التعليم عن بعد

التعليم عن بعد و عائق الفضاء المفتوح

فرضت جائحة كورونا التي يعرفها العالم منذ مارس المنصرم على المستوى التربوي الانتقال من التعليم الحضوري إلى التعليم عن بعد، نتيجة الاحترازات الصحية التي اتخذت من أجل تجنب انتشار الوباء على نطاق واسع، وتفادي تفاقم الوضع حتى لا نكون أمام كارثة إنسانية. وفي هذا الصدد لجأت دول العالم إلى إغلاق المدارس وفي مقدمتهم المملكة المغربية.

وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم التعليم عن بعد لم يأت بشكل مفاجئ بسبب الجائحة كما تصوره البعض، وإنما تناوله إعلان إنشيون، الذي عقد في شهر ماي 2015، بجمهورية كوريا، بناء على دعوة المديرية العامة لليونسكو، الرامي لتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة – التعليم بحلول 2030 [1]. ويستند التعليم مدى الحياة في جوهره إلى المزج بين أنماط التعلم، ويشمل أنشطة التعلم التي يمارسها الناس من شتى الأعمار في شتى مناحي الحياة، كما يستند هذا الإعلان على الالتزام التاريخي من الجميع بتغيير حياة الناس بفضل رؤية جديدة للتعليم، واتخاد تدابير جريئة ومبتكرة ترمي إلى مفهوم التعليم مدى الحياة، وذلك من خلال سبل غير نظامية تحظى بموارد وآليات ملائمة باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال.

وتناولت المنظومة التربوية المغربية التعليم عن بعد من خلال عدة وثائق، بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين 1999، الذي يحدد الاختيارات العامة لإصلاح النظام التربوي، ومرورا بالرؤية الاستراتيجية 2015-2030، ووصولا إلى القانون الإطار رقم 17-51[2]، مما يدل على اهتمام المنظومة التربوية المغربية بهذا النوع من التعليم على الأقل من ناحية التصور والتنظير.

وكما أشرنا سابقا أنه تم الانتقال من التعليم الحضوري إلى التعليم عن بعد، رغم التباين بين خصائص كل نمط. فالتعليم الحضوري هو التعليم الذي يحصل فيه الاتصال بين المتعلم والمدرس في قاعة الدرس حسب جدول زمني محدد باستخدام وسائل وأدوات مختلفة في مقدمتها السبورة والكتاب المدرسي… و في وجود أطراف متعاقدة بيداغوجيا وديداكتيكيا، يحكمها ميثاق وقواعد وجب الانضباط لها، هذا التعاقد يحكم وينظم السلوكات ومختلف التفاعلات التي تتم بين المدرس ومتعلميه، مع احترام النقل الديداكتيكي للمعرفة الأكاديمية وتحويلها إلى معرفة قابلة للتدريس وفق تصورات منهاج المنظومة التربوية، بحيث يكون المتعلم محور العملية التعليمية التعلمية، والمدرس فقط  موجه ومرشد ومنشط.

ويتيح هذا التعليم التنزيل الفعلي لمخرجات الميثاق الوطني وباقي الوثائق التربوية الرسمية، وفي مقدمتها اعتماد المقاربة بالكفايات التي ترتكز على أسس نظرية وبيداغوجية، كالبيداغوجيا الفارقية التي تؤكد على وجود فوارق بين متعلمي الفصل الواحد؛ مما يجعل المدرس يفتح المجال لجميع المتعلمين لبلوغ الأهداف المنشودة، ولن يتحقق ذلك إلا بتنويع العمليات والطرائق والوسائل التي يمكنها أن تستجيب لتنوع حاجات المتعلمين من أجل الوصول إلى نفس الهدف.

كما يتيح التعليم الحضوري التعامل مع الخطأ بكل عفوية وتلقائية، وجعله لحظة هامة في البناء، اعترافا بحق المتعلم في التعلم بالخطأ، وفي هذا السياق يقول غاستون باشلار: “إننا نعلم على أنقاض المعرفة السابقة، أي على أنقاض المعارف التي لم نحسن بناءها… بذلك وجب على المربين أن يعلموا للتلاميذ اعتمادهم على هدم أخطائهم”.[3]

كما يتم التعامل مع التقويم في هذا النمط من التعليم باعتباره جزءا لا يتجزأ من العملية التعليمية، لأنه الموجه لمسار التعليم والتعلم الهادفين إلى تحقيق النتائج الإيجابية، من خلال تتبع عمل المتعلمين ومساعدتهم على التطور والارتقاء في مدارج التعلم والتحصيل، هذا من جهة ومن جهة أخرى ييسر التعليم الحضوري التفاعلات السوسيوثقافية والعاطفية-الوجدانية بين المتعلمين فيما بينهم من ناحية وبين المتعلم والمدرس من جهة أخرى. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة في ظل هذه المتغيرات التي فرضتها جائحة كورونا كيف نُقَوِّمُ المتعلمين؟ وكيف نتأكد أننا نقوم المتعلم نفسه وليس طرفا آخرا؟

ويمكن تحديد مفهوم التعليم عن بعد بكونه هو: تعليم يتم عن بعد، بحيث يكون المتعلم بعيدا مكانيا – وربما زمانيا- عن المدرس، فتعمل وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصال دور الوسيط بين المتعلم والمدرس. فأصبحنا أمام تعليم غير تزامني: بمعنى وقت مختلف وأماكن مختلفة، فتم الانتقال من فضاء مغلق: مؤسسة تعليمية تحتوي على فصول دراسية وفق برنامج زمني محدد إلى فضاء مفتوح لم تحدد معالمه. فتعددت أطراف العملية التعليمية التعلمية، حيث أصبح الجميع منخرطا في هذه التجربة: المدرس، المتعلم والآباء الذين انخرطوا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر بتقديم المساعدة لأبنائهم، فأصبح المدرس يُقوِّم المتعلمين تارة والأسر تارة أخرى، هؤلاء الذين اكتشفوا مهنة التدريس من جديد وأقروا بأهمية التعليم  النظامي معترفين بغياب التفاعل الجماعي الذي يفرضه ويتيحه التعليم الحضوري.

والغريب في الأمر أن في ظل المشاكل التي تعترض تنزيل التعليم عن بعد، والتي يمكن إجمالها في عدم وجود الآليات والوسائل التي يفرضها، كاللوحات الإليكترونية والتغطية بالشبكة العنكبوتية، يتم الحديث عن مأسسة التعليم عن بعد.

الواقع أن التسليم بعدم جدوى التعليم عن بعد أمر يقتضيه العقل ولا يرفضه، لأن المقارنة بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد، كالمقارنة بين فضاء مفتوح وآخر مغلق، و بذلك لا يمكن المقارنة بين شيئين لا شبيه بينهما، وإلا سيكون هذا القياس عرضة للخطأ والوهم والقصور، وحتى وإن نجح هذا التعليم عن بعد في تجاوز العوائق والموانع المادية والتقنية، فإن المشكل الذي يصعب التغلب عليه مشكل الاستعداد النفسي أو مشكل الحافزية لدى المتعلمين.

وبالتالي صار واضحا أن التعليم عن بعد لا يمكنه بتاتا أن يعوض التعليم الحضوري، إلا أنه ساهم في توضيح سعة الهوة بين العالم القروي والحضري، وكشف أهمية التعليم التزامني النظامي، كما سلط الضوء على معاناة المدرسين الذين أصبحوا يطالبون  بالتكوين  في العالم الرقمي لتيسير أدائهم المهني وتطوير كفاياتهم وتعزيزها.

 


المراجع:

1- إعلان إنشيون وإطار العمل لتحقيق الهدف الرابع – التعليم بحلول 2030. نحو التعليم الجيد والمنصف والشامل والتعلم مدى الحياة.

2-وزارة التربية الوطنية، الدليل البيداغوجي لإدماج تكنولوجيا المعلومات و الاتصال في التعليم، المملكة المغربية.

3- وزارة التربية الوطنية، دليل الدعم المدرسي، قسم الدعم التربوي 2003، المملكة المغربية.

البحث في Google:





عن عبد الجبار يعقوبي

مدرس ومدون، مهتم بقضايا التعليم ومناهجه وطرق تدريسه، حاصل على شهادة الإجازة بالمملكة المغربية.

تعليق واحد

  1. boudefla hakima

    التعليم عن بعد أصبح نظام قائم بذاته في دول العالم ككل ولابد من مسايرة هذا الأمر بشتى الطرق والتخطيط له فورا على مستوى الهيئات والسلطات العليا وإلا ضاع هذا الجيل وضاعت معه آمالنا في التغيير والتطور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *