الإصغاء الفعال

الإصغاء الفعال شرط نجاح العلاقة التربوية

” كل شخص هو مخلوق فريد من نوعه، مستقل بذاته، حر ومميز”

مقدمة

يعتبر الإصغاء من دعائم التواصل التربوي، فإذا غاب أو ضعف انقطع التواصل، وأصبحت العملية التعليمية فارغة من بعدها الإنساني والتربوي. ويُحدث هذا الخلل ردود فعل من طرف المتعلم غير منتظرة، قد تكون دفاعية أو يائسة أو مشوبة بخيبة أمل أو حتى عدائية. لهذا يشكل غياب الإصغاء في الفضاء التعليمي بشكل مستمر إحدى عوائق التواصل ولعله أهمها، فالهدف من العملية التعليمية تفاعلي بالدرجة الأولى، ويبرز أساسا عبر الإصغاء الجيد لما يبوح به الطالب.

1- مفهوم الإصغاء الفعال

الإصغاء الفعال من الفنون اللغوية ومن أبرزها في التوجيه وأداة المربي في تنمية الاتجاهات الإيجابية لدى الطلاب. كما يعني الاستماع ومرافقة المصغَى إليه  في التعبير عن مشاعره وانفعالاته، والبحث عن فهم الواقع الانفعالي لشخص دخل في حوار مع المربي أو المرشد أو المساعد. ويقوم الإصغاء الفعال على تبني اتجاهات ومواقف واستعمال تقنيات معينة في محاولة فهم الآخر فيما يعيشه داخليا قصد تأطيره ليعي بنفسه، وبما هو في حاجة إليه، وبانتظاراته، وبإمكانياته. وعلى المربي مسايرة وتتبع المتعلم، لا قيادته، مساعدته على تحمل مسؤولية نفسه وتقبل ذاته. لهذا يعد الإصغاء والحوار الثنائي وجها لوجه أبرز نقطة انطلاق في كل مساعدة تربوية، وتتيح علاقة قوامها الثقة والاطمئنان مع المتعلم، إذا رغبنا في إخراجه من “صندوقه” وانغلاقه، من أجل إعانته على ملامسة مشاعره وانفعالاته ومواقفه وسلوكاته، والإصغاء الانساني والفهم الجيد لما يقوله وما يعيشه يسمح للمتعلم بأن يجد طريقه دون الخضوع إلى  التقييم أو الأحكام المسبقة.

2- الإصغاء الفعال علاقة مساعدة

عندما يقوم المربي بالإصغاء، يكون اهتمامه مركزا على الحاضر المعاش، وفك رموز ما هو انفعالي؛ ويجب معرفة ما عليه فك رموزه مما بلغه في رسائل الحوار، وتبئير اهتمامه على ما هو مهم فيها. والاشتغال على القيمة الانفعالية التي يعطيها المخاطب أو المتعلم للأحداث والوقائع التي هي طبعا حيادية. والمربي عندما يصغي، لا يقيم الدليل على أي شيء، ولا يرغب في تفسير أشياء للمخاطب ولا يود اقناعه بشيء ما، يقبل فقط ما يصرح به ، ولا يحاول كذلك ايجاد حلول لمشاكله.

تتكثف مهمة المصغِي أساسا في تيسير الأمر على المتكلم، لسبر أغوار معاشه الانفعالي، ومعرفة نفسه بطريقة أفضل، والتكفل أحسن بذاته. هذا لا يعني أنه ينجز العمل في مكان المخاطب، بل يجعله في وضع مريح يخول له القيام بعمله. مثلا، إذا أتحنا له الفرصة المناسبة لتبويب وتصنيف ومراجعة ما يعيشه، نكون قد مكناه من التعرف إلى إمكانياته من جديد. بعبارة أخرى، المصغِي ليس حكما ولا مستشارا، إنه شخص بما يمتلك من خصائص ومهارات ميسرة لاستقبال الآخر بكل احترام ودعوته للانفتاح والتعبير بكل ثقة عن المشاعر التي يحس بها تجاه الوضعية التي يعيشها، وهذا قصد تمكينه من تجويد إدراكه لما يرغب فيه وما هو قادر على فعله حتى يتسنى له تحسين وضعيته.

يلخص الجدول الموالي أهم لحظات الإصغاء الفعال:

المصغي ليس هو الذي…. بل الذي…
يقدم أفضل النصائح يحاول فهم الآخر
يعرف كيف يحل المشاكل يشجع المخاطب على الكلام فيما يعتبره هاما
يعرف كيف ينقذ المظاهر يترك المكان لمخاطبه
يكشف عن شيء ما أو يعلم يتبع خطى الآخر فيما يعتبره هاما
يقود نحو هدف أو غاية ما يرشد الآخر لاكتشاف طريقه
يختار في مكان الشخص المقابل يحترم اختيارات الآخر وتمشياته

3- شروط الإصغاء الفعال

تتمثل الوضعية المناسبة للإصغاء النشط في مجموعة من الشروط الأساسية، منها:

الصدق: على المربي أو المصغِي أن يعي بمشاعره (وضعيته- دوافعه- حدسه)، والأخذ في الاعتبار عدّة عوامل خارجية، مثلا: هل هو في مكان عمومي أو في مؤسسة تربوية أو صحية؟ هل توجد ضغوطات ما؟ من المهم جدا الشروع في الإصغاء بطمأنينة عميقة وراحة نفسية، تجعله يتكلم بطريقة بسيطة ومهذبة. مثلا، إذا لم يفهم ما قاله الطالب، يطلب منه بكل لطف إعادة كلامه، لكن دون تأويل ما وصل إلى آذانه، فالصدق في وضعية الإصغاء ليس التصريح بالرأي، أو التوبيخ، أو إصدار حكم، أو إطلاق تقييمات على الشخص المقابل.

التفهم: هو الإدراك السريع والفهم داخليا لما يعيشه الطرف المقابل، إنه الإصغاء من أجل الفهم، وكأننا في مكان الآخر؛ هو أيضا التعرف على ما يقوله الآخر وما يعيشه، مع بيان أن ما هو آت من المتحدث لا ينبع منا وما هو نابع منا لا يكون مصدره المتحدث. لنكون متفهمين، علينا أن نركز على الواقع المعاش للمصغى إليه، مع احترام المسافة (غير المعاش يوضع جانبا). من أجل فهم واكتشاف وسبر أفضل لواقعه ، لا يكون التفهم ممكنا إذا:

  • وضعنا مشاعرنا وأحاسيسنا في المرتبة الأولى.
  • إذا حكمنا على المخاطب.
  • إذا تركنا عواطفنا وانفعالاتنا تغمرنا عند سماع ما يسر به الطالب لنا.
  • إذا صغرنا أو انتقصنا من مشاعر الشخص المقابل.

الاستقبال: اتخاذ المربي وضعية وإبداء حركات سلوك تمكن المتعلم من الشعور بحسن الاستقبال، وتضعه في فضاء يحس فيه بالارتياح على امتداد المحادثة، ويبرهن على قدرته على خلق مناخ يزرع الشعور بالثقة في نفسه. تكون للمصغِي مقدرة على الاستقبال حين يجعل المصغَى إليه يشعر بأن حضوره غير مزعج، وتعديل نبرة الصوت على نبرات صوت المخاطب، وعندما لا يصدر حكما يقضي بأهمية أو عدم أهمية “ما يحكى له”، وعندما يفتح أبواب الثقة المتبادلة.

الاحترام: يتمثل في استقبال الطالب كما هو، بغض النظر عن كل الاختلافات، والامساك عن اصدار أي حكم، أو توبيخ أو انتقاد مهما كان طبيعته، والاعتراف له بقيمته كاملة كإنسان يستحق أن يعامل بكل تقدير وأن يتمتع بالشعور بالكرامة. هناك ثلاث درجات من الاحترام:

  • تقبل الشخص، بمعنى إبداء وضع متفتح تجاهه.
  • تقبله كما هو وبكل ما يجعله مختلفا (وبانتظار وقوع أي تغيير محتمل، إذ كلنا نعيش باختلافاتنا، بآراء مختلفة، وسلوكات مختلفة، وأذواق مختلفة…)
  • بذل الجهد لفهم الآخر فيما يعيشه، وهذا يعني احتراما حقيقيا إذ أننا نقترب من الشخص في محاولة فهمه.

4- تقنيات الإصغاء الفعال

التقنيات هي وسائل أو مهارات تستعمل خلال الإصغاء الفعال، أشار إليها (كارل روجرس) مؤسس علم النفس الانساني، و فيما يلي سبع تقنيات لا يمكن الاستغناء عنها عند تعاطينا الاستماع الجيد:

  • الانعكاس: تكمن في إعادة ما قاله المتكلم حول انفعالاته وأحاسيسه، لكن بكلمات وألفاظ أخرى لكي يعي الطالب أن المصغِي يحاول فهمه، وأنه يؤدي دور المرآة للمعاش الانفعالي، والاهتمام لا بما هو شفوي فقط (المنطوق به) لكن أيضا بغير الشفوي (الكلام المصرح به لا يكون دائما صريحا وبينا). بفضل هذه التقنية، يمكن مسايرة المتعلم فيما يعيشه، وغاية الانعكاس هي فك رموز المحكي. لا يحتوي الانعكاس على كثير من التدخلات، ويقتصر على توضيح ما هو بصدد الوقوع، وهو أنجع طريقة وأبسطها لإثارة المسارات الاستكشافية لدى الشّخص وتنشيطها.
  • إعادة التعبير: تتمحور في إعادة المصغِي ما قاله المراهق بعبارات وكلمات مغايرة، حول وضعية أو أحداث ليبرهن له عن فهمه الجيد لما قيل، وإذا أخطأ يقوم بإصلاحه، مثلا: “قلت إذا…إذا لم أخطأ الفهم ف… ما تريد قوله هو… هل صحيح أن… إذا، يبدو لي أن… قد أكون أدركت أن…” تسمح إعادة التعبير أو الصياغة بتبليغ المحتوى الانفعالي للرسالة كما وقعت في مسامع المصغِي إلى المراهق.
  • الأسئلة المفتوحة والأسئلة المغلقة: السؤال المفتوح تقنية تتيح طرح سؤال على المصغَى إليه للحصول على رد يحتوي على تفاصيل وبتوسع. يمكن استغلال الأسئلة المفتوحة كما يلي: “بماذا تشعر وأنت تعيش…؟” “ماذا تريد بقولك…؟” ” كيف ترى الأمور…؟”” حدثني عن هذا…؟”. ينبغي تجنب “هل…؟” أتعتقد أن…؟ إذ أن هذا النمط من الأسئلة غالبا ما يولد ردودا “بنعم أو لا”. أما السؤال المغلق فيهدف إلى الإحراز على إجابات مقتضبة وواضحة، تستعمل الأسئلة المغلقة كالتالي: “هل أنت منفعل…؟” “هل تشعر بالارتياح…؟ هل يروق لك ذلك…؟ هل بإمكانك التحدث أكثر في هذا…؟”. من الأفضل تجنب قدر الامكان طرح السؤال “لماذا؟” إذ يتعلق ذلك بميدان الدافعية وربما اللاشعور الذي قد يحيل الإصغاء إلى غير المقصد.
  • الصمت: يوجد نوعان من الصمت:

الصمت الفارغ: إحساس بأن “لا وجود لمن تنادي”، مع دعوة ملحة إلى تغيير موضوع النقاش، أو القفز من موضوع إلى آخر لا تربط بينهما أية علاقة، مما يخلق شعورا بالقلق والحرج.

الصمت الزاخر: حين يكون الشخص أو المتعلم بصدد التفكير، ويحاول تشريح مشاعره وعواطفه، من الضروري عدم وضع حد لصمت زاخر أو اختراقه.

  • التخصص: عبارة عن مهارة يقوم المصغِي بواسطتها إلى دعوة المتعلم إلى مزيد توضيح أقواله، وابراز بعض المظاهر مما جاء فيها، إنه الوسيلة المثلى للتدليل عن الانفعالات وعلى ردود الفعل تجاه انفعال ما: “قلت أن…ما كان وقع ذلك عليك؟” ” ذكرت أنك شعرت بعدم الارتياح، بماذا أحسست؟ أي شعور انتابك عندها؟”. ويتضمن تركيز “العدسة” على ما هو هام في وضعية المحاورة، مثل، “لقد كلمتني عن… وذكرت أن … ما يؤلمك أكثر الآن؟”، ودفع المتحدث إلى توضيح أقواله: “لم أفهم جيدا ما قلته عن…” هل بإمكانك أن تفسر ما أردت قوله عندما…”. ويتمثل في المرور من العام إلى الخاص: “قلت أن الناس… ما يزعجك في ذلك؟”، “ذكرت أن عديد أشياء حدثت لك… ما هو أصعب ما في هذه الأشياء؟” “كل النّاس… وأنت؟”، ” دائما” “ماذا تقصد بهذه العبارة؟ “أيعني هذا 24 ساعة على 24 ساعة؟”، “أبدا” “ماذا تقصد بأبد؟” “أتريد القول بأن ذلك لم يحصل البتة؟”، “هم” ” من تنعت ب “هم” من المقصود؟ أتريد الكلام عن شخص ما؟”.
  • التذكير بالحاضر: تقنية تعتمد قدرة المصغِي على العودة بمحاوره إلى اللحظة المعاشة، وإلى السياق المادي، ليتمكن من الوعي بواقعه الحالي، دون انفصال عن ذكريات الماضي أو طموحات المستقبل.
  • المواجهة: وهي تقنية المقارنة، وضع عنصرين أو معطيين مما صرح به المتعلم، جنبا إلى جنب، لاستخراج المفارقات والتناقضات بينهما، ويبرز المصغِي ما هو غير ملائم في  السرد، مثلا: “ذكرت منذ دقائق أنك لا ترغب كثيرا في الحديث إلى أمّك والآن تقول أنك متشوق لمعرفة رد فعلها نحو ما تعيشه الآن”، “تقول أنك لا تشعر بالحزن لكن نبرات صوتك تقول عكس هذا…”. تستثمر تقنية المواجهة في:
  • مساعدة الشخص على ملامسة تناقضاته.
  • مساعدة الشخص على مشاهدة نفسه بوضوح.
  • مساعدة الشخص على جعل أهم ما بداخله يطفو على السّطح.
  • جعل الشخص يدرك أننا نصغي إليه بكل انتباه واهتمام.

يقع التعبير على المواجهة بكل لطف، وبدون تضييق الخناق على الآخر ومحاصرته، لا نواجه الشخص، لكن نقوم بتبيين ما هو غير ملائم في صلب الخطاب.

خلاصة

يستوجب ممارسة الإصغاء الفعال المكان الملائم والتوقيت المناسب، والطلب الواضح، لا يمكن الإصغاء حين تقتصر رغبة المتعلم على مجرد طلب معلومات أو دعوة إلى تدخل سريع، أو عندما يكون سلوك الشخص غير ملائم (سب- شتم- عنف)، أوحين يكون الشخص تحت تأثير مخدرات، أو في حالة انهيار عصبي.

البحث في Google:





عن د. محرز صالح الدريسي

دكتوراه في علم النفس التربوي، شغل منصب مدير عام المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية في تونس، مستشار عام في الإعلام المدرسي والجامعي بوزارة التربية التونسية. عمل مستشارا لكل من وزيري الثقافة والتربية، وعضوا في عدد من المجالس العلمية لمؤسسات عمومية وفي لجان قيادة المشاريع التربوية، شارك كمدرب وخبير في عشرات المؤتمرات العربية والدولية في قضايا التربية والثقافة، لديه عدّة مقالات وترجمات منشورة في مجلات عربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *