المدرس

المدرّس بين مطرقة الخطاب الرّسميّ و سندان الممارسات السّائدة

سؤال حول  المسكوت عنه في العلاقات المهنيّة التّربويّة ..

يشكو النّظام التّربويّ العربيّ عموما و  التّونسيّ خصوصا عديد الهنات .. منها ما وقع التّعرّض له في إطار الدّراسات باستفاضة، و منها جانب بقي معتما، هامشيّا، لم يقع التّعرّض له إلّا لماما.. و قد زاد من تعميق هامشيّته المراجعات الّتي عرضت في إطار مسار الإصلاح التّربويّ التّونسيّ – الّذي لم  يطرح بشكل  جدّيّ في إطار البحوث الحافّة بمسار الإصلاح المذكور آنفا. و لذلك فمن المهمّ الإفصاح عن المسارات الذّهنيّة للمدرّسين بشكل أكثر وضوحا ليصبح الضّمنيّ صريحا و يغدو العمل التّربويّ شفّافا، و يخضع لفحص المسارات السّلوكيّة بنوعيها الواعية و اللّاواعية الموازية للعمل التّربويّ..

إنّ العمل على إخراج الضّمنيّ من الأفكار و الخفايا المتعلّقة بمهنة التّدريس و مختلف المهن التربويّة إلى التّصريح و الكشف عنها قد يوضّح الكثير للمشرفين و للمدرّسين على حدّ السّواء، فالتّشخيص الحقيقيّ مرتبط أحيانا بعوامل نفسيّة معقّدة قد تدلّنا على الطّريق الصّحيح، لإصلاح منظومة لا تزال تخضع لمقاييس انطباعيّة في أحيان كثيرة وهو ما يستبعد الحلول الحقيقيّة التّي تـنـبـع من القاعدة إلى القمّة وليس العكس فيما لو استمرّت تخضع لنقس المقاييس الانطباعيّة…

و في هذا الإطار يتحدّد مشروع الفهم المخصوص النّخبويّ الممهنن بامتياز، والذّي نحن بصدده, لعلّه ييسّر لفهم احترافيّ في الطّرح المهنيّ الجامع بين التّحليل الخاضع للحدّ الأدنى من المنهج العلميّ في الطّرح و لمتطلّبات المهنة و مجالات فعاليّتها في آن واحد ..

كذلك الحال بالنّسبة لمن يعمل على محاولة استبدال ما هو سلوكيّ مسقط بما هو عرفانيّ يتعلّق بالبنى العقليّة الدّاخليّة و بما ورائها من ارتباط بالبحوث العلميّة الّتي تطوّرت بالفعل و طوّرت الاهتمام التربويّ بفتحه على علم النّفس الحديث و منجزات اللّسانيّات و اكتشافات علوم الذّكاء و تحليلاتها ..

  • *فماذا نعني بــ”مطرقة ” الخطاب الرّسميّ ؟ و ما هو هذا ” الخطاب الرّسميّ ” ؟
  • **كيف تتحدّد خطّة “المدرّس” في بعدها المهنيّ و  في إطار علاقتها  بأنماط  “الإشراف” السّائدة  ضمنها المؤسّسة؟
  • و كيف تنعكس تلك المشاكل على الممارسات اليوميّة للمهمنة فتضيّع الجهد و تضاعف ” الهدر ” *** فتحيل الجهد التّربوي إلى ألوان  من الخيبات  المتكرّرة؟

“الخطاب الرّسميّ ” هو”  الجسد ” القانونيّ التّرتيبيّ و الجزائيّ، المرتبط بمهنة التّدريس وهو نوعان: الأول صريح: يتمثّل في نصوص قانونيّة و ترتيبيّة  واضحة المعالم , أمّا الثّاني فهو  ضمنيّ يمثّل  قوانين لا بالمعنى الحقوقيّ بل بالمعنى العرفيّ المرتبط أساسا بتجويد العمل التّربويّ –أو تحت هذا العنوان فُرض على المدرّس – . والّذي حان الوقت لحصر بنوده بدقّة بغاية تحديد معالمه الصّالحة لحسن سير العمليّة التّربويّة وإلحاقها -1- بالقانون الصّريح. و الاستغناء عن كلّ ما هو مثقل لكاهل المدرّس و عائقا له دون تحصيل الجودة المرجوّة من مهمّته التّربويّة. -هذا بالإضافة إلى أنّ هذه القوانين لا تضبط كلّ معالم العلاقة بين أطراف العمليّة التّربويّة. و هو ما يجعل الممارسات التي يعتمدها الإشراف البيداغوجيّ  أو الإشراف الإداريّ في علاقته بالمدرّس تتحوّل في أحيان كثيرة إلى أشكال تسلّطيّة من الممارسات: تغدو الخطط فيها في معظم الأوقات مجرّد محامل لمحتويات تكوين تمهينيّ مسقطة في كثير من الأحيان و غير مفيدة للمدرّس المبتدئ أو مكرّرة بالنّسبة للمتمرّس، هذا في إطار علاقة المتفقّد البيداغوجيّ  بالمدرّس، أو لزيارات إرشاد متكرّرة تغدو غير مبرّرة في كثير من الأوقات أو هي مجرّد إخلاء للمسؤوليّات لا غير، هذا في إطار علاقة المرشد البيداغوجيّ بالمدرس، أو لطرق تسيير إداريّ مفروضة غير مبرّرة لا تأخذ في الاعتبار الجمهور المستهدف بالإثراء لافتقارها  للانضباط العلميّ الذّي يأخذ عادة في الاعتبار الحوار العلميّ الهادئ بين هيآت الإشراف و هيآت التّدريس، وهذا يخصّ المديرين  بالأساس. و هو مناط إشكال، وجب التطرّق إليه بأكثر جدّيّة و بأساليب علميّة تقوم على الإقناع بالأساس بغاية تطوير و تثوير العلاقة بين المشرفين و المدرّسين.

إنّ هذه الإشكالات المتعلّقة بنمط السّلوكات المنتشرة في ربوع مدارسنا والكامنة في عقول ارتداديّة ماضويّة لتستتبع ضغطا أو ضغوطات على المدرّس تتّسم بالتّنوّع. يزيدها ضغط المجهود الصفّيّ تعزيزا فيصبح التّعب الّذي يعيشه المدرّس مضاعفا و لا مردوديّة إيجابيّة منه و لا دلالة. فيحصر المدرّس في زاوية “الإستجابة ” البحتة بدلا عن المبادرة الفعّالة في علاقته بسلطة الإشراف إداريّة كانت أو بيداغوجيّة. وهي استجابة مجامِلة ليست أصليّة تتميّز بالزّيف مهما عمل المدرّس على إخفائها وأتقن ذلك الدّور فلن يهرب من أثرها السّلبيّ.

عبارة بسيطة بإمكانها تلخيص ما ذكر سابقا إنّها ” الفوضى العلائقيّة ” بين الفاعلين التّربويّين. ولا يمكننا منطقيّا ولا واقعيّا –مهنيّا- إغفال أثر ذلك الغياب القانونيّ – لنصوص واضحة المعالم – أو لعدم تطبيقها بالشّكل المناسب أو في الوقت المناسب – فيما لو افترضنا وجود نصوص تتعرّض لحالات معيّنة من تلك الإشكالات – ممّا يفتح الباب على مصراعيه لـ”الارتجال” – مهما سيقت من تبريرات لتفسير تعويض ذلك الغياب للضّبط القانونيّ تحت مسمّى زائف وهو ” الاجتهاد “.. وهو من ضمن ما يسهم في إفساد بيئة التّعلّم ويعكّر أجواء الاستيعاب والاستقرار النّفسيّ الوجدانيّ للمتعلّم خاصّة لارتباطه بما ذكر آنفا بين الأطراف المذكورة.

إنّ هذا الصّمت القانونيّ عن حصر جميع مهمّات المدرّس مثلا لهو ممّا يساهم في فتح باب لتعكير أجواء التّعلّم أي “بيئة التّعلّم” و يفسد تبعا لذلك أجواء العمليّة التّعليميّة -التّعلّميّة و يضيع الكثير من الفائدة على المتعلّم، و يشتّت المدرس فيحوّل الجهد الّذي كان الأجدر به التوجّه لتحسين “جودة “أداء العمليّة التّربويّة و التدريسيّة إلى مجهودات جانبيّة لا معنى لها في إطار علاقتها بجودة العمليّة التّربويّة.

*على هذا الأساس يحدث -2-“تكيّف” سلبيّ مع وقائع غير منتظرة، فإذا بغياب الضّبط القانونيّ يؤدّي إلى الارتجال في التّعامل مع غير المنتظر، و هو ما يولّد الفوضى العلائقيّة المذكورة آنفا، ممّا  يرفع  من احتمال بروز مظاهر من المعاملات غير السّويّة بين أطراف العلاقة التّربويّة لا تليق بحرمة المؤسّسة و لا بمكانتها المرموقة..

كلّ هذا من شأنه أن يحوّل العلاقات التّربويّة نفسها إلى أشكال هامشيّة ظرفيّة مؤقّتة من السّلوكات الفرديّة والاجتماعيّة داخل المؤسّسة، جوفاء، فارغة، عبثيّة، بلا معنى، فإذا بالجميع يحسّ بوحدة داخليّة خانقة حتّى ولو كانوا ظاهريّا مجتمعين أفواجا من الزّملاء، لأنّ المحرّك الأساسيّ لتلك العلاقات ليس مصلحة المتعلّم أو تجويد أداء المؤسّسة ككلّ بقدر ما هو اهتمام شخصيّ بمصالح ظرفيّة (تبرز خاصّة عند اختيار جداول الحصص وأيّام الرّاحات الأسبوعيّة.) مع ما قد يقترن بذلك من وهم الاستفادة المزيّفة من الوضع المؤسّسيّ القائم، فيغدو الزّميل “آخر” ويغدو ذلك الآخر “جحيما” على حدّ عبارة “جون بول سارتر “، ذلك أنّ المعيار المحكوم به على هذه العلاقات هو المصلحة الفردانيّة، بما هي نمط أو أنماط سلوكيّة تفسّر بالإستجابة لنزعات من الأنانيّة المفرطة. و بإمكان هذه الممارسات أن تطال النّاشئة المتمدرسة في إطار ” -3- تقمّص” لا واع لسلوكات الفاعلين التّربويّين في بيئة التّعلّم. فإذا بالمربّي ينقل ألوانا غير سويّة من التّعامل مع الآخر قوامها التّنافس السّلبيّ النّاتج عن الحطّ من قيمة الزّمالة ونبذ الآخر. لعلّ ما ذكر يفسّر في جانب منه على الأقلّ  , أسباب انحراف العلاقة بين المتعلّم النّاشئ و المعرفة لأنّها تحكم الأجواء السّائدة نفسيّا , و التّي يلاحظها المتعلّم النّاشئ تصدر من  قبل المربّي لأنّه أحد ركائز المثلّث التّعليميّ – التّعلّميّ.

** على هذا الأساس و بناء عليه لا يمكننا البتّة الحديث عن مدارس “حاضنة” للمتعلّم النّاشئ بل منفّرة، من حيث انتشار هذه السّلوكات العلائقيّة السّلبيّة داخل البيئة المدرسيّة و الفصليّة.

** لكن هل يمكن الإقتصار على الجوانب المعتمة في طرحنا للقضيّة العلائقيّة في مؤسّساتنا التّربويّة؟

إنّ ما طرحناه سابقا لا يعني البتّة غياب نقاط مضيئة في عدد هامّ من مؤسّساتنا التّربويّة، فمدير المؤسّسة له دور مركزيّ في رسم معالم “عقد تربويّ” مشترك تتّفق خلاله أطراف العائلة التّربويّة الموسّعة منذ بداية السّنة الدّراسيّة باعتبار المتعلّمين وأوليائهم- على حلول مشتركة لسيناريوهات منتظرة يجتهد بعض المديرين عادة في بلورتها بغاية محاولة -4-“ضبط ” الأمور وتحقيق مقاربة استباقيّة تعزّز المقاربة التّعاقديّة المذكورة في هذا الإطار منذ بداية السّنة الدّراسيّة. ثمّ إنّ المتابعة المستمرّة لهذا العقد المؤسّساتيّ بين الفاعلين التّربويّين وأولياء الأمور وتعزيزه باستمرار لهو من حلقات قوّة المؤسّسة، وتفعيله يعدّ اجتهادا حقيقيّا و ليس مجرّد تجاوز إرتجاليّ لغياب نصوص قانونيّة في الغرض. كما وهو مظهر من مظاهر عدم الإحتكام للعشوائيّة في تسيير المؤسّسة التربويّة.

و يجدر في هذا السّياق أن نذكر أنّ الأخذ بآراء الهيآت التّشاوريّة للمؤسّسة التّربويّة -5- كالمجلس البيداغوجيّ و مجلس المؤسّسة، يعد أمرا ضروريّا لتجويد أداء المؤسّسة و اعتمادها مقاربة ديمقراطيّة في التّسيير الدّاخليّ و في تيسير العلاقات مع المحيط الخارجيّ للمؤسّسة المذكورة. هذا بالإضافة لضرورة إعلام هيآت الإشراف البيداغوجيّ المختلفة بما تمّ الاتّفاق بشأنه وهو ممّا يعدّ من أساليب الحوكمة الإيجابيّة كما وأنّه من دواعي تكريس ثقافة الدّيمقراطيّة في التّسيير المؤسّساتيّ التّربويّ وتجسيدها عمليّا بما هي سلوك اجتماعيّ إيجابيّ يمكن عبره للمتعلّم أن يمارس جانبا من حقوقه و يعي بها و يمارس جانبا من واجباته أيضا و يعي بها كذلك، وهو ممّا يفيد غاية الإفادة.

إنّ اتّباع تقليد التّشاور والاجتماعات المختلفة بغاية تنظيم قرارات التّسيير الاستراتيجيّة هي تدريب بالملاحظة يهمّ المتعلّم ويفيده كثيرا في “نشر-6- أثر التّعلّم “في البيئة الخارجيّة بشرط أن يكون التّشاورحقيقيّا وليس مجرّد شكليّات تزويقيّة، كما و أنّ ذلك من رهانات المدرسة الحديثة و المعاصرة الأساسيّة.

يظلّ الضّبط القانونيّ للعلاقات التّربويّة حاجة ملحّة وضرورة لا بديل عنها. والاهتمام بذلك في إطار قوانين واضحة هو المرآة العاكسة لاهتمام السّياسات بالمجتمع أو لإهمالها إيّاه. كما وتجدر الإشارة في هذا الصّدد بأنّ الاهتمام بالتّربية هو اهتمام بالمجتمع وبمستقبله..

ولعلّ غياب نصوص قانونيّة واضحة ضابطة للعلاقات بين الفاعلين التّربويّين في إطار المؤسّسة يؤكّد تهميش سياساتـنا التّربويّة العربيّة للشّأن التّريويّ. و سيظلّ التّهميش مستمرّا ما لم يقع وضع هذا الأمر ضمن مسارات الإصلاح الحقيقيّة و تجسيدها.

 


الهوامش

-1-: مثال ذلك : تزيين القسم الّذي لم يرد في القانون الأساسي لأساتذة المدارس الابتدائيّة و الّتي لا زال الإشراف البيداغوجيّ  يطلبه بإلحاح شديد رغم عدم قانويّته , فيغدو غطاء  لممارسة لسلطة على أساس عرفيّ غير مبرّرة بالمعنى التّرتيبي القانونيّ و الّتي حان الوقت لطرحها بجرأة ..)

-2-: بالمعنى الّذي تحدّث عنه جون بياجي.

-3-: كما ورد بكتاب علوم التّربية للدّكتور “أحمد شبشوب.”

-4-: لأنّ الفرق بين التّربية الهامشيّة و مثيلتها المدرسيّة هو درجة الضّبط : على حدّ عبارة الباحث التربوي الأكاديميّ الكبير “حنّا غالب” في كتابه التّربية المتجدّدة.

-5-: المناشير القانونيّة لوزارة التّربية التونسيّة الضّابطة لمهمّات المجلسين المذكورين بالمدارس الابتدائيّة الخاضعة لإشراف وزارة التّربية المباشر.

-6-: أي ممارسة التّدرّب على سلوك سويّ نفسيّا , مفيد اجتماعيّا – أو مواطنيّا – نسبة لقيمة المواطنة – في المدرسة بغاية تطبيقه في البيئة  الاجتماعيّة الخارجيّة للمدرسة  المتعلّقة بالنّظام السّائد – الجمهوريّ خاصّة.

 


ما يرافق أسئلة محاور المقدّمة

** و الّتي عادة ما تـتجاهل المنظومة المؤسّساتيّة ككلّ و تتّجه رأسا صوب ” إخضاع ” شخص المدرّس بدلا عن مراقبة سلوكاته و دراسة أسباب اضطراب الأداء المهنيّ  لديه في حال وجدت، و كشفها فضلا عن  طرحها على سلطة الإشراف تمهيدا لحلّها أو لبلورة خطّة طويلة الأمد على اّلأقلّ لحلّها بشكل متدرّج – اعتماد دراسة الحالة للمشاكل الشّاذّة , دون إهمالها بزعم ندرة حدوثها و اعتماد الإحصائيّات المحيّنة الجديدة لتفسير أسباب الإضطرابات المذكورة في إطار دراسات معمّقة للمواضيع غايتها التحليل للبحث عن الحلول الممكنة.

***أو تفاقم أسبابه الممكنة – و تفسد الأجواء –الّتي وجب أن تكون سويّة، لتيسير مهمّة تربية النّاشئة وتكوينهم تكوينا متوازنا للاضطلاع بالمهامّ المستقبليّة المنوطة بعهدتهم في مستقبل الأيّام خير اضطلاع.

البحث في Google:





عن أسامة حباري

أسامة حباري- أستاذ أوّل للمدارس الابتدائيّة – مدرّس منذ سنة 2009 بالمدارس الابتدائيّة التّونسيّة، و بصدد الإعداد لخوض مناظرة التّفقّد للمرحلة الابتدائيّة، و مدوّن في الميدان اّلإفتراضيّ.. متحصّل على الأستاذيّة في اللّغة العربيّة و آدابها منذ سنة 2006.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *