بعض الأطفال يحلمون أن يُصبحوا أطباء أو مهندسين أو فنانين.. أما أطفال غزة، فكثيرٌ منهم لا يحلم إلا بفصل دراسي حقيقي، ليس خيمة، ولا زاوية مغبرة تحت غطاء بلاستيكي، بل مكان يحتويهم بمقعد وسبورة وإحساس بالأمان.
في أحد المخيمات الممتدة على أطراف مدينة أنهكتها الحرب، وفي صباح يُشبه الأمس، تجلس “حلا” ذات الستة عشر ربيعاً، فوق كيس دقيق فارغ في خيمة بيضاء باهتة، تُمسك دفترها المهترئ بيد، وترفع الأخرى لتثبّته على ركبتها لتكتب ما يقوله معلمها بصوت بالكاد يُسمع وسط إزعاج المولد المجاور، وضجة الشارع التي لا تحجبها قطع جلدية او قماشية تُسمّى خيمة.. حولها، أكثر من خمسين طالبًا، لا طاولة واحدة، لا سبورة واضحة، ولا حتى جدار تستند إليه، ولا مروحة تنقذهم من قيظ الخيمة التي تحولت مجازًا إلى “مدرسة”.
في مناطق الحرب والنزوح، أُجبر التعليم على التكيّف مع أبسط ما يمكن أن يُسمى “مكانًا”، فاستُبدلت الصفوف بالخيام، والسبورات بالجدران القماشية، والمناهج بخليط من المحاولة والتخمين والاقتصار على أساسيات لمنع تفشّي الجهل، واستبدلت البيئة الآمنة بفضاء مليء بالقلق والخوف والحرمان.
كمعلّمة في واحد من أكثر مناطق العالم تدميراً، شاهدت طالباتي وهنّ يُحاولن انتزاع لحظة تعلم وسط صدمة وشتات ورُكام. هذه ليست مجرد قصة نقص في البُنية التحتية، بل غياب الشعور بالأمان، والاستقرار والخصوصية، وكل ما يجعل التعليم تجربة إنسانية متكاملة، هي قصة صمود، وطفولة مسروقة، ونظام هش يتمسّك بخيط رفيع من الأمل.
في إحدى الحصص الدراسية داخل خيمة تعليمية، أعددت لدرس وفق استراتيجية تتطلّب عمل تعاوني تنافسي، بدأنا نقسّم المجموعات، وحين أردنا الجلوس لتأخذ كل مجموعة مكاناً مناسباً لم نتمكّن أبداً من ذلك بسبب ضيق الخيمة، فقررنا الخروج أمام الخيمة فالمساحة أكثر اتساعاً، لكن كانت المشتتات خارج الخيمة في مركز الإيواء كثيرة، وكانت تجربة سيئة حقاً ومحبطة لي ولطالباتي، أيقنت أنّني لن أتمكن سوى من التلقين في الخيام، ما لا يتوافق أبداً مع قناعاتي التدريسية.
قالت الطالبة فاطمة، 16عاماً في مونولوج مؤثّر -كأحد أنشطة سياق درامي كنّا نعمل عليه- حول معاناتها أثناء التعلّم في خيمة:
“كنت أحب مدرستي القديم.. كانت الصفوف ضيقة، لكنها حقيقية.. كان لي مقعد، ولوحة أكتب عليها أحلامي، وصوت معلمتي يملأ المكان دفئًا..
أما الآن، فأجلس على الأرض، أحاول أن أُثبت دفتري على ساقي المرتجفة لطول الجلوس وانحباس الدم فيهما، فالجلسة مرهقةٌ جداً.. يمتدّ ألم قدماي حتى اليوم التالي في كل يوم دراسي..
يقولون لي: “اصبري، المهم أنكِ تتعلمين”. لكن هل هذا يُسمى تعلمًا؟ نحن في خيمة تمتلئ بالغبار، لا كهرباء، لا تهوية، لا أبواب تحمينا من المطر أو العيون المتطفلة .. تُشتتنا مشاغبات الأطفال حول خيمتنا.. كل شيء هنا مؤقت… حتى الأمل.
السبورة قطعة جلدية مشقوقة، والأقلام تُشارك بين الزميلات.. لا طاولة أكتب عليها، ولا حتى ماء بارد نروي به عطشنا بعد ساعات طويلة تحت الشمس.. في الصيف نحترق، وفي الشتاء نغرق، ومع هذا… لا نُقاطع، بل نحضر، ونحاول ونتابع دروسنا على أمل أن تتحسّن ظروف تعليمنا.
لكن أريد أن أصرخ… الخيام ليست مدارس!
الخيام لا تصنع بيئة تعليمية، بل تذكّرنا في كل لحظة أننا نازحون، مشردون، مكسورون.
أحاول التركيز، لكن صوت أختي الصغيرة تبكي خلف الستار القماشي يشتتني… أو صوت شجارات الرجال بينما ينتظرون أن تُملأ أوعيتهم من تكيّة الطعام ليُطعِموا صغارهم، أو حتى اضطراري لترك الدرس لأملأ الماء من الصنبور البعيد..
أحيانًا أغلق عينيّ وأتخيل أنني عدت إلى صفي، على مقعدي، أكتب في دفتر جديد، أشرح لزميلتي مسألة، نضحك، نخطئ، نتعلم.. ثم أفتح عيني… فأرى سقف الخيمة يقطر، وحلمي يتبخر..
أنا لا أريد الكثير… فقط مدرسة حقيقية، ولو صغيرة.. فقط بيئة تحترم حلمي، وتحميني من أن أنطفئ بصمت.
هل يسمعني أحد؟ هل من أحد يهتم أنني ما زلت أريد أن أصبح مهندسة، رغم أن مدرستي الآن… قطعة قماش؟”
“الخيام ليست مدارس”، ليست مجرّد شعار، بل صرخة يجب أن تُسمع، وتُترجم إلى أفعال؛ فالطلاب في مثل هذه البيئة لا يعانون فقط من نقص القرطاسية والمقاعد، بل من آثار نفسية عميقة:
أطفال فقدوا عائلاتهم بالكامل، ومنازلهم، ومراهقون يحملون مسؤوليات تفوق أعمارهم، وطلاب يعانون من الجوع، من الحر، من انعدام الخصوصية والأمان في مراكز الإيواء، وحتى من غياب أدنى مقومات النظافة والراحة، ما يؤثر على صحتهم الجسدية والنفسية معًا.
والأدهى من كل ذلك، أن كثيراً من الطلاب يعانون من صدمات فقد الأسرة والمنزل، ومن مسؤوليات يومية تفوق أعمارهن: كجلب الماء، والطبخ على النار، والعناية بالأشقّاء، ومع ذلك… يحضرون للتعلّم.
أما المعلمون، فهم الجنود المجهولون في هذه المعركة، يعملون بلا راتب ثابت، بينما هم نازحون أصلا، يطبعون الأوراق على حسابهم الخاص، يُحضّرون الدروس في ظروف غير آدمية، ويتحمّلون مسؤولية أن يكونوا معلمين، ومعالجين نفسيين، ومُصلحين اجتماعيين في آنٍ واحد،
ورغم كل هذا، تُولد من قلب الرماد مبادرات فردية مدهشة، لمعلم أو مدرسة تحاول أن تُحوّل هذه الخيمة إلى مساحة أمل: أنشطة درامية لعلاج الصدمة، تعليم عبر الفن والرسم والسرد، مزج STREAM بالفن والإنسانيات، وحتى إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي رغم ندرة التكنولوجيا، كل ذلك بروح مقاومة لا تنكسر.

لكن… إلى متى؟
هل يُعقل أن يتحول التعليم إلى رفاهية مؤجلة؟
هل يُترك مستقبل الأطفال مرهونًا بالمساعدات المتقطعة والجهود الفردية؟
نحتاج إلى استجابة إنسانية حقيقية، لا مؤقتة.
نحتاج إلى شراكات بين مؤسسات التعليم والمنظمات الإغاثية لا تنقطع كما حدث في بعض المبادرات وبلا سبب في كثير من المدارس، وانقطاعها أثّر سلباً على المعلّم المطحون والطالب الذي يبحث عن قشةٍ تُنْجِي مستقبله من الضياع.
نحتاج إلى برامج دعم نفسي منهجية، ومراكز تعليمية بديلة لائقة، وتدريب مستمر للمعلمين يتناسب مع الواقع.
وقبل كل شيء، نحتاج إلى الاعتراف بأن التعليم ليس فقط حبرًا على ورق، بل هو حماية، هو علاج، وهو حق لا يجب أن يُنتزع.
في نهاية اليوم، لا أحد من هؤلاء الأطفال اختار أن يتعلّم داخل خيمة، أو أن يعيش في طابور طويل للحصول على ماء أو قطعة خبز… لكنهم رغم كل شيء، يحضرون، يحاولون، ويحلمون. فهل نخذلهم؟
إن السكوت عن هذا الواقع جريمة.. والخيام، رغم احتضانها للألم، ليست وطنًا دائمًا… ولا يجب أن تكون مدارس لأطفال، من حقهم أن يحلموا، لا أن ينجوا فقط..
لا ينبغي لطفل أن يختار بين الأمان والتعليم، الخيمة قد تقي من الشمس، لكنها لا تمنح الكرامة، قد توفّر مأوى مؤقتاً، لكنها لا تصنع مستقبلاً.
إن قبلنا أن الخيام كافية لتعليم أطفالنا، فنحن نقبل ضمناً أن مستقبلهم قابل للتفاوض.. وهو ليس كذلك.
ما نحتاجه ليس صدقة، بل عدالة.
ليس تعاطفاً لحظياً، بل تحركاً دائماً.
فالتعليم تحت القصف ليس مجرد أزمة… بل نداء ضمير.

تعليم جديد أخبار و أفكار تقنيات التعليم
