ممارسات تدريسية تأملية نحو تعليم أفضل

” لقد مضى وقت طويل منذ أن أخبرت نفسي ما الذي أحتاجه حتى أصبح معلمة أفضل، بعض المشكلات التي تواجهني لا أعيرها اهتماماً حتى أتأمل في أسبابها وأقترح لها حلولا، ومحاولتي التعرف على نقاط قوتي وضعفي في ممارستي لمهنة التدريس يجعلني ملتصقة بدوامة العمل 24 ساعة “.
كانت هذه الجمل لمعلمة في حوار طويل دار بيني وبينها منذ فترة طويلة تقارب العشر سنوات، وما دفعني لاسترجاعه هو أن نفس الحوار تكرر مؤخراً مع معلمة أخرى. وإن اختلفت الجمل بعض الشيء!
بعد استيعابكم لما ذكرته سالفًا، دعوني  أطلعكم على بعض التساؤلات التي ألحت عليّ:
هل يُعد تأمل المعلم لممارساته التدريسية مطلبا ضروريا في ظل تطور مهام المعلم في وقتنا الحالي؟ وهل نستطيع القول أن ما بين اليوم والعشر سنوات التي مضت فرق كبير في الخبرات والتطورات في مجال التعليم؟!

مهارات التفكير التأملي حاجة أم ترف…

عندما يفتقر المتعلم إلى مهارات التفكير التأملي والتي تكمن في: التأمل والملاحظة، والاتصال ووضع حلول مقترحة، واتخاذ القرار، وغيرها من المهارات؛ فلذلك ارتباط مباشر وعلاقة وثيقة بعدم وجود تلك المهارات عند المعلم نفسه؛ ومن هنا يجب على المعلم أن يأخذ في حساباته أن تنمية تفكيره التأملي يجب أن يحتل جزءا كبيرا من جهوده المبذولة.

وقد أكدت العديد من الدراسات على أهمية إكساب المعلمين مهارات التفكير بشكل عام، ومهارات التفكير التأملي بشكل خاص، منها دراسة المرشد (2014م)، ودراسة الأستاذ (2011م).
كما أن التفكير التأملي يزيد من فاعلية المعلم والمتعلم أثناء أداء العملية التعليمية؛ مما دعا العديد من التربويين إلى تقديم نظريات تطبيقية فعالة؛ لاستخدام التفكير التأملي في مجال التربية والتعليم منها: نظرية شون، الذي أكد على أن العملية التأملية مبنية على الخبرة المهنية، حيث يقوم المتأمل بالتعمق من خلال تفكيره في العمل وفي المسائل المعقدة، والسعي لمعرفة المشكلات والحلول وإعطاء التفسيرات المقنعة، بل إن هذه النظرية أُضيف إليها بُعدٌ اجتماعي يؤكد على أن هذا التأمل إن كان يدور في جماعات فهو يعطي نتائج أفضل مما لو كان يدور بشكل فردي، ونظرية سولومون التي تقول بإمكانية تنمية التصور الإدراكي لدى الأطفال من خلال التعلم والتدريب وذلك عن طريق تزويد الموقف التعليمي بالوسائل اللازمة وتهيئة الفرص المناسبة التي تنمي التصور لديهم، وبالتأكيد لن يتم ذلك دون معلم مفكر متأمل.

وكذلك سلسلة الدراسات التي أجراها كاجان وزملاؤه أثناء عملهم (التأملي مقابل الاندفاعي) والتي توصلوا من خلالها إلى وجود ميل من قِبل الأفراد ذوي الاتجاه التأملي إلى تأخير الاستجابة التي تصدر منهم، أي أنهم يميلون إلى تأمل البدائل المتاحة للحل في أية مواقف إدراكية يواجهونها، بينما هناك أفراد آخرون يعملون وفق فرضية تدخل في أذهانهم ويجيبون عن الأمثلة ثم يبحثون قليلا فيما إذا كانت إجاباتهم صحيحة أم لا، وأكد كاجان أن أفراد النمط الأول يرتكبون أخطاء قليلة بينما يرتكب أفراد النمط الثاني أخطاء أكثر عددا من أخطاء النمط الأول في محاولتهم الوصول إلى الإجابة الصحيحة.

 وكذلك دعا التربويون إلى العديد من الاستراتيجيات التي تدعم التأمل في التدريس من ضمنها: استراتيجية التعلم التأملي أو الانعكاسي، التي يستطيع المعلم من خلالها أن يوفر فرصة للمتعلمين في تأمل كل خطوة صغيرة أو كبيرة يقومون بها خلال تعلمهم، وذلك بطرح أسئلة تجعله ينظر لعمله بعين الناقد.

المعلم المتأمل مطلب حقيقي…

نَعم، المعلم المتأمل مطلب حقيقي، لأن أداء المعلم  للتأمل يربط جميع ممارساته التدريسية ببعضها من خلال تأمله في جميع جوانبها، حتى تنشأ بينها علاقات و روابط قوية تمكنه من تحقيق تعليم أفضل لمتعلميه، هذه العلاقات كما أتصورها تؤكد على ارتباط عملية تأمل المعلم بالإجراءات التي يقوم بها حتى يحقق تعلما أفضل لمتعلميه؛ وذلك لأنه يخطط دائما ويراقب دائما ويقيّم العمليات التي يقوم بها، مما يساعده في اتخاذ القرارات الخاصة بالإجراء الذي تم تنفيذه، وكذلك ارتباطها بعناصر المنهج ككل دون انفصال، من أهداف ومحتوى واستراتيجيات وتقويم ومتعلمين.

وختاماً.. لا بد لنا من أن نتساءل كيف سنصل بالتعليم إلى تحقيق غاياته دون معلم يعي تماماً كيف يتعلم المتعلمون، وكيف ينمي كل فرد منهم قدراته واستعداداته، ذلك المعلم القادر على توفير فرص تعلم تساعد نموه العقلي والاجتماعي والشخصي، ووضع خطوات منطقية لحل المشكلات التدريسية التي تواجهه.

ودعوني أعود بكم لبداية  المقال وأجيب عن التساؤل الثاني: نعم، ما بين اليوم والعشر سنوات التي مضت فرق شاسع في التطورات. وما يتطلبه منا التعليم اليوم أكثر مما كان ينتظره منا سابقاً، فلا بد لنا أن ندرك أن التفكير انتقل من المرحلة التنظيرية إلى التطبيق، وأن أي منهج دراسي مهما بُذل في إعداده من مجهود لن يصل لتحقيق أهدافه دون معلم ذهين مُفكر قادر على تكوين هويته المهنية، قائماً على إعداد نفسه لأن يكون معلما تأمليا في ذاته وتكوينه الشخصي، بما يحمله من أفكار ومعتقدات، وأصول وثقافة ويقارنها بالبيئة التي يعمل بها ويدرس فيها، كل ذلك حتى يقدم للمتعلمين تعليما أفضل ويضمن لهم نوعية من المعرفة تواكب العصر الذي يعيشونه.

 

 


المراجع:

– الأستاذ محمود حسن، 2011م، مستوى القدرة على التفكير التأملي لدى معلمي العلوم في المرحلة الأساسية بغزة، مجلة جامعة الأزهر، غزة، 13 ( 1)، 1329- 1370.

– المرشد، يوسف بن عقلا، 2014م، مستوى التفكير التأملي لدى طلاب جامعة الجوف: دراسة مستعرضة، مجلة جامعة طيبة للعلوم التربوية، جامعة طيبة، 9 ( 2 )، 163- 184.

– السفاح، رغداء حمزة، (2013م)، أثر أسلوب المراجعة الذاتية لذوي المجال (التأملي مقابل الاندفاعي) في تقويم سلوك الطالبة وتعلم بعض المهارات، مجلة علوم التربية الرياضية، 2 (6). 228-356.

 

البحث في Google:





عن سعادة المحيميد

باحثة دكتوراه في المناهج وطرق التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية.

تعليق واحد

  1. وفاء معتوث

    جزيتي خيرا مقال جدا جميل ورائع استفدت كثيرا منه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *