السندباد البحري

سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الخامسة: السندباد البحري ، الرحلة الأولى

يدخل هذا الموضوع في إطار التعاون بين مدونة تعليم جديد والكاتبة ليلى جبارة، وهو الخامس من سلسلة “حكايات كما يجب أن تروى. تُنشر حصريا على صفحات الموقع. يمكنكم قراءة المقال التقديمي للسلسلة من هنا، و الحكاية الأولى من هنا، و الحكاية الثانية من هنا. والحكاية الثالثة: الجزء الأول من هنا، الجزء الثاني من هنا، والجزء الثالث من هنا. و الحكاية الرابعة من هنا.

في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، عاش رجل ثري في مدينة بغداد، وكان من أكابر الناس وأشرفهم، عمل بالتجارة ووفر المال الكثير لكنه مات تاركا ولدا صغيرا اسمه السندباد البحري .

ورث الطفل مالا وعقارا وضياعا، ولما صار يافعا أخذ يضيع هذه الثروة، فأسرفها على اللهو والعبث. راح يمضي وقته في التسكع مع خلانه ويرتدي أفخر الثياب، ولم يهتم لما يفقده، وظن أن حاله الميسور سيدوم وغناه لن يفنى إلى أن بدأ يشعر بالحاجة والعوز وأدرك أن ماله ينفد وأصحابه غدوا يتفرقون من حوله، فأخذ يفكر جديا بمصيره وتغير حاله.

قام السندباد بجمع ما بقي عنده من لباس فاخر وعقار وباعه حتى جمع ثلاثة آلاف درهم وأخذ يفكر في السفر والبحث عن عمل يفيده ويعيد إليه ما أضاعه طيشا.

اشترى بضاعة ثم ودع أهله ونزل إلى البحر وركب مركبا متوجها لمدينة البصرة مع جماعة من التجار وأبحر منتقلا من مكان لآخر. وكلما مر بجزيرة أو مدينة يتوقف فيها مع التجار، فيبيعون ويشترون ويقايضون  السلع إلى أن وصلوا إلى جزيرة خضرة نظرة، فرسا بها المركب ونزل جميع الركاب، وصاروا يتجولون في الجزيرة وصاروا يقطفون الثمار، ومنهم من اصطاد السمك فأشعلوا النيران لطبخه واجتمعوا على الطعام والشراب والتندر.

أما السندباد فقد بقي يتفرج على البحر في جانب الجزيرة، ورأى شجر القرم الذي يساعد في تثبيت التربة، ويعتبر مأوى طبيعيا للأسماك والكائنات البحرية وعشا لتفقيس الطيور. كما يستعمل في صناعة المستحضرات الطبية والغذائية لما له من خصائص وقائية واحتوائه على الفيتامينات. وأعجب بأشجار المنجروف الرمادية الاستوائية التي تستطيع التعايش مع درجات الحرارة المرتفعة والمنخفضة فضلا عن تحملها الملوحة الشديدة.

وبينما كان السندباد يستمتع بالطبيعة الخلابة من حوله، إذا بصاحب المركب يصيح بصوت عال :”أيها الركاب.. السلامة.. أسرعوا، هيا اصعدوا على ظهر المركب واتركوا كل شيء، انجوا بأرواحكم، فهذه اليابسة ليست جزيرة إنما هو حوت كبير نائم تجمع عليه الرمل فنبتت عليه الأشجار منذ زمن، والآن بعدما أوقدتم النيران أحس بحرارتها وهو يتحرك، هيا أسرعوا قبل أن يغطس فتعرقون جميعا”.

فلما سمع الركاب ذلك ارتعبوا وهرعوا للحاق بالمركب ومنهم من نجح، ولكن الجزيرة تحركت ونزلت لأعماق البحر بمن بقي عليها ومن بينهم السندباد الذي بدأ يصارع الأمواج المتلاطمة. وإذا به يجد قطعة خشبية كبيرة فمسكها وركب فوقها وأخذ يجذف برجليه والمد يسحبه وهو ينظر إلى المركب يبتعد حتى اختفى عن ناظريه فأيقن حينها بهلاكه.

بقي سندباد يبحر مدة يوم وليلة، ودفعت به الريح ومد الموج إلى جزيرة عالية أشجارها مطلة على البحر. تمسك بعرف متدل من الشجر، وتسلق حتى وصل إلى اليابسة واستلقى، فغلبه النوم من شدة التعب. ولما طلعت شمس اليوم الموالي، انتبه وشعر بألم في رجليه اللتين تورمتا بسبب ما أصابه من خدوش وجراح أثناء غرقه واصطدامه بالأشجار والحجارة وغيرها من الجمادات القاسية. فأخذ يحبو على ركبتيه حتى وصل إلى الأشجار المثمرة، فوجد فواكه متنوعة من موز وجوز الهند ومنجا وغيرها من الثمار، كما عثر على عيون ماء عذب زلال. فبقي أياما هناك وهو يتقوت ويعالج جروحه بالنباتات إلى أن شفي واسترد عافيته وقوي جسده وصار يتمشى في الجزيرة ويحمد الله على النجاة ويستحضر عظمته في خلقه لمثل هذا المكان الرائع وكأنه روضة من الجنان.

بقي سندباد يتجول على الجزيرة ولمح ظلا يتحرك من بعيد، فأوجس خيفة ظنا منه أنه من الدواب المفترسة. فأخذ يدقق النظر فإذا به فرس عظيم مربوط على جانب الجزيرة فتمشى نحوه. ولما وصل إليه، صهل الفرس، فإذا برجل يخرج من تحت الأرض وقال مخاطبا السندباد:” من أنت ومن أين جئت ولماذا أنت هنا؟” رد السندباد:” اعلم يا سيدي أني رجل غريب وكنت في مركب وغرقت أنا وبعض من كان فيها فرزقني الله بقطعة خشب ركبتها إلى أن وصلت إلى هذه الجزيرة”. أمسك الرجل السندباد من يده وقال له:”هيا معي.”

نزل سندباد مع الرجل إلى سرداب تحت الأرض، ودخلا قاعة كبيرة حيث جلسا وتناولا الطعام معا، وبعدها أخبر السندباد الرجل بقصته كاملة ثم سأله:” لا تؤاخذني يا سيدي، ولكن ما سبب جلوسك في هذه القاعة التي تحت الأرض؟” فقال الرجل:” إننا جماعة متفرقون في هذه الجزيرة على جوانبها، ونحن نعمل عند الملك، وقد كلفنا باصطياد حوت كبير جدأ له فوائد عدة كما يوفر الطعام لكل أهل المدينة. هذا الحوت لا يظهر إلا في هذا الوقت من السنة ويحب افتراس الخيول، وعليه فإننا نضع له هذه الفرس كطعم، فإن ظهر هجمنا عليه واصطدناه. والآن ابق معي، وعندما تنتهي مهمتنا أصطحبك معي إلى الملك. فلا أحد يسكن في هذه الجزيرة المهجورة.”

بقي سندباد في السرداب مع الرجل حتى سمعا صهيل الفرس، فأسرعا للخروج، فرأيا حوتا ضخما. لحقت بهما بعد ذلك مجموعة من الرجال بالرماح وصوبوها نحو الحوت حتى وقع ميتا، فقاموا بتقطيع لحمه وجمعة داخل أكياس كبيرة، وحملوها على سفينة كبيرة ورحل الجميع باتجاه المدينة.

وأخبرهم السندباد بقصته فاندهشوا كيف تمكن من النجاة والوصول إلى تلك الجزيرة التي لم يزرها أحدا غيرهم.

لما وصل الرجال إلى المدينة، ذهبوا إلى الملك وأعلموه بقصة السندباد، فطلب رؤيته فأدخلوه عليه وأوقفوه بين يديه وقد كان متعجبا مما جرى له فقال:” يا ولدي والله لقد رافقتك السلامة، ولولا طول عمرك ما نجوت من هذه الشدائد، ولكن الحمد لله على سلامتك” ثم أحسن إليه وأكرمه وجعله عاملا في ميناء البحر وكاتباً على كل مركب يصل البر، و قابل السندباد هذا الإحسان بالشكر والعرفان والعمل بإتقان وكله أمانة وشرف.

وكلما دخلت سفينة جديدة المدينة، كان السندباد يسأل التجار والمسافرين والبحارة على متنها عن ناحية مدينة بغداد لعل أحداً يعرفها فيعود معه لموطنه، ولكن للأسف لم يعرفها أحد. فسئم من طول الغربة، وبقي على هذه الحال مدة من الزمن إلى أن وقف ذات يوم كعادته ليستقبل مركبا جديدا ويسجل ما عليه، فقال له صاحب المركب :” اكتب ما شئت لكن معي بضائع في بطن المركب لا تقربها، فصاحبها غرق معنا في البحر على إحدى الجزر، وصارت بضائعه أمانة عندنا فغرضنا أن نبيعها ونأخذ ثمنها لأجل أن نوصله إلى أهله في مدينة بغداد”. فسأله السندباد:” وما اسم الرجل؟” رد رئيس المركب: ” اسمه السندباد”. لحظتها صاح السندباد بأعلى صوته:” الحمد لله، إني صاحب البضائع التي ذكرتها، أنا السندباد البحري الذي نزلت برفقته من المركب في الجزيرة مع جملة من نزل من التجار، ولما تحركت السمكة التي كنا عليها وصحت علينا طلع من طلع وغرق الباقي وكنت أنا من جملة من غرق، ولكن الله تعالى سلمني ونجاني من الغرق بقطعة كبيرة من الخشب، فركبتها وصرت أرفس برجلي وساعدني الريح والموج إلى أن وصلت إلى جزيرة مهجورة. لقد ساعدني بعض عمال الملك للوصول إلى هذه المدينة، ولما أخبروا الملك بقصتي أنعم علي وجعلني كاتباً على الميناء، فصرت أنتفع بخدمته وصار لي عنده قبول، وهذه البضائع التي معك بضائعي ورزقي.”

فقال رئيس الركب مستاء:” لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما بقي لأحد أمانة ولا ذمة”.

فقال السندباد:”ما سبب قولك ذلك؟” فأجابه: “لقد سمعتني أقول أن معي بضائع صاحبها غرق فتريد أن تأخذها بلا وجه حق، وهذا حرام عليك، فقد رأيناه لما غرق وكان معه جماعة من الركاب كثيرون وما نجا أحد”. فقال السندباد:”اسمع قصتي و افهم كلامي يظهر لك صدقي، فإن الكذب سمة المنافقين”. وأخذ السندباد يروي له كل ما وقع له من حين خرج من مدينة بغداد إلى أن وصل إلى تلك الجزيرة التي غرق فيها، وأخبره ببعض أحوال جرت بينهما شخصيا فتحقق رئيس المركب والتجار من صدقه فعرفوه وهنؤوه على النجاة وقالوا له:”والله ما كنا نصدق بأنك نجوت من الغرق ولكن رزقك الله عمراً جديداً”.

ثم أعطوه بضائعه كاملة لم ينقص منها شيء، ففتحها وأخرج منها شيئاً نفيساً وحمله بمعية بحارة المركب، وصعدوا به إلى الملك كهدية شكر لحسن استضافته للسندباد ومعاملته الحسنة. علم الملك أن المركب التي كان على متنها السندباد دخلت المدينة. قتعجب من ذلك وسعد بالخبر رغم حزنه على رحيل السندباد فأجزل له العطاء.

ولما أراد تجار المركب السفر، شحن السندباد جميع متاعه وتوجه إلى الملك وشكره على فضله وإحسانه ثم استأذنه في العودة إلى بلاده وأهله. فودعه وسافر حتى وصل بالسلامة إلى مدينة البصرة، وبعد ذلك توجه إلى مدينة بغداد دار السلام ومعه السلع والمتاع والمال الوفير.  فدخل بيته فجاء جميع أهله لرؤيته ولم يصدقوا رجوعه بعدما طالت غيبته عنهم فسروا به وأقاموا له وليمة كبيرة دعوا إليها الأهل والأصحاب وقص عليهم السندباد كل الأهوال التي مر بها وكيف كتب الله له النجاة.

البحث في Google:





عن ليلى جبارة

متحصلة على شهادة ليسانس في علوم الإعلام والاتصال، تخصص اتصال وعلاقات عامة، جامعة الجزائر 2005. باحثة في شؤون الأسرة والطفولة. مشرفة على القسم الاجتماعي في جريدة البيان سابقا، وصحفية في أسبوعية الشروق العربي سابقا، وكاتبة صحفية في جريدة البصائر سابقا. كاتبة صحفية في موقع زاد دي زاد بوابة الصحافة الجزائرية.

تعليق واحد

  1. دنيا قمر

    حكاية جمييلة وافكار أجمل سلمت يداك في انتظار الرحلة الثانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *