الثلاثية الذهبية في التدريس

في ظلِّ ما طرأَ على ميدانِ التَّعليمِ مِن تنوُّعٍ في أنماطِ التَّفكيرِ، وتحوُّلٍ في سلوكِ الطَّالبِ ومكانةِ المعلِّمِ، وانفتاحٍ بينَ صنوفِ العلمِ والثَّقافاتِ؛ نجدُ أنَّ المصطلحاتِ الخاصَّةَ بالتَّدريسِ وإستراتيجياتِه تكادُ تفقدُ بريقَها وهالَتها المعهودةَ، فبِتنا حينَ نقرأُ كلمةَ (إستراتيجيَّة) وما ينتمي إلى حقلها الدِّلالي مِن مصطلحاتٍ؛ ينتابُنا شيءٌ مِن النُّفورِ، والشُّعورِ باللَّاجدوى! ومن هنا تبرزُ الحاجةُ إلى فِكَرٍ جديدةٍ مرنةٍ، تُرمِّمُ الآمالَ، فتُناسِبُ حالَ الطَّالبِ من جهةٍ، ولا تزيدُ من أعباءِ المُعلِّمِ من جهةٍ أخرى، ومن هنا تبرزُ أهميَّةُ هذهِ الثُّلاثيَّةِ والتي يمكنُ تطبيقُ فكرتها تِباعًا في ثلاثِ محطَّاتٍ خلالَ سيرِ الدَّرس.

ثلاثيَّةٌ ذهبيَّةٌ سريعةُ المفعولِ، وسهلةُ التَّطبيقِ، تصلحُ لكلِّ مادَّةٍ ومهارةٍ ولكلِّ مرحلةٍ وبيئةٍ وعصرٍ، لا تحتاجُ زمنًا، ولا تستهلكُ جُهدًا، ولا يُشترطُ لنجاحِها طالبٌ مثاليٌّ ولا معلِّمٌ خارقٌ، تواكبُ العصرَ، وتُنمِّي الفِكرَ، وتؤسِّسُ للمُستَقبَل.

أمَّا أوَّلُ هذهِ الثُّلاثيَّةِ فهوَ تحقيقُ مفهومِ (التَّحدِّي) في بدايةِ الدرسِ، هذا المفهومُ المهمُّ الذي نسيَه طلبةُ اليوم، حيثُ انتشرَ وباءُ ضعفِ الهمَّةِ وفقدانِ الدَّافعيَّةِ، ولعلَّ مردّ ذلكَ إلى ما يعيشُه الطَّالبُ من لا مُبالاةٍ جعلته يظنُّ الحياةَ سهلةً تخلو من المشاق؛ فباتَ يتعاملُ معَ الأشياءِ بمنطقِ الوجباتِ السَّريعةِ الجاهزَةِ التي تكونُ بينَ فكَّيْه بمجرَّدِ الطَّلبِ! وتقومُ فكرةُ التَّحدِّي في التَّدريسِ بأنْ يجعلَ المعلَّمُ الطَّالبَ أمامَ مشكلةٍ وتحدٍّ مباشرٍ في بدايةِ الدَّرسِ، ومن ثمَّ يطلبُ منه التَّعبيرَ عن كيفيَّةِ التَّصرُّفِ، فقدْ اعتادَ المعلِّمُ أنْ يستهلَّ درسَه بمقطعٍ مرئيٍّ أو صورةٍ مُعبِّرةٍ أو قصَّةٍ محكيَّةٍ… وفي نهايتها يسألُ عن المغزى المُستفادِ أو الفائدةِ المتضمَّنةِ؛ لتكونَ بمثابةِ المدخلِ لدرسهِ، أمَّا في فكرةِ التَّحدِّي ما على المعلِّمِ إلَّا أنْ يسألَ في منتصفِ الطَّريقِ وليسَ في نهايتِه، فعلى سبيلِ المثالِ يُوقِفُ مقطعَ الفيديو في لحظةٍ حرجةٍ، ومن ثمَّ يسألُ الطَّلبةَ عمَّا كانوا سيفعلونه لو أنَّهم في ذلكَ الموقفِ، أو عندما يعرضُ صورةً تعكسُ مشكلةً ما، يطلبُ من الطَّالبِ أنْ يُعبِّرَ عمَّا كانَ سيفعلُه فيما لو كانَ هوَ في قلبِ تلكَ المشكلةِ، أو عندما يسردُ المعلَّمُ قصَّةً قصيرةً يصِلُ بأحداثها إلى الذّروة،ِ يطلبُ من الطَّالبِ تمثُّلَ دور الشخصيَّةِ والتَّعبيرَ عمَّا كانَ سيفعله… وهكذا، ففكرةُ التَّحدِّي تثري لدى الطَّالبِ ملكةَ التَّخيُّلِ وتحفَّزه على التَّفكيرِ والمُتابعةِ، وتثيرُ فيه روحَ المغامرةِ التي يعشقُها بِحُكمِ المرحلَةِ العمريَّةِ، وتُخرجُه من الرَّتابةِ التي ألِفَها في استخلاصِ فكرةٍ مُعلَّبةٍ جاهزةٍ في نهايةِ المادَّةِ المعروضةِ والتي غالبًا ما تكونُ واضحةَ المعالِمِ.

أمَّا ثاني هذهِ الثُّلاثيةِ فهوَ تحقيقُ مفهومِ (التَّخيير) في وسط الدَّرسِ، فالطَّالبُ اعتادَ أنْ يُجيبَ عن سؤالٍ يُحدِّدُه المعلِّمُ، ويقرأَ فقرةً اختارَها المعلِّمُ، ويُعبِّرَ عن فكرةٍ أرادها المعلِّمُ…؛ فانسحبَ بهِ الحالُ إلى عالَمِ السَّأمِ مِن التِّكليفِ، والمللِ من الأوامرِ والتَّعليماتِ، وهنا يمكنُ للمعلِّمِ أنْ يستثمرَ المشاعرَ البشريَّةَ المشتركةَ، فالإنسانُ بفطرتهِ يحبُّ أنْ يختارَ بنفسهِ، ويُقرِّرَ بنفسهِ، ويصطفي ما يقولُ، وينتقي ما يفعلُ.

ومثالُ فكرةِ التَّخييرِ أنْ يوجِّه المعلِّمُ الطَّالبَ إلى اختيارِ سؤالٍ من أسئلةِ النَّشاطِ ليُجيبَ عنه، أو يختارَ أحدَ السؤالَينِ، أو يختارَ إحدى الفقرتَين ليقرأها على زملائه، أو يختارَ إحدى الفكرتينِ ليتحدَّثَ عنها أو أحدِ الموضوعَينِ ليكتبَ فيه… وهكذا، وفي هذا الطَّلبِ السَّهلِ يتولَّدُ كَمٌّ هائلٌ من الإيجابياتِ، فالطَّالبُ حينَ يُخيَّرُ بينَ سؤالينِ يضطرُّ إلى قراءةِ كِليهما واستحضارِ إجابتيهما، وعقدِ مقارنةٍ داخليَّةٍ سريعةٍ بينَهما في مستوى الصعوبةِ وإمكانيةِ التَّعبيرِ، ومِن ثمَّ يختارُ السؤالَ الأنسبَ لقدراتِه وخبراتِه؛ ممَّا يُكسِبه رصيدًا معرفيًّا ومهاريًّا متعدِّدَ الجوانبِ، وكذلكَ تنمِّي هذهِ الفكرةُ قدرةَ الطَّالبِ على اتِّخاذِ القرارِ، وحرصهِ على تقديمِ الجوابِ الشَّافي للسؤالِ الذي اختارَه بنفسهِ.

أمَّا ثالثُ هذهِ الثُّلاثيَّةِ فهو مفهومُ (إبداء الرَّأي) في نهايةِ الدَّرسِ، الذي يُخرِجُ الطَّالبَ مِن حدودِ النَّصِّ إلى ما يرتبطُ بالموضوعِ مِن فِكَرٍ خارجيَّةٍ، وما يمتلكُه الطَّالبُ من علمٍ وثقافةٍ، فعلى الرُّغمِ من حداثةِ استراتيجياتِ التَّدريس الحاليَّةِ وتنوِّعها إلَّا أنَّ فرصَ الطّالبِ في إبداءِ رأيه تكادُ تكونُ محدودةً، قد تَرِدُ في جُزئياتٍ مغمورةٍ بينَ ثنايا الأنشطةِ، وهذا ما تعالجُه هذهِ الفكرةُ القائمةُ على تشجيعِ الطَّالبِ على إبداءِ الرَّأي في نهايةِ الدَّرسِ حيالَ الموضوعِ الذي يدرسه أيًّا كانتِ الفِكرةُ والمادَّةُ والمرحلةُ، سلبًا أو إيجابًا، مع طلبِ التوضيحِ والتَّعليل، فاعتيادُ الطَّالبِ على هذهِ الأسئلةِ في دراسَتِه يُكسبُه على مدى الأيامِ عاداتٍ إيجابيَّةً عِدَّة، وتغيُّرًا في نمطِ السُّلوكِ والتَّفكيرِ؛ لأنَّ تعبيره عن رأيهِ يُحتِّم عليهِ متابعةَ المعلِّمِ، واستيعابَ الشَّرحِ، والحرصَ على حُسنِ انتقاءِ الألفاظِ والحجَّةِ والأسلوبِ حينَ إبداءِ الرأي. وبنجاحِه في ذلكَ؛ فإنَّه يُعزِّزُ استقلاليَّةَ رأيهِ، وينمِّي لديهِ مهارةَ الاستماعِ والتَّحدُّثِ والإقناعِ والتَّأثيرِ.

إذًا لا يستلزمُ تطبيقُ هذهِ الثُّلاثيَّةِ تغييرَ الخُططِ الدَّرسيَّةِ ولا الاستراتيجياتِ التَّعليميَّةِ، فما هذهِ المحطَّاتُ الثلاثُ إلَّا أهدافٌ خفيَّةٌ يمكنُ للمعلِّمِ تحقيقها مِن دونِ تكلِّفٍ لتخدمَ رسالتَه، فيُحدِث بها على مدى الأيامِ فرقًا بإنعاشِ ذهنِ الطَّالبِ، وصقلِ شخصيَّتهِ، وإغناءِ تواصلهِ، وتلكَ هي أسمى غايات التَّعليم.

البحث في Google:





عن د. محمد زكي عيادة

اختصاصي تقييم طلبة في وزارة التعليم والتعليم العالي القطرية، دكتوراه في جودة التقييم، ليسانس لغة عربية من جامعة دمشق، مدرب محترف ومستشار معتمد من المركز العالمي الكندي، المؤلفات: كتاب مهارة القراءة فنًّا ودرسًا وتقييمًا، وكتاب مهارة الاستماع فنًّا ودرسًا وتقييمًا، ومجموعة قصصية بعنوان (على دروب الأماني)، وعدة مقالات منشورة، خبرة في التدريب والتطوير المهني. من مواليد القامشلي - سوريا.

13 تعليقات

  1. دينا نظير محمود

    ممتاز بارك الله فيك وزادك علما

  2. د.أحمد محمود عبد الباقي

    أفكار عميقة لأجل تعلّم ناجح، ستحدث فرقا في أداء المعلم ودافعية المتعلمين.
    ويبقى التحدي الأكبر هو إقناع الأنظمة التعليمية في دولنا العربية بضرورة التجديد في الفكر التربوي الذي تستقي منه تلك الأنظمة فلسفتها في التعليم والتربية.
    شكرا لك دكتور محمد..

  3. فعلا لابد من تجديد للتعليم وطرق التدريس

  4. عبدالله البيشي

    الله يعطيك العافية يادكتور كلام رائع

  5. محمد طالب عبد الله

    موضوع في غاية الاهمية و يبقى دور المعلم في تفعيل هذه الثلاثية مرهون بمدى كفاءةته المعرفية و الادائية ,
    شكرا استاذنا الفاضل على هذه اللفتة التربوية الطيبة .

  6. معلمة رشا

    مقال مميز
    بوركتم

  7. ب بللوش

    1/ السلام عليكم ورحمة الله… 2/ سيكون من الأحسن تحويلها إلى رباعية بإضافة الحدث الاجتماعي أو الرياضي المحلي أو الوطني أو الدولي وإثارته مع الطلبة لمدة 5د في بداية كل حصة، مع تحياتي وتقديري وشكري…

  8. فوزي امحمد

    فكرة جيدة لكن في اعتقادي هناك عوائق في التنفيد من ضمنها:

    1- عدد الطلاب داخل الفصل الدراسي.
    2- محدودية زمن الحصة الدراسية للمواد.
    3- المنهج الدراسي.

    ومع دلك ممكن تطبيقها في الصف التمهيدي و الجامعات أيضاً

  9. سهام محمد نعمان

    إن ما يترك للمعلم من مساحة في تطبيق درسه يجعله في تطور دائم خاصة انه هو من يجلس مع طلابه ويعرف احتياجاتهم خلال الممارسة في العملية التعليمية ومما يجعل المعلم سلبيا في بعض الأوقات هو السلبية التي تمارس خلال تقيم الموجه له خاصة اذا لم ينرك له مساحة في إعطاء وجهة نظره من قبل المقيم لذلك علينا انتقاء الموجه الكفء الذي يفهم المغزى من توظيف المعلم لبعض الاسئلة والاستراتيجيات في درسة لحاجة المتعلمين اليها

  10. رائع ماذكرت وهذا من معايير الحصة الفاعلة والفصل والتعلم النشط

  11. د. محمود أبو فنّه

    عرض الثلاثيّة الذهبيّة (التحدّي، التخيير، وإبداء الرأي) قد يسهم في زيادة الدافعيّة
    والمشاركة لدى المتعلّمين، ولكن كنتُ أحبّذ أن نترك مساحة أكبر للمتعلّمين في
    المشاركة في تقرير وتحديد نقاط (التحدّي والتخيير وإبداء الرأي)!
    فمثلًا – ومن خلال تجربتي في التدريس – كنتُ أتيح لطلابي المجال لاختيار ما يرونه
    جديرًا بالتحدّي، وأستمع لاقتراحاتهم بخصوص ما يختارونه للحوار والنقاش، وأشجّعهم
    على إبداء الرأي بصورة دائمة خلال الحصص ولا أقتصر على نهاية الدرس!

  12. محمود عيسى

    أحسنت وأجدت

  13. حنان عيّاد

    فعلا أفكار ممكن تطبيقها في سياق أي درس وأي مبحث ولها أثر كبير في جذب انتباه الطلبة وإعمال فكرهم وفتح آفاق أمامه ، يعطيك العافية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *