التجديد التربوي وسؤال القيم

تمهيد

قد يكتسب المرء مهارات ومعارف تجعله متمكنا جدا من مجال تخصصه، لكن إذا خلا تمكنه هذا مما هو أخلاقي وقيمي، فقدت المعارف طابعها الإنساني العلائقي، فتكون النتيجة طبيبا مخادعا وقاضيا مرتشيا، و غيرها من الحالات اللاأخلاقية، والتي تعبر عن تربية غير متوازنة بين المجالات الثلاثة لشخصية الفرد (المعرفية، والمهارية، والوجدانية). فالمدرسة وبحكم أهمية دورها في التنشئة الاجتماعية لابد أن تستهدف هذا التوازن وتجعله غاية ضمن غايات أخرى ترومها من خلال المواد والدروس المبرمجة في مختلف المستويات والأسلاك. لحد اليوم بينت مختلف الدراسات والتقارير المنجزة حول القيم في المنظومة التربوية المغربية تحقق مجموعة من المكتسبات، لكنها لازالت تعاني من اختلالات قيمية كبرى، وأنها لم تحقق النتائج المنتظرة منها، كما يتجلى ذلك من خلال انتشار بعض السلوكات مثل العنف والغش وغيرها من السلوكات اللامدنية في الوسطين المدرسي والمجتمعي.

و بالنظر إلى أهمية التربية على القيم في تنشئة الأفراد والجماعات، والتي تلعب فيها المدرسة الدور الرئيس، فإن أي تجديد بيداغوجي قد يقبل عيه النظام التربوي المغربي، لابد أن يضع في حسبانه تصورا ناجعا للتربية على القيم يتجاوز من خلاله تعثرات النموذج الحالي.

في هذا المقال سنسلط الضوء على القيم التي تستهدف المدرسة المغربية تنميتها، وذلك بتحليل بعض ما ورد في الوثائق الرسمية المؤطرة للإصلاح التربوي. وسيتم ذلك بتشخيص بعض الاختلالات، و نقد التصور القائم حاليا، مع اقتراح أفكار و رؤى قد تسهم في تطويره.

1- مفهوم القيم

يعد مفهوم القيمة، أو القيم، من المفاهيم المعقدة، لها استخدامات كثيرة ومتنوعة، تختلف من حقل معرفي إلى آخر. زد على ذلك أننا لا نجد تعريفا موحدا متفقا عليه حتى في داخل كل اختصاص.

  • في اللغة القيمة » : واحدة القيم ، فعلها» يُقَيِّم «، وماضيها»   قَيَّمَ «، وأصله الواو  لأنه يقوم مقام الشيء. فالقيمة ثمن الشيء بالتقويم. تقول تقاوموه فيما بينهم.[1] وما له قيمة إذا لم يدم على شيء[2].
  • في المجال الفلسفي، يفيد مفهوم القيمة على “المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتطلع المرء إليه بكليته ويجتهد في الإتيان بأفعاله على مقتضاه، أي أنه المعنى الذي يجمع بين استحقاقين اثنين: استحقاق التوجه إليه، واستحقاق التطبيق له “[3]
  • في علم الاجتماع، يذهب الفرنسي غي روشيه ، متأثرا في ذلك بكل من »دوركايم«  و»بارسونز«  إلى اعتبار القيمة “الركيزة الأساسية التي يستند إليها الفعل، وقال “القيمة طريقة في الحياة أو العمل، ينظر إليها الشخص أو الجماعة بوصفها مفهوما يلتبس ويتشخص به الأفراد وتصرفاتهم ويصبح شعارا لهم ” [4].
  • في علم النفس يأخذ المفهوم أبعادا أخرى من بينها “القيمة بمثابة الدافع والمحرك (ويلسوم وماك ليلاند)، القيمة بمثابة التعلق والاهتمام (باريش، أولبرت، وفرتون)، القيمة بمثابة الاعتقاد (روكيتش)…”[5]

كما أن هناك مفاهيم تتداخل وتتشابك يصعب تمييزها عن مفهوم القيم مثل الأخلاق، والتي حاول الفرنسي »بول ريكور«  أن يميز بينهما “معتبرا أن الأخلاق تنسحب على المعايير والإلزامات والموانع، وأن الأخلاقية تفيد التطلع إلى حياة مكتملة مع الآخرين، ومن أجلهم وفي مؤسسات عادلة. فالأخلاقية بهذا المعنى ثلاثية الأبعاد: تخص هذا التفاعل بين الذات والآخر والمؤسسة”[6] . و من خلال هذه المداخلة لن نستعمل مفهوم الأخلاق، و إنما سنعتمد مفهوم القيم والتربية الأخلاقية والقيمية على أساس نفس المعنى. قاصدين بذلك طبيعة القيم التي يستهدف النظام التربوي زرعها وتنميتها في الناشئة رُواد المدرسة.

2- أهمية التربية الأخلاقية ومشكلاتها

يقول اوليفيي ريبول في كتابه فلسفة التربية ” لا يولد الإنسان إنسانا… فلا شيء من كل ما يؤلف الإنسانية، أي اللغة والفكر والمشاعر والفن وعلم الأخلاق، ولا شيء من كل ما سعت الحضارة ألاف السنين الحصول عليه قد انتقل إلى جسم المولود الجديد، بل كان عليه أن يكتسبه بالتربية”[7]. وهو بذلك يؤكد المقولة المشهورة لإيمانويل كانط “لا يصير الإنسان إنسانا إلا بالتربية”. فلا أحد يقلل من أهمية التربية ودورها في تنمية الأفراد معرفيا ومهاريا وأخلاقيا. كما يعرف الصحاح التربية على أنها “تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية كي تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف” .أي بمعنى تنمية الجوانب الثلاثة للشخصية: المعرفية، والحسحركية والوجدانية، أو القيمية الأخلاقية. بل هناك من يعطي أهمية أكبر لهذه الأخيرة، فإن صلحت صلح الفرد والمجتمع. ومن بين هؤلاء نجد فيلسوف المنطق المغربي طه عبد الرحمن الذي يعتبر أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هي الأخلاق وليس العقل “فالأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلا عن أفق البهيمة “[8]  .فأهمية التربية على القيم والأخلاق تزداد، بل وتتضاعف أهميتها، بحكم التغيرات التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال وعولمة الثقافة، وما يرافقهما من تغيرات قيمية وإيديولوجية.

جُلّ الأنظمة التربوية عبر العالم على كامل الوعي بأهمية التربية الأخلاقية والقيمية في التنشئة الاجتماعية، فبفضلها يمكن الحديث عن استمرارية الحياة المشتركة والتعايش والتفاهم. و بدوره أولى  النظام التربوي المغربي أهمية كبرى لمدخل القيم في مختلف الوثائق المؤطرة له، من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين والكتاب الأبيض، و جعل منه مدخلا من مداخل المنهاج التربوي، كما أكدت عليه الرؤية الاستراتيجية  للإصلاح 2015/2030، ودعمه تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي  “التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي” الصادر في يناير 2017، بحكم أن المدرسة “ذرع مجتمعي بالغ الأهمية لصيانة الثوابت الوطنية، ولنقل القيم المشتركة للمجتمع المغربي والمعبر عنها في وثائق الإصلاح المختلفة”[9].

وعي مخططي السياسة التربوية بالمغرب بأهمية التربية على القيم، والتنصيص عليها في مختلف الوثائق الرسمية، وباستبعاد تصور هاورد بيكر الذي يعتبر أن القيم ومعايير الحكم الأخلاقي خاضعة لمنطق مصلحة من أسماهم (بمقاولي الأخلاق)[10]، يبقى التنزيل الفعلي للتصورات من أجل الوصول إلى غايات النظام التربوي، وبالأساس على مستوى التربية على القيم يعرف مشكلات جمة، من أهمها:

  • اختيار المادة المعرفية الكفيلة بتحققها، ولعل هذا المشكل تعاني منه العديد من الأنظمة التربوية كما قال عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في مداخلة ألقاها في الرباط، سنة 2004″ إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم  عليها كلُّ تربية.”[11]
  • تعدد المرجعيات و تضاربها أحيانا: “اعتماد مرجعية قيم العقيدة الإسلامية إلى جانب مرجعية المواطنة وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، والمرجعية الحضارية الوطنية، مما يفتح المجال أمام تضارب وتناقض كبيرين في بعض المفاهيم والمواضيع التربوية أثناء وضع البرامج والمناهج.”[12]
  • تعدد مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتدخلة في التربية على القيم: “التربية على القيم مسؤولية متقاسمة تضطلع بها المدرسة، إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام، وباقي المؤسسات التي تؤدي وظائف ذات صلة بالتربية والتثقيف والتأطير. ذلك أن التأكيد على الدور المركزي للمدرسة في هذا الشأن اعتبارا لمكانتها في حياة كل فرد، وبالنظر للفترة الزمنية التي يقضيها فيها، لا يعني تخلي باقي فعاليات وهيئات المجتمع عن القيام بمهامها، بقدر ما هو تأكيد على تكامل الأدوار مع اختلاف الوظائف”[13].

و بالنظر إلى أهمية التربية على القيم في التنشئة الاجتماعية، و باستحضار تناقض وتضارب بعض القيم داخل المناهج والبرامج التربوية، وبالتمعن كذلك في طبيعة مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي وردت في تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي المشار إليها أعلاه، وتعدد روافدها ومرجعياتها، يمكن أن نتساءل: ما هي القيم التي يراد من المتعلم المغربي اكتسابها في المدرسة، في ظل تعدد المرجعيات و منافسة باقي المؤسسات؟ ما هي الآليات المناسبة التي يمكن اقتراحها لجعل الأفراد والجماعات يستوعبون هذا التعدد والتناقض في القيم فكرا وممارسة؟

3- القيم من خلال الوثائق الرسمية للإصلاح التربوي بالمغرب

لا نعتقد أننا من خلال هذه الورقة سنتمكن من الدراسة الشاملة لمضامين مختلف الوثائق الرسمية، لكننا سنحاول التركيز على أهم ما ورد في بعضها، تاركين إمكانية الغوص في تفاصيلها إلى فرصة أخرى يتسع فيها المجال للتطرق لمثل هذه المواضيع والإحاطة الشاملة بها. و من بين الوثائق الرسمية التي سنعمل على استكشاف القيم الواردة فيها، دستور المملكة المغربية، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، ثم الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030.

أ- القيم من خلال تصدير دستور 2011

معظم الدراسات التي تناولت وثيقة الدستور اهتمت بقضايا وإشكالات تناولتها فصوله، و نادرة هي الدراسات التي اهتمت بالجانب الأخلاقي والقيمي كما ورد في الوثيقة الدستورية، كأسمى قانون في البلاد .والذي قد يمكننا من تعرف ملامح السياسات العامة للدولة في هذا الجانب، والذي دون شك سيكون مرجعية أساسية لأي إصلاح تربوي. سنقتصر على ما ورد في نص التصدير من قيم دون باقي الفصول لكونه كافيا لإعطاء الملامح العامة للقيم المستهدفة. ومن خلال تصدير الدستور نجد مثلا:

  • “…تقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية…”
  • “المملكة المغربية دولة إسلامية، ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية…”
  • “…تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.”

من خلال ما سبق  يبدو جليا تنوع طبيعة القيم المنصوص عليها، نُجملها بين ما هو ديني و وطني وكوني، كما هي متعددة المصادر، حيث يمكن اعتماد نفس التصنيف الذي اعتمده الدكتور صالح النشاط[14] في حديثه عن مصادر خريطة القيم والأخلاق في دستور 2011 :

  • المصدر الأول :الدين الإسلامي.
  • المصدر الثاني :السلوك الجماعي القيمي والأخلاقي.
  • المصدر الثالث قيم التعاقد الاجتماعي.
  • المصدر الرابع : المواثيق الدولية.

هذه التعددية ضرورية في ظل مجتمع متعدد الثقافات والاتجاهات السياسية والإيديولوجية، وكما تمت الإشارة سابقا تعتبر المدرسة الفضاء الأنسب للتربية الأخلاقية والتربية على القيم، فهل تم الأخذ بغايات ومرامي النظام التربوي على مستوى القيم كما وردت في الميثاق الوطني للتربية والتكوين أثناء إعداد الوثيقة الدستورية؟ وهل تمت ترجمة مضامين التربية القيمية الواردة في دستور 2011 أثناء صياغة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030؟.

ب- القيم من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين

أولت وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين أهمية كبرى لموضوع القيم، من خلال جعل مدخل التربية على القيم أحد المداخل الثلاثة للمنظور الإصلاحي المتكامل للمنظومة التربوية، استجابة للتحولات القيمية والأخلاقية المجتمعية الوطنية والكونية. تم تركيز القيم في وثيقة الميثاق بالخصوص في قسمه الأول، المتعلق بالمبادئ الأساسية، خاصة في المحاور الثلاثة الأولى: المرتكزات الثابتة، والغايات الكبرى، وحقوق وواجبات الأفراد. وبقراءتنا لمواثيق الإصلاح التربوي وخاصة وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبالتركيز على مجال القيم نجد تعددا في القيم المنصوص عليها والتي يمكن إجمالها فيما ما يلي:

  • مبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها.
  • ثوابت ومقدسات.
  • يتأصل النظام التربوي في التراث الحضاري والثقافي للبلاد.
  • الوفاء للأصالة والتطلع الدائم للمعاصرة.
  • امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والإسهام في تطويرها.

هذا التعدد في طبيعة القيم، وفي المرجعيات، والمصادر المستقاة منها التي نص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والتي أوردها أيضا الكتاب الأبيض ضمن محور اختيارات وتوجهات في مجال القيـم على هذا الشكل “قيم العقيدة الإسلامية، وقيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية، والثقافية وقيم  المواطنة، وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية “[15] أكدتها الوثيقة الدستورية سنة 2011، كما رأينا سابقا، مما يعني استمرارا وانسجاما بين الوثائق الرسمية الموجهة للإصلاح التربوي في استهداف قيم دينية، ووطنية، وكونية، في تنشئة التلميذ المغربي.

ج- القيم من خلال الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التربوي 2015

تنطلق الرؤية من تشخيص مكتسبات النظام التربوي و تثمينها، وكذلك تحديد مكامن الخلل من أجل تجاوزها، والتي في مقدمتها “ضعف التمكن من اللغات والمعارف والكفايات والقيم”[16]، كما تتأسس على مجموعة من المرجعيات، أهمها: الدستور و لاسيما التصدير، وبعض الفصول، والخطب الملكية، والميثاق الوطني للتربية والتكوين بوصفه لايزال يمثل الإطار المرجعي للإصلاح. مما يعني استمرار استهداف القيم التي كان منصوصا عليها منذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والتي أشارت إليها الرؤية الاستراتيجية كمبادئ تستند اليها وهي[17] :

  • الثوابت الدستورية للأمة المغربية المتمثلة في الدين الإسلامي، والوحدة الوطنية، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي؛
  • الهوية المغربية الموحدة، والمتعددة المكونات، والغنية الروافد، والمنفتحة على العالم، المبنية على الاعتدال، والتسامح، وترسيخ القيم، وتقوية الانتماء، والحوار بين الثقافات والحضارات؛
  • مبادئ وقيم حقوق الإنسان.

أما القيم التي وضعتها كغايات على مستوى تأهيل الموارد البشرية فهي تسعى إلى تكوين مواطن “متمسك بالثوابت الدينية والوطنية والمؤسساتية للمغرب، وبهويته في تعدد مكوناتها وتنوع روافدها، معتز بانتمائه لأمته، وقادر على الموازنة الذكية والفاعلة بين حقوقه و واجباته، متحلٍ بقيم المواطنة وفضائل السلوك المدني، ومتشبع بالمساواة والتسامح واحترام الحق في الاختلاف، وعارف بالتزاماته الوطنية وبمسؤولياته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، مسهم في الحياة الديمقراطية والتنموية لوطنه، ومنفتح على الغير وعلى العصر بقيمه الكونية، ذو تكوين متكامل ومتجانس بين تحصيل وبناء المعارف، وامتلاك الكفايات والمهارات، وفن حياة العيش المشترك، وتعلم واكتساب الخبرة “[18].

ويمكن قول نفس الشيء على مستوى مرجعيات القيم المستهدفة، لطابعها المتنوع بين الديني والوطني والكوني. فما هي ردود أفعال المهتمين بموضوع القيم ومرجعياتها المتعددة بالمدرسة المغربية؟ وما هي إمكانات تطوير نموذج يستوعب هذا التعدد؟

4- نقذ التصور القائم ومقترحات التجديد

من خلال ما سبق يتضح جليا استمرارية التنصيص على نفس القيم بين مختلف الوثائق الرسمية، وباعتماد نفس المرجعيات (الوطنية والدينية والكونية)، وهذا التصور هو نفسه الذي سبق أن تبين فشله في تحقيق الأهداف التي كانت منتظرة منه حسب تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي” مع أهمية المكتسبات التي حققتها المدرسة المغربية في مجال التربية على القيم، فإن الواقع يكشف جملة من الصعوبات والاختلالات “[19] وبالتالي لا يمكن انتظار نتائج مختلفة من تكرار نفس التجربة.

أ- نقد تصور الوثائق الرسمية للتربية على القيم

من أهم الانتقادات التي وجهت  للتربية على القيم كما وضعتها الوثائق الرسمية السالفة الذكر نجد:

       – صراع مرجعيات القيم:

من بين الاختلالات التي تعاني منها المدرسة المغربية “أنها حاولت أن تؤسس منظومتها القيمية، بناء على حياد سلبي، بحيث تكتفي أن تقدم للمتعلمين خليطا من           القيم المتنافرة والمتناقضة أحيانا”[20] والناتج عن التعددية في المرجعيات المعتمدة بين دينية ووطنية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان (الكونية) نجم عنه:

  • تعارض وضعف الانسجام بين القيم والمبادئ التي تتمحور حولها المواد الدراسية ذات الصلة المباشرة بالقيم، وبين المضامين الصريحة والمضمرة في مواد أخرى؛ مما يؤدي إلى تضارب في التمثلات واتجاهات السلوك لدى المتعلم(ة)”[21].
  • ترك واضعي البرامج و المناهج و مؤلفي الكتب المدرسية والمدرسين الحق في الأخذ من هذه المرجعيات وفق قناعاتهم، ومن دون أدنى تراتبية أو وحدة عضوية، الأمر الذي يتجلى واضحا في التضارب القيمي في المقررات الدراسية المختلفة”.[22] مع العلم أن “كل تنافر قد يحدث بين خطاب المدرس ومواقفه وبين القيم التي يحملها المنهاج قد تؤدي إلى اضطراب في تمثل المتعلمين للقيم المقدمة لهم”[23].
  • اعتماد صيغ عامة قابلة للتأويل والقراءات المتعددة، أو اعتماد مرجعيات متعددة حتى وإن كانت متناقضة في بعض منطلقاتها وأبعادها إرضاء لجميع الأطراف “[24].

    – طريقة عرض القيم:

  • أوْلت البرامج والمناهج الدراسية أهمية للتربية على القيم، من خلال إدراجها الضمني والصريح في مختلف المواد الدراسية. إلا أن طريقة عرضها في الكتب المدرسية وبين المواد اختلف واختلفت حوله الآراء بحيث:
  • ” يعتبرها أحدهم، بأنها متنوعة ونبيلة ومثالية، بعيدة عن المآرب المادية، والمكاسب البراغماتية النفعية… فيما يرى باحث آخر، أنها قليلة وميزها شحوب واضح في الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية. بينما لدى باحث آخر فهي مقصية تماما رغم أهميتها ” [25].
  • التفاوت بين أهداف البرنامج الدراسي وواقع الممارسة التربوية في المدرسة، حيث يتم اختزالها في مجرد مادة دراسية، ونادرا ما يتم توظيفها في العلاقات الصفية والحياة المدرسية وسلوكات المتعلمين(ات) عموما”[26].

    – البعد عن الواقع الاجتماعي للتلميذ:

    الخطاب المدرسي لن يكون له التأثير المرجو على المستهدفين ما لم يكن هناك تناغم بين قيم المدرسة وقيم المجتمع. لكن المتعلم المغربي يعيش عالمين مختلفين و متناقضين بين المدرسة والمجتمع، نظرا:

  • للطابع المثالي للقيم في الكتب المدرسية والتي “صارت (أي القيم) ذات الطبيعة النظرية الطوباوية مجرد قيم نظرية عقيمة مفروضة على أفراد المجتمع بصفة عامة، والمتمدرسين بصفة خاصة”[27]. يساهم فيه تداخل القيم التقليدية والحديثة وعدم تناغمها (anomie) داخل المجتمع المغربي، والتي “ستخلق بيئة تنمو فيها سكيزوفرينيا ثقافية يعيش فيها الأفراد ممزقين بين مرجعيتين متباينتين”[28].
  • لعدم تحمل مسؤولية القطاع وفق المنهجية الديمقراطية، عوض الطابع التوافقي للإصلاحات التربوية التي تحاول تدبير الاختلافات بتبني رؤى مختلف المتدخلين، الأمر الذي يؤدي إلى وجود تضارب وتناقض بين القيم، وبالتالي يصبح “التنزيل التوافقي للقيم عند تخطيط ووضع مناهج المدرسة المغربية هو تعبير عن عجز الفاعلين في تدبير الخلافات في مكانها الأصلي وهو الساحة الاجتماعية … ونقل الخلاف السياسي إلى الساحة المدرسية”[29].

ب- مقترحات التطوير

لعل السؤال الأهم الذي يحاول واضعو المناهج استحضاره دائما، هو أي قيم للمدرسة الحالية والمستقبلية، في ظل هذه التحولات الكبرى التي يعيشها المجتمع؟ بالنسبة للمدرسة المغربية الحالية يمكن العودة إلى وثيقة الدستور(2011)، باعتباره إطارا مرجعيا وطنيا “ينص في الكثير من فصوله على مقتضيات تهم ترسيخ ثوابت الأمة ومنظومتها القيمية”[30]. بالنسبة لنا من خلال هذه الورقة، وعلى ضوء الإشكالات والانتقادات التي عرفتها التربية على القيم، كما وردت أعلاه، سوف نقوم بتقديم بعض الاقتراحات التي قد تسهم في فتح نقاش يساهم في وضع تصور مناسب لتناول التربية على القيم في المناهج والبرامج.

  • الاختيار الذكي للمادة المعرفية، الكفيلة بتحقيق التربية على القيم، والقادرة على تمرير القيم المشتركة المنصوص عليها في الدستور، رغم اختلاف مرجعياتها وتعارضها في بعض الأحيان. ويمكن ذلك من خلال وضع تراتبية لتلك القيم، والتركيز على ذات الأولوية المواكبة للتحولات المجتمعية وطنيا ودوليا.
  • التنسيق التام بين واضعي المناهج والبرامج والكتب المدرسية لمختلف المواد، واعتماد نفس سلم تراتبية القيم المستهدفة، لتجاوز التعارضات التي تحصل عند المتعلمين بين المواد، ولعل النقاش السابق بين أساتذة مادة التربية الاسلامية ومادة الفلسفة لخير مثال على غياب التنسيق.
  • توحيد التصور حول القيم المستهدفة بين مختلف المؤسسات المساهمة في التنشئة الاجتماعية، خاصة المؤسسات الإعلامية الرسمية، من خلال استهداف نفس القيم التي تسعى المدرسة المغربية تنشئة روادها عليها.
  • حسمُ النظام التربوي اختياراته، عوض استمرار التوفيق بين مختلف المتدخلين، وحفظ ماء وجههم من خلال إقحام مقترحاتهم في بناء التصور القيمي المستهدف، الأمر الذي يساهم في نقل الاختلافات الإيديولوجية والسياسية إلى المدرسة عوض حسمها خارجا عنها. فعلى سبيل المثال لما نقول الأصالة والتطلع إلى المعاصرة يسهل قبوله كتصور نظري، لكن عكس ذلك إذا ما حاولنا التعمق في تفاصيله أو تنزيله على أرض الواقع.
  • التربية على الحس النقدي، وإعمال العقل في التعامل مع مختلف الظواهر، في المدرسة، وفي البيت، وفي المحيط الذي ينتمي إليه المتعلم، ومع الإعلام، وكذلك مع المواقع الإلكترونية، وغيرها من مصادر المعرفة… عوض التركيز على تدريس قيم بعينها.

على سبيل الختم

يعتبر مبحث القيم من أقدم المباحث التي حظيت باهتمام المفكرين والفلاسفة والتربويين، إلا أن الحاجة تبقى قائمة لمزيد من الأبحاث والدراسات، نظرا للارتباط الوثيق بين موضوع القيم والإنسان، سواء كأفراد أو كمجتمعات. فالتحولات والتغيرات التي تعرفها المجتمعات ترافقها تغيرات وتحولات في منظومة القيم، حيث قد تَحُلُّ قيمة بدل قيمة أخرى، كما يمكن أن يشهد النسق القيمي كله إعادة الترتيب، بارتقاء قيم معينة وتراجع أخرى، أو بحذف واحدة، واكتساب أخرى.

في ظل هذا التحول الذي زاد من وثيرته التطور التكنولوجي والإعلامي، تبقى الأنظمة التربوية مسؤولة من خلال سياساتها التربوية، و عليها اتخاذ التدابير اللازمة لتقوم المدرسة بدورها المركزي والرئيسي لضمان شروط العيش المشترك.

 

 


الإحالات:

[1]  لسان العرب لابن منظور و الصحاح في اللغة  للجوهري : مادة (قوم)

[2]  القاموس المحيط للفيروز أبادي مادة (قوم)

[3]  طه عبد الرحمن، تعددية القيم ما مداها وما حدودها، الدرس الجامعي الافتتاحي، جامعة القاضي عياض، ص 11 ،2001 ،مراكش.

[4]  علي زين الدين، الأخلاق والقيم في المعنى والمصطلح والتجربة، مجلة الاستغراب، ص 338، العدد 4، 2016، بيروت.

[5]  علي زين الدين (نفس المرجع ) ص 338-339.

[6]  عبد الله الخياري ،المدرسة ورهانات التربية على القيم ،مجلة التدريس ،كلية علوم التربية ،العدد 7 ،ص 48،يونيو 2015.

[7]  مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي http://www.ssrcaw.org –

[8]  طه عبد الرحمن ،سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ،ص 14، الطبعة الاولى،2000،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.

[9]  امبارك بوعصب ،تحولات منظومة القيم وصراع المرجعيات بالمدرسة المغربية، مجلة تحولات معاصرة، المركز المغربي للدراسات والأباث المعاصرة، ص58، العدد الأول غشت 2016.

[10]  يمكن العودة الى نص المقال ،لرشيد بن بيه ،هوارد بيكر وإشكالية الانتقال من القيم إلى المعايير ،ضمن مجلة تحولات معاصرة، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، العدد الأول غشت 2016.

[11]  http://www.maaber.org/issue_september05/epistemology2.htm

[12] خالد الصمدي ،خطاب التربية الإسلامية في عالم متغير ،تجديد الفلسفة وتحديث الممارسة: رؤى تأصيلية ونقدية، ص 41، 2006.

[13]  تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي “التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي” ص4، 2017.

[14]   يمكن الرجوع إلى مقال لمؤلفه ،صالح النشاط ،بعنوان خريطة القيم والأخلاق من خلال تصدير دستور المملكة المغربية ،الصادر في ضمن مجلة تحولات معاصرة، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، العدد الأول غشت 2016.

[15] المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية، الكتاب الأبيض ،العدد 1 ،ص11، يونيو 2002.

[16]  المملكة المغربية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، رؤية استراتيجية للإصلاح 2015/0203 ص6 .

 [17]نفس المرجع ،ص 9.

[18]  نفس المرجع ،ص 10

[19]  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ،التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين ،ص 9،يناير 2017.

[20] عبد الله الخياري، المدرسة ورهانات التربية على القيم ،مجلة التدريس ،كلية علوم التربية ،العدد 7 ،ص53، يونيو 2015.

[21]  تقرير المجلس الأعلى ( نفس المرجع السابق) ص 9 .

[22] محمد الصغير جنجار، حدود الاختيار التوافقي وانعكاساته على منظومة القيم في المدرسة المغربية، مجلة دفاتر التربية والتكوين، العدد 5 ،ص 15، 2011 ،مكتبة المدارس ،الدار البيضاء.

[23]  عبد الله الخياري (نفس المرجع السابق) ص 55 .

[24]  خالد الصمدي، خطاب التربية الإسلامية في عالم متغير، ص 41 .

[25] مبارك بوعصب، مرجع سبق ذكره، ص 63.

[26] تقرير المجلس الأعلى ( نفس المرجع السابق) ص 9 .

[27] مبارك بوعصب (مرجع سبق ذكره).

[28]  عبد الله الخياري (مرجع سابق) ص 50.

[29]  عبد الله الخياري (مرجع سابق) ص 52-53.

[30]  تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين ،القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي ،مرجع سبق ذكره.

البحث في Google:





عن ابراهيم مصباح

أستاذ مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، طالب بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط، حاصل على الماستر في علوم التربية كلية علوم التربية الرباط.

5 تعليقات

  1. شكر جزيل للاستاذ على هذا الطرح الغني والمفيد لاشكالية القيم…
    ما لا حظته هو التركيز على المدرسة كفضاء لغرس القيم الايجابية في نفوس الطلبة، ولكن يبقى دور الاسرة محوريا بالنظر الى كونها البداية و نقطة الانطلاق و بالنظر الى ان التعلم ، اي تعلم يبدأ في كنف العائلة و الشخصية تبنى أسسها في حضن العائلة و ليس المدرسة، والملاحظ من خلال الممارسة العملية في ميدان التعليم ان التلاميذ المنحدرون من أسر مثقفة وواعية تحترم المدرسة يأتون للتعلم و هم يحملون هذه الرؤية الايجابية للمدرسة و يتقبلون ما يتم تلقينه من قيم لان تمثلاتهم بخصوص المدرسة كانت منذ البداية ايجابية..
    اما التلاميذ الذين ينحدرون من اوساط هشة لا ترى في المدرسة سوى مضيعة للوقت او مكانا للاختباء او الذوبان داخل المجتمع الى حين استغلال فرصة ما في الحياة فهم فعلا أعصياء على التعلم والتحلي بقيم المجتمع التي يحاول الاستاذ جاهدا زرعها في النفوس..
    انا مدرسة ولطالما تحدثت للصغار عن الرفق بالحيوان كقيمة اسلامية و انسانية واجتماعية..
    فوجئت يوما بأن اما تمسك عصفورا صغيرا وتعطيه لابنها و تقول له: خذ و العب به، هذا راه تيعة رهط و يجوز الانسان يعذبو حيت تيمشي للزرع تياكلو ..
    الاسرة تعيش في وسط قروي ورغم تدخلي دافعت الام عن وجهة نظرها و غادر الطفل اثناء حوارنا ليلعب بالعصفور..
    آنذاك اكتشفت كم هي غير مجدية كل مجهوداتنا في التربية…ومع هذا الجيل الجديد اكتمل اليأس لان المسؤول عن التربية على القيم في ظل غياب دور الاسرة و عجز الاساتذة هو الانترنت وما ادراك ما الانترنت..
    شكرا استاذي مرة اخرى..

  2. Mesbah Brahim

    أشكرك استاذة على تعليقك الغني بالافكار و والمجسد لغيرة عارمة على التربية
    بالنسبة لمداخلتك اتفق معك كامل الاتفاق عن أهمية الاسرة والدور الاساسي لها في بناء نموذج قيمي معين عند الطفل اضافة الى المدرسة والاعلام و المجتمع المدني و مختلف المؤسسات ذات الصلة بالتربية والتثقيف .
    بالنسبة لتركيزنا من خلال المقال على المدرسة فهو يأتي من منطق وحيد و مهم جدا هو ان المدرسة هي المؤسسة التي تستقبل مختلف شرائح المجتمع باختلاف الاسر والقيم الحاملة لها و باختلاف المؤسسات التي ينتمي اليها والاعلام الذي يستهلكه ايضا، اما اذا ركزنا الاهتمام على الاسرة و دورها فأي أسرة سندرس (المحافظة، الحاثية…) اما بناء نموذج قيمي من خلال المدرسة فيعني بناء نموذج للعيش المشتركة والقيم المشتركة …

  3. أمجاد الأمل

    أشكرك على الموضوع ونتمنى التطوير للافضل في مجال التعليم وليس للأسوى والله صرنا في حال يؤسف عليها مع الورق والاهتمام به اكثر من التعليم كالسابق

  4. بارك الله فيكم أستاذ ولكن المشكلة أن المربي عاجز (لم يحاول) على ربط موضوع الحصة التعلمية بقيمة أو موقف حسب غايات التربية . أقول هذا الكلام من خلال تجربة الاشراف على يوم تكويني للاساتذة موضوعه :غايات التربية ومهام المدرسة.

    • Mesbah Brahim

      اشكرك نور على مداخلتك
      اعتقد أن موضوع القيم ان لم يكن محسوم فيه و مؤطر على مستوى السياسة التربوية،سيجعل من القيم المدمجة في المواد الدراسية تستثمر وفق ميولولات و توجهات واضعي الكتب المدرسية والمدرسين . فان كنت في اليوم الذي أشرفت على اليوم التكويني ان يربط المدرس درسه بقيمة ما ربما يكون توجهه غير توجهك و غير توجه استاذ اخر في مكان ما وبالتالي يكون الاختلاف حول القيمة المستهدفة. تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *