التعليمي والمدرسي يتمثل في استجابة مدارسنا، ومعلمينا، وطلابنا للتعليم الرقمي والتعاطي معه بإيجابية الأمر الذي يتوجب البناء عليه وتطويره من أجل إعداد جيل قادر على التكيف مع العالم الرقمي ومتطلباته التي باتت مطلباً حياتياً ملحاً.

وفي هذا السياق فإن وصولنا لعدالة رقمية حقيقية، وسدا للفجوة الرقمية يتوجب على المنظومة التعليمية الفلسطينية تزويد المعلمين بالأدوات اللازمة للوصول الرقمي عبر تأهيلهم تأهيلاً احترافياً، وتطوير البنية التحتية الرقمية داخل المدرسة الفلسطينية، بما يتلاءم مع متطلبات التعليم الإلكتروني، والتوجه الحقيقي نحو التعليم الإلكتروني ورقمنة التعليم في المدرسة الفلسطينية،  وتعزيز الممارسات التعليمية من قبل كافة أركان المنظومة التعليمية، وحشد الجهود المجتمعية عبر تذكير المؤسسات المجتمعية بمسؤوليتهم الاجتماعية مثل قيــام وزارة الاتصالات بالتعــاون مــع شــركات الاتصالات ومــزودي خدمــات الإنترنت بتقــديم حزمــة تسهيلات لدعم التعليم للفئات الأكثر ضعفاً لتسهيل الوصول للإنترنت، ومجانية ساعات الوصول للمنصات التعليمية المعتمدة.

البحث في Google:





عن د. محمد عوض شبير

دكتوراه الإدارة التربوية، مدير مدرسة بوزارة التربية والتعليم الفلسطينية- غزة، مشرف تربوي غير متفرغ جامعة الأقصى – غزة، باحث مشارك في العديد من المؤتمرات العلمية و الأيام الدراسية والملتقيات العلمية محلياً ودولياً، مدرب استشاري في مجال التنمية المجتمعية، والتعليم، والصحة النفسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *