المناهج الفلسطينية

تاريخ المناهج الفلسطينية

الهجوم على المناهج حول العالم

لطالما انتقدت المناهج الفلسطينية ، كغيرها من المناهج حول العالم انتقادها داخلياً، بينما تم الهجوم عليها ومحاربتها خارجياً. فليس سراً أن الجدل والنزاعات حول المناهج والكتب المدرسية في العالم ليست بالجديدة، فقد أصدرت عدد من الجماعات اليهودية المتطرفة في الولايات المتحدة، في ثلاثينيات القرن الماضي عدة نشرات هاجمت فيها Harold Ruggs “ Man and His Changing World“  بحجة تحريضها ضد أمريكا والحزب الحاكم، وهي ذاتها الجماعات التي هاجمت المناهج الفلسطينية، واعتبرتها تحرض على الكراهية والعنف. فقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حول المناهج، لا هي بالمستجدة ولا بالمحدثة، بل هي نتاج حتمي للحالة السياسية المفروضة على أرض الواقع.

ولا نغفل في السياق ذاته ما تسببت به مصادقة وزارة التربية والتعليم اليابانية على كتب التاريخ المدرسية، وإشارتها بإيجابية لاحتلال كوريا والصين، مما أحدث أزمة بين اليابان وتلك البلدان التي طالبت بالكشف عن جرائم الحرب اليابانية، من اغتصاب وقتل وغيرها، بل وتقديم التعويضات للضحايا، وتعليم الشعب الياباني الحقيقة لضمان عدم تكرار تلك الجرائم.

وبمعزل عن البعد السياسي في الكتب المدرسية، هناك صراعات العرق، والجنس، والجماعات الدينية في الدولة نفسها مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والهند وغيرها. وغالباً ما تشكل المناهج والكتب المدرسية منطلقاً للصراعات الأيديولوجية والسياسية بين الدول أو حتى في الدولة الواحدة.

الانقسام والجدل على المناهج

لا ننسى الجدل الداخلي الذي شهدته مقاطعة “Kanawha” في ولاية فرجينيا في سبعينيات القرن الماضي حول الكتب المدرسية، بزعامة أولياء الأمور المحافظين، وعلماء الدين، وعدد من رجال الأعمال المتعصبين، الأمر الذي تسبب بأعمال عنف وبمقاطعة الأهالي والطلاب لتلك المدارس.

وعلى الصعيد الفلسطيني، فقد انقسم المثقفون الفلسطينيون حول طبيعة المنهاج. فالأول فريق من العلمانيين الراغبين ببناء ثقافة أساسها الاشتراكية والديموقراطية بهدف أن يبحث ويتعلم الطلاب في جو ديمقراطي، على أن يكون المعلمون مرشدين وموجهين، مستخدمين أنماطاً واستراتيجيات مختلفة في التعليم. وبهذا أُدخلت إلى المنهاج مواضيع جديدة مثل التربية المدنية، والتي تحتوي نصوصا عن حقوق الإنسان والديمقراطية.
أما الفريق الثاني، فقد كان جل اهتمامه الخروج بمنهاج فلسطيني يحول الطلاب لمجتمع من الدارسين النشطين، الذين يمتلكون حساً نقدياً، ولم تكن القضية الوطنية الدافع الوحيد المحرك لتفكيرهم، خاصة مع كم الخريجين، وحملة شهادة الثانوية “التوجيهي” ممن يفتقرون إلى الحس النقدي و الإبداع. فالمناهج من وجهة نظرهم تشجع على الحفظ والاستظهار، ولا بد من تغييرها لتلائم التطورات والمستجدات، وتشجع على البحث والإبداع والتفكير الناقد.
بينما الفريق الثالث من دعاة رؤيا الإصلاح التربوي، وغالبيتهم من المعلمين الذين ينتقدون المنهاج التعليمي، ويشتكون قلة المصادر المادية المتوفرة للتعليم، فبادروا للبحث في التقنيات المعاصرة، والأساليب والاستراتيجيات والوسائل الحديثة المتبعة في التعليم، والتي من الواجب الاقتداء بها لبناء مناهج فلسطينية.

بداية المناهج الفلسطينية

بالنظر إلى تاريخ المناهج الفلسطينية ، فقد تم تأسيس أول مركز للمناهج عقب تولي السلطة الفلسطينية نظام التعليم كنتاج لاتفاقية أوسلو عام 1994، والذي بدأ بمباشرة أعماله الفعلية عام 1995 مع فريق من التربويين والاختصاصيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن كانت المناهج والكتب المدرسية الأردنية هي المعتمدة في الضفة الغربية، والمصرية في قطاع غزة، وتم الخروج بخطة المبادئ الأساسية التي حددت أول منهاج فلسطيني. ولتفادي البيروقراطية، تشكلت لجنة مستقلة عن وزارة التربية والتعليم، وغيرها من مؤسسات السلطة، وعمدت للاتصال المباشر مع المعلمين والطلاب وحتى رجال الدين.

ولعل من أبرز بنود خطة المبادئ التي حرصت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية على إعلانها:

1- استناد المنهاج على الحقائق.

2- تشجيع الطلاب على التفكير والابداع والنقد.

3- عدم إغفال الفروق الفردية بين الطلاب.

4- التأكيد على قيم العدالة، والتسامح، والتعددية.

5- الاهتمام بالتكنولوجيا واستخدام الإنترنت.

6- احترام الآخر.

بدأت المناهج والكتب المدرسية الفلسطينية بصياغة بعيدة عن السياسة، خاصة مع ضبابية المرحلة السياسية وعدم وضوح الحدود الجغرافية، إلا أنها اعتمدت في كتبها على الرواية الفلسطينية المعروفة لقيام الكيان الإسرائيلي، وذلك خلال المرحلة التاريخية بين (1948 – 1967) وهي ذاتها التي اعتمدها مؤرخون إسرائيليون، وغير إسرائيليين حول العالم، وبالرغم من ذلك لم تلق قبولاً من اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل اعتبرته منهاجاً تحريضياً، وحاربته محلياً وعالمياً.

إن الخطة الأولى والمعلنة للمناهج والكتب المدرسية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تؤكد أن لفلسطين تاريخا طويلا، وتراثا عريقا، وثقافة ممتدة تربطها بشكل وثيق بالعالمين العربي والإسلامي، مؤكدة بأن الفلسطينيين يعملون على بناء علاقات سلام جيدة وطبيعية مع جيرانهم، كما أوضحت بأن ما يشغلهم هو بناء وتدعيم المجتمع المدني وإنشاء الدولة، أكثر من كتابة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي في مناهجهم.

الانتقادات التي وجهت للمناهج

لا نغفل انتقاد التربويين لعدد من الخطوط العريضة التي اتسمت بها المناهج سابقاً وضرورة تفاديها كالحفظ غيباً، باعتبار الطالب وعاءً فارغاً يجب تعبئته، وتغيير دور المعلم من مركز للعملية التعليمية إلي ميسر لها، ورفض فلسفة التعليم التي تعتمد على تخزين المعلومات. كما اقترحوا في توصياتهم إعادة إصلاح نظام التعليم، وإلغاء امتحان التوجيهي، ونظام العلمي والأدبي، بالإضافة لتقليص الإجازة الصيفية والالتحاق بالمدرسة من جيل الخامسة، واستبدال الكتب الدينية بكتب تعليم الأخلاق أو الدين المقارن، والتحول من سلطة المعلم الى فردية التلميذ، ومن جمع المعلومات إلى اكتشافها،  ومن بناء المواطن المطيع إلى خلق الفرد الفاعل النشيط الحر. وفي نهاية المطاف، قبلت بعض تلك المقترحات، بينما رفضت أخرى بشكل نهائي. فمثلاً، أصرت الوزارة على أن المنهاج لا بد أن يحتوي على مادة التربية الإسلامية. فيما دعى العلمانيون إلى فصل الدين عن التاريخ، الأمر الذي يتعارض مع قرارات اللجنة للدمج والتكامل بين الموضوعات. وقد صرح بعض التربويين بأنه من المستحيل تطبيق كثير من البنود المتفق عليها، ومع ذلك فقد ترجمت وزارة التربية والتعليم التوصيات وجعلتها أساساً ومنطلقاً للمنهاج الجديد.

ويمكن القول أن دور المفكرين والتربويين والمؤرخين الفلسطينيين، لا بد وأن يتمحور حول التفكير النقدي الذاتي، والعمل المشترك الجاد لإنتاج تاريخ أكثر دقة مستخدمين المعايير العلمية المعتمدة في البحوث التاريخية، وذلك بالاعتماد على التاريخ الشفوي والمواد المؤرشفة للتاريخ الفلسطيني، على الرغم من أن الحقيقة التاريخية مؤكدة من الكثير من العلماء والتربويين بمن فيهم بعض الإسرائيليين، والتي تدعم وتعزز الرواية الفلسطينية. ويبقى من الضروري أن يكتب الفلسطينيون تاريخهم، لأنهم إن لم يفعلوا ذلك سيكتبه لهم اؤلئك الذين ينفون وجودهم.

وعلى الصعيد ذاته، تبنى عدد من الباحثين فكرة أن المناهج والكتب المدرسية قد أشارت إلى الشعب الإسرائيلي ككيان استعماري تسبب في تهجير وطرد الفلسطينيين من مدنهم وقُراهم، بالرغم من عدم وجود أي إشارة في الكتب المدرسية إلى المذابح التي ارتكبتها الكيان، علماً بأن تلك المجازر قد وثقها عدد من المؤرخين الإسرائيليين. ويظل السؤال الحاضر في أذهاننا، هل يمكن للطلاب الفلسطينين تفسير الماضي بعين السلم في ظل الظلم وانتهاك الحقوق؟

نظرة تحليلية للمناهج

وبالنظر إلى المناهج والكتب الفلسطينية وبعد تحليلها بشكل دقيق، نجد أن النصوص ركزت على طرائق التعليم أكثر من تركيزها على دور المعلم أو المحتوى التعليمي، وعلى جهود التلاميذ، وتشجيعهم على التطبيقات العملية وحثهم على التفكير، بل إن معظم الدروس أصبحت تضع الهدف قبل المحتوى. فقد هوجمت محلياً لإغفالها الدور المحوري للأنثى، والتركيز على الذكور، رغم إدخال تعديل في الأدوار التقليدية للمرأة. فالرجال يحضرون الطعام ويعملون في المطبخ، مع وجود نصوص تأييد لمشاركة المرأة في النشاطات الرياضية ولكنها لم تكن كافية للبعض.

كما أنها خلت تماماً من الصورة النمطية السلبية لليهود، حيث تم التأكيد على ضرورة التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، الذي ظهر جلياً في المناهج والكتب المدرسية، والتي تحث أيضاً على ضرورة احترام الديانات السماوية الثلاث، إذ لا يمكن أن ننظر إلى المحتوى الظاهر ولكن إلى المضمون وما فيه من قيم واتجاهات وأخلاق وأعراف وقوانين تحكم وتنظم الحياة الاجتماعية. وقد عملت المناهج والكتب الفلسطينية على ترسيخ قيم التسامح والانفتاح والقيم الديمقراطية، على ألا تكون انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي على الأرض هي النص الأقوى من أي نص في الكتب المدرسية؟ وكيف يمكن للفلسطينيين كتابة المناهج التي يريدها الإسرائيليون في الوقت الذي تصادر أراضيهم وتهدم منازلهم؟ ألا يحق لهم فرصة لتعليم المحبة؟

وإن كانت المناهج والكتب المدرسية تستخدم الطرق الطويلة والصعبة للحديث عن موضوع الحدود، فإن الخرائط التي تتناولها المناهج والكتب الإسرائيلية تظهر “الأرض الإسرائيلية” من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، كما تظهر المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تطمس وجود المدن والقرى الفلسطينية. فالجغرافيا كانت من الكتب الحساسة، والسؤال الأول فيها، عن أي فلسطين نتعلم؟ هل هي فلسطين أوسلو؟ وكيف يعالج موضوع  الشعب الإسرائيلي؟ هل هم دولة جارة؟ أم أقيمت على أنقاض فلسطين؟

إن الكتب المدرسية ليست الوسيلة الوحيدة للتنشئة الاجتماعية والوطنية والسياسية، بل نلفت الانتباه إلى أهمية المنهاج الخفي، فالأطفال يتعلمون من واقع الحياة، من والديهم وأقرانهم، ومن وسائل الإعلام، كما أن دور المعلمين بالغ الأهمية في عملية التنشئة الاجتماعية والوطنية.

خلاصة:

وعودة إلى الادعاءات بأن الكتب الفلسطينية تحرض الطلاب ضد الشعب الإسرائيلي، والتي قبلت على نطاق واسع في الولايات المتحدة ولدى الإسرائيليين، واستندت على ما نشرته عدد من المنظمات اليهودية الأمريكية ذات العلاقة بحركة الاستيطان في الضفة الغربية، التي تميزت بالمبالغة، والكذب، الأمر الذي تسبب في قطع تمويل تطوير الكتب الفلسطينية من قبل المانحين الغربيين، يمكن طرح السؤال الذي يواجه المناهج والكتب، والذي يدور حول الكيفية التي يمكن أن تصاغ بها مسألة التاريخ والأرض والقضية برمتها، فكيف يمكن أن تثار الأسئلة وتكتب؟ ثم كيف تُقرأ النصوص وتُقيم؟

ولا يحق لأي كان أن يزور الحقيقة، ولا بد من الابتعاد عن التزييف والخداع في التعليم عن فلسطين، وأن يتسلح الطالب بالحقائق الأساسية وبعدها يتعلم كيف يفكر…

ربما لم يقم المنهاج الفلسطيني بالكثير لدعم السلم، إلا أنه وُضع بأيد وعقول فلسطينية ليحقق أهدافاً أكثر سمواً، كترسيخ الهوية، والوحدة والخصوصية، والسيادة.

 

المراجع:

إبراهيم أبو لغد: المنهاج الفلسطيني الأول للتعليم العام : مركز تطوير المناهج الفلسطيني، الخطة الشاملة 1996.

عبدالرحمن عباد: بوصلة نحو القدس، الطبعة(1)، هيئة العلماء والدعاة – القدس، 2015.

العيسى، ايناس. العوامل والقوى المجتمعية المؤثرة على التعليم في القدس. دار الشامل للنشر والتوزيع 2019.

Nathan J. Brown: Democracy, History, and the Contest over the Palestinian Curriculum, without publisher, 2001

 

البحث في Google:





عن د. إيناس عبّاد العيسى

بكالوريوس في الكيمياء والرياضيات والفيزياء، دبلوم عال في أساليب تدريس الرياضيات والعلوم. ماجستير في الإدارة من جامعة ليڤريول- بريطانيا، دبلوم عال في الإرشاد التربوي من الجامعة العبرية. ماجستير ثان في التربية من جامعة بيرزيت. دكتوراه في فلسفة التربية وقيادة المؤسسات التربوية. تعمل محاضرة في عدد من الجامعات والكليات والمؤسسات التربوية منها جامعة القدس المفتوحة، كلية المقاصد الجامعية، جامعة النجاح الوطنية، جامعة القدس، مركز إرشاد المعلمين، مركز إبداع المعلم وغيرها .. ناشطة مجتمعية، عضو مجلس أمناء وعضو هيئة إدارية في عدد من المؤسسات المحلية والدولية، سفيرة للعمل التطوعي في المنظمة الدولية للعمل التطوعي. لها عدد من المؤلفات في التربية وعلم الاجتماع والإدارة والقيادة. بالاضافة إلى عشرات الأبحاث والمقالات المنشورة بالعربية والإنجليزية ومنها مترجمة للفرنسية والعبرية في عدد من المجلات المحلية والعالمية. القدس. فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *