رفاعة الطهطاوي

أبو الفكر العربي الحديث ومؤسس النهضة الثقافية رفاعة الطهطاوي

هذا المقال بعنوان: ”أبو الفكر العربي الحديث ومؤسس النهضة الثقافية رفاعة الطهطاوي ‘‘ هو الثالث من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية العرب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد. المقال الثاني: ”القباني : أول رائد تربوي متخصص’‘ من هنا.

لا أبالغ إذا قلت أن المفهوم الذي قدمه رفاعة الطهطاوي عن التربية تتوافر فيه فعليًا شروط الإحاطة بجميع أركان العملية التربوية، والشمول لجوانبها وأبعادها المترامية الأطراف، مما يمكن معه أن نعتبر ذلك” طفرة علمية شهدها فكرنا التربوي في أواسط القرن التاسع عشر”.

لكنني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أجزم بأن رفاعة هو نفسه صاحب المفهوم الذي قدمه لنا خاصة وأنه قد سبقه بجملة محددة وهي: “عرف بعضهم التربية بأنها”.

ووجه التكامل والشمول في مفهوم رفاعة للتربية، هو إحاطتها بجانبي من أهم الجوانب هما الدين والدنيا المادي والمعنوي، الروح والجسد، يقول إنها “… تنمية أعضاء المولود الحسية من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر، وتنمية روحه بالمعارف الدينية والمعاشية “.

ولقد استوقفني في مجمل هذا التعريف المتصف بالدقة أيضًا، فضلاً عن الشمول والتكامل ” بشكل موضوعي” الشمول والتكامل ” بشكل زمني، “المتمثل في قوله” من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر”.. أنها لا تبدأ بمرحلة معينة عند الالتحاق بالمدرسة، وإنما عند الميلاد… أما حد الكبر، فهو لا يحدد.

ويستنبط رفاعة بطريقة مبسطة وسهلة من المفهوم السابق وظائف ثلاث لتربية الأطفال (التي يسميها ” تغذية “):

  • تربية عقلية تتمثل في إمداد الأطفال بمجموعة من المعارف والحقائق.
  • تربية جسمية تتمثل في تغذية الأطفال بما تحتاجه أجسادهم عن طريق الإرضاع.
  • تربية خلقية تتمثل في محاولة تهذيب سلوك الأطفال وإكسابهم العادات السوية وإمدادهم بالمعلومات.

ويرى رفاعة أن عملية تربية الأطفال الصغار قد تبدو لأول وهله عملية سهلة يسيرة أو ربما لا تتطلب غير الخبرة والمران لكنه يؤكد أن أمرها جد خطير وهـي تتطلب ” عظيم اهتمام وعناية ” مما يؤكد أن المسألة مسألة علمية بحته تحتاج إلى بعض المبادئ والأسس التي تقوم عليها، وفضلا عن ذلك فإن الذين يقومون على أمر هذه التربية لا بد أن يتوفر فيهم شرط هام للغاية ألا وهو حب الأطفال.

ومع جلالة وعظم مهمة التربية وخطرها، إلا أن هذا لا يعني أنها يمكن أن تأتي بالمعجزات، فهي مقيدة بأمر مهم للغاية هو فطرة الإنسان، وعلى سبيل المثال ملكة مثل الذكاء أمر فطري طبيعي لا تنشئه التربية، وإنما تقوم بتنميته وتطويره.

وجميع الأفراد مختلفون بطبيعة الحال فيما يملكون من قدر الذكاء فإذا قام المربي بجهد كبير ليقوم بعمل تسوية بين التلاميذ في التربية، فإن هذا لا يعني قدرة المربي على التسوية بينهم في الذكاء.

والتربية ليست عملا فرديًا يقتصر عائدها على التلميذ فقط، وإنما هي عملية اجتماعية معقدة يترتب على حسن قيامها واستقامة طريقها صلاح المجتمع ككل.

ويقول رفاعة:” وحسن تربية الآحاد، ذكورًا وإناثًا، وانتشار ذلك فيهم، يترتب عليه حسن تربية الهيئة المجتمعية، يعني الأمة بتمامها، فالأمة التي حسنت تربية أبنائها، واستعدوا لنفع أوطانهم هي التي تعد أمة سعيدة وملة حميدة، فيحسن تربية أولادها والوصول إلى طريقة إسعادها، لا تخشى أن تأتمن أبنائها على أسرار الوطن ولا على ما يكسبها الوصف الحسن بخلاف سوء التربية المنتشر في أمة من الأمم، فإن فساد أخلاق بنيها يفضي بهم إلى العدم حيث ينتشر فيهم حب ممارسة اللذات و الانغماس في الشهوات وكثرة انتهاك الحرمات وممارسة المحرمات”.

وأتلمس من تكرار هذه المعاني في كتابات رفاعة قدر إيمانه بها وإحساسه بعظم دورها إلى الحد الذي يجعله يؤكد على أن ” التربية هي الأساس الفعلي للانتفاع بأبناء الوطن”.. وانتفاع الوطن ليس عملية سلوكية وأخلاقية فحسب، وإنما تمتد لتشمل مقدار ونوع ” العمران البشري” ” فالأمة التي تتقدم فيها التربية بحسب مقتضيات أحوالها، يتقدم فيها أبدًا … التمدن”.

ومن أهم ما ينبهنا إليه رفاعة هنا الحاجة إلى المزيد من العناية بتربية طبقة معينة من الطبقات وهم” أبناء الأمراء والأكابر والأغنياء”، مما يوحي لنا لأول وهلة بأن الرجل ذو نزعة أرستقراطية في التربية.

ولكن ليس هذا صحيحًا، فهو يعلم أن الواقع يشير بأن هذه الطبقة هي المتحكمة والمسيرة لدفة الأمور، ومن ثم فإذا حسنت تربيتهم ضمنوا عدلاً واستقامة، ولا غرو فالسمكة تفسد من رأسها فمن المفروض أن يكونوا قدوة… ويقول رفاعة مؤكدًا على الهدف من إلحاحه إلى حسن تربية هذه الفئة بأن المراد هو ” تعويدهم من الصغر علي ترك الكبر والإعجاب ومحبة النفس، وتكليفهم باستعمال الرفق واللين والتلطف مع غيرهم حتى لا يتجرأ أحد من عوام الناس أو خواصهم على لومهم على أفعالهم وأطوارهم وحركاتهم”.

ومع ذلك فإن هذا لا ينبغي أن يعني اقتصارنا في التربية على فئة دون أخرى، ومن هنا كتب رفاعة عن “ضرورة تعميم التربية” وعبارته في هذا تقول

” فتربية أولاد الملة وصبيان الأمة وأطفال المملكة، ذكورًا وإناثًا، من أوجب الواجبات”، وله مبرر في هذا هو أننا جميعًا نهتم بتربية الحيوانات المنزلية ونأمل أن يعم ذلك كل أركان الأمة، فكيف لا يكون الأولى في اهتمامات الأمة هو تربية الإنسان نفسه؟

وقد استشهد رفاعة كثيرًا وبطريقة مطولة بما فعلته التربية في بلاد اليونان القديم بمواطنيها من كفايات مكنته من أن يشع حضارة لا تزال الإنسانية حتى الآن تتغذى على كثير من ثمرات عقول روادها من المفكرين المبدعين.

وفي كثير مما نقرأه لرفاعة نجده يذكر هذ الكلمات ” ذكورًا وإناثًا ” تأكيدًا منه على ذلك التوجه الذي يريد به من التربية أن تكون مظلة لكافة أنواع المواطنين بغض النظر عن نوعهم.

وهو الأمر الذي تم إهماله قبل ذلك قرونًا طويلة وبشكل متعمد، وهو لا يكتفي بالاستشهاد ببلاد اليونان في العصور القديمة، بل يشير كذلك إلى الدول الأوروبية والتي زار رفاعة منها فرنسا بأنها أمم تحرص على التسوية بين الذكور والإناث في التعليم، وهذا استكمال لوجهة النظر التي تتصل بنظرية العدل الاجتماعي.

من هنا عقد رفاعة فصلاً خاصًا بعنوان” في تشريك البنات مع الصبيان في التعلم والتعليم وكسب العرفان”، ويقول رفاعة “ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا يحاول رفاعة هنا أن يكسب منطق الرجال، فيبرر ذلك بأن تعلم البنات هام جدًا ” لحسن معاشرة الأزواج” مما يقتضي ضرورة تعليم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك.

كما يحاول رفاعة أن يرغب البنات في ذلك مؤكدًا أن من شأن تعلمهن أن يجعلهن صالحات لمشاركة الرجل في الكلام والرأي فيعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن.

ومن العجيب حقًا أن يبلغ فكر رفاعة درجة سامية من التقدمية والتي لا تجعله يقف بنفع تعليم المرأة عند حد السلوك الشخصي سواء مع قريناتها أو مع الرجال، وإنما ذهب إلى منحى آخر وهو أن لتعليم المرأة وظيفة أخرى وهي التأصيل لسوق العمل الإنتاجي أو التقدمي، إذ من شأن عمل المرأة بعمل ما أن يبعدها عن فراغ البطالة هذا الفراغ الذي يجعلها تغرق فيما يسيء من فعل وقول وهكذا.

ويؤكد رفاعة أن تعليم المرأة أمر هام وضروري: ليمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى مع الأشغال والأعمال بما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها فكل ما تطيقه النساء من العمل تتم مباشرته عن طريقهن، وهذا من شأنه أن يبعد النساء عن فكرة البطالة.

فإن وجودهن بدون عمل يجعلهن يتمتمن بالكلمات الفارغة ويملأ قلوبهن بالأهواء الفاسدة وأفعال غير محمودة، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة لا تليق في حق الرجال فهي لا تليق أيضًا في حق النساء.

إن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث عن جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندنا وهكذا.

يشير رفاعة إلى أن عمليتي التعليم والتعلم بحاجة إلى أن تقوما على قواعد ومبادئ أساسية ومحددة، كما أنهما بحاجة إلى أن تتيسر سبلهما أمام السالكين لهذه السبل فالذي يتعلم لا ينبغي أن يكتفي بملء عقله وقلبه وجسمه بما تعلمه فقط.

إذ لا بد أن يفيد الآخرين، وكأن رفاعة هنا يطلب من كل متعلم أن يكون معلمًا فإذا تمت فضيلته، وكملت أهليته، فعليه أيضًا أن يشتغل بالتصنيف والجمع والتأليف، ليطلع جميع الناس على حقائق الفنون، ورقائق العلوم، ودقائق الصنائع، ومن الواجب عليه أيضًا أن يجيد البيان حسب الإمكان.

وطالب العلم مطالب بأن يتأسس بمعنى أن يحصن نفسه بالتمكن من الأوليات والمبادئ الأساسية للعلم الذي يريد أن يعرفه وبدقة.

الوضوح في الأسلوب كذلك مبدأ أساسي، فالألغاز والغموض، غالبًا ما تعكس سوء فهم أو سوء نية وميل إلى التعالي على الناس.

ولأن الكتب هي ” خزائن المعرفة ” وعلى صفحاتها ” ثمرات العقول ” فرفاعة ينظر إليها باعتبارهم ” معلمين، ووعاظًا، ومستشارين يرجع إليهم في جميع الأمور “.

وإذا كان الإنسان بفطرته شغوفًا بالمعرفة ومتطلعًا لكشف المجهول وإماطة الستار، إلا أن ذلك لا ينفي أن تكون هناك حاجة إلى من يكون ورائه دائمًا حتى يظل راكضًا وبشدة ودائمًا على طريق المعرفة.

ويكون ذلك بإشعال نار التنافس، فإذا اشتد حرص الطالب على أن يكون متفوقًا على زملائه فإن هذا يتطلب منه دائمًا أن يجتهد فيما يتعلمه، ثم يحاول أن يزيد عليه، فإذا ما أصبح ذلك هو نهج الجميع، أصبحت المعرفة دائمًا في تزايد مستمر وتكتسب الأمة طاقة لا حدود لها.

وعندما يتحدث رفاعة عن وسائط التربية، نجد أن الأسرة تبرز في التو واللحظة لتكون هي المسؤولة الأولى عن نقاط البداية.

وإذا كان رفاعة كثير الإعجاب بما رأى وشاهد في أوروبا، إلا أنه يشير هنا إلى أن تربية الطفل الصغير” كم المفترض أن تكون في بيت أبيه وأمه، وهي التربية اللائقة للبنت وكل امرأة لم ترب في بيت أمها، لا تجد رغبة في تربية أبنائها في كبرها “.

وإذا كان التعليم مهمًا وضروريًا، إلا أنه  وفي رأي رفاعة مراتب ومستويات، بحيث نجد أن ” قيمة ” و” ضرورة ”  “وهي الكلمات المفتاحية التي حددها رفاعة” كل مرتبة تختلف عن الأخرى، فهناك ما يسميه رفاعة ” التربية العمومية ” التي نطلق عليا  الآن ” التعليم الأساسي” والذي يتلقى فيها جميع أبناء الأمة القدر المشترك من المعارف والمعلومات بغير تفرقة بين فئة وأخرى، يقول رفاعة ” إن التعليم الأولي كما أطلق عليه رفاعة يجب أن يكون متاحًا للكل على حد سواء، فهو عام لجميع الناس، وينعم وينتفع به الكل، ويشمل هذا النوع من التعليم الكتابة و القراءة والحساب والنحو من خلال تعلم القرآن والعلوم الدينية “.

وفي الغالب أن التعليم الأولي عائده يكون علي كامل الأمة وكافة الأفراد وخاصة أصحاب الحرف والصناعات لأنه يفتح لهم باب حسن التعلم حيث انه لا يعتمد على مجرد السماع، بل التدوين أيضًا ليدون ما يسمع في أوراق يراجعها عند الحاجة، فضلا عما يتاح له من الاطلاع على ما يكتب في المجال بنفسه، فيكون تعليمًا مباشرًا.

ويبلغ رفاعة الذروة في الوعي التربوي حتى أنه ينظر إلى التعليم الأولي على أنه مثل الخبز والهواء.

وإذا كان التعليم الثانوي ليس على نفس الدرجة من العموم والضرورة، مثلما الأمر في التعليم الأولي، إلا أن رفاعة مع ذلك ينادي الحكومات بتيسير سبله للناس دون تمييز فينبغي للحكومة المنتظمة ترغيب الأهالي وتشويقهم فيما يخص هذا النوع من التعليم.

ويذهب رفاعة بنا إلى قضية هامة ألا وهي ” الميل ” عند التحاق خريجي التعليم الابتدائي والثانوي بسوق العمل، فإذا ظهر ميل للطالب إلى تخصص ما يتناسب معهم مثل الفنون والموسيقى، وجب على أهلهم أن يمكنوهم من ذلك.

رفاعة الطهطاوي كان لديه من الثراء الفكري ما يجعل الباحثين في عمل متصل على طريق دراسته، دون أن بروا لهذا الطريق نهاية.


المراجع:

  • أنور عبد الملك (1983)، نهضة مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
  • حسين فوزي النجار (1980)، رفاعة الطهطاوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة.
  • محمد أنيس (1971)، مدرسة التاريخ المصري في العصر العثماني، وزارة الثقافة والإعلام، القاهرة.
  • محمد محمد حسين (1982)، الإسلام والحضارة الغربية، مؤسسة الرسالة، بيروت.

البحث في Google:





عن د. إيهاب ابراهيم السيد محمد

دكتوراه الفلسفة في التربية النوعية، كلية التربية النوعية جامعة عين شمس. تخصص تكنولوجيا التعليم زميل كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا - جمهورية مصر العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *