المعلم الثالث مسكويه

المعلم الثالث مسكويه

هذا المقال بعنوان: ”المعلم الثالث مسكويه‘ هو الرابع من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية العرب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد. المقال الثالث أبو الفكر العربي الحديث ومؤسس النهضة الثقافية رفاعة الطهطاوي من هنا، والمقال الثاني: ”القباني : أول رائد تربوي متخصص’‘ من هنا. والمقال الأول مؤسس علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن بن خلدون من هنا.

عندما نراجع تاريخ الفلاسفة الأوائل من حيث غزارة الموروث العلمي لهم نستطيع أن نقول أن أرسطو هو المعلم الأول لما له من مؤلفات ذات قيمة خاصة في مجال الأخلاق، واعتبر المسلمون الفارابي المعلم الثاني لنفس السبب، ولقب البعض مسكويه بالمعلم الثالث لأنه سار على نفس نهج سابقيه ممن لُقبوا بالمُعلمين.

عمل مسكويه في أوائل حياته في وظائف كثيرة كلها تخص المعرفة، ومنها خازنًا لمكتبات عديدة ولعل عمله هذا قد ساعده في أن يكون على صلة وثيقة بثقافة عصره المتعددة المصادر والمتنوعة الفنون، وأن يعلم نفسه بنفسه، ويتبحر في فروع العلم والمعرفة الإنسانية.

واهتم المعلم الثالث أو مسكويه ببعض العبارات التي عبرت عن طريقة تفكيره الفلسفية من الناحية الأخلاقية التي اتخذها مسكويه نهجًا لأغلب الكتابات التي تناقلت عنه ومن تلك العبارات:

” السعادة الخلقية “ وهي السعادة التي تُمكن من يشعر بها من أن يعيش هانئًا، ومن ثم فإنها في الحقيقة تعد سعادة شخصية يمكن لأي إنسان أن يصل إليها عن طريق إعمال عقله واجتهاده في تحصيل العلوم المختلفة التي تنمي فكره وتجعله يشمل كل النواحي.

لم يذكر مسكويه في أي من كتابته نصًا كلمة “تربية ” حيث أن تلك الكلمة لم تكن من الكلمات الشائعة في عصره ولا في بيئته التي عاش فيها، بل ربما كان من المشهور حتى عن الحضارات الأجنبية في هذا العصر أنها لم تستخدم كلمة ” تربية” بالمفهوم الذي يتم تداوله الآن.

ومن المفيد ايضًا الإشارة إلى أن كلمة “تعليم” كانت هي الكلمة الأكثر دورانًا واستحداثا في هذا العصر، لتعبر عما نريده الآن من كلمة ” تربية ” في كثير من جوانبها، ومن ثم فإن كلمة ” تعليم ” و” تعلم ” يجاورهما أيضًا كلمات مثل ” تأديب” و” أدب “.

ولعل المتأمل في كتابات مسكويه يمكن أن يخرج ببعض النتائج مؤداها أنه على ثقة كاملة في إمكانية تهذيب الأخلاق  وتطهيرها مما يعلق بها من شوائب متمثلة في  بعض السيئات والشرور، و يقول مسكويه: “صناعة الأخلاق والتي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان من حيث أنه إنسان هي من أفضل الصناعات وأدومها نفعًا”.

ومما يؤكد على هذه الثقة أنه يرى في مواضع كثيرة من كتاباته عن الصغار أن ما يصلح للصغار  يصلح أيضًا للكبار، والكبير على وجه التحديد، ليس من السهل تغيير أخلاقه التي نشأ وتربى عليها إلا وفق شروط خاصة ومحددة، ألا وهي أن يدرك هو نفسه مدى فساد أخلاقه واحتياجه إلى الإصلاح، وعقد العزم والنية على تغييرها نفسه.

أما السبب وراء تأكيده على إمكانية تهذيب الاخلاق وتطهير الأنفس، والتخلص من العادات السيئة وما إلى ذلك، فيرجع إلى رأيه في الناس، وهم عنده إما أخيار وفق طبائعهم وإما أخيار بالتعلم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن مسكويه، حين اتجه للحديث عن تأديب الصغار إنما اتجه إليه كجزء من اهتمامه العقلي البالغ بالغاية النهائية التي يسعى إليها الإنسان، أو التي ينبغي عليه أن يسعى إليها وهي السعادة في الدارين.

ولأن الجانب النفسي عند مسكويه هو الجانب الأهم، فقد بدأ بذكر عديد من الأساليب المعنوية في تأديب الصغار، مشددًا بالدرجة الأولى على الجوانب الإيجابية، أي الترغيب، ومن أهم هذه الأساليب:

  • تحبيب الأخلاق الكريمة إليهم، مثل إيثار غيره في المآكل والمشرب على نفسه، والاقتصار على الشيء المعتدل والتماسه.
  • التشجيع على الترفع عن اشتهاء المآكل والمشارب والملابس الفاخرة، والتشجيع هنا يكون بتزيين الابتعاد عن هذه الأمور والاكتفاء منا بالضروري القليل.
  • المدح، ويعتبر من أهم هذه الوسائل والأساليب المقترحة، ذلك أن مدح الصغير على ما يفعل من أمور طيبة، ومقبولة من الكبار، وأيضًا مدح الكبار الذين يفعلون الطيبات أمامه، كل هذا يؤكد على الأمور الحسنة سواء كانت صادرة منه أم من الكبار الذين يُعتبرون بمثابة القدوة له.
  • التحذير من العقوبة والتخويف من المذمة على أي قبيح يظهر منه.

ويتحدث مسكويه عن الآداب المرتبطة بسلوك الصغار فيقول أنها تتعلق بما يلي:

  • اللذات الحسية كالطعام والشراب.
  • المظهر الخارجي كالملابس.
  • الترويح عن النفس من عناء التعليم.

وللصغار أيضًا بعض الآداب المرتبطة بسلوكهم وعلاقاتهم مع الآخر، وفيما يلي أقوم بعرض بعض منها:

  • الآداب العامة يورد مسكويه العديد من الأداب العامة التي ترتبط بالمظهر الخارجي والصورة العامة للإنسان السوي في مجتمعه والتي ينبغي تنشئته وتعويد الصغير عليها، ومنها ألا يبصق في المجالس، وألا يتمخط وألا يتثاءب بحضرة غيره، وكذلك ألا يضع ساقًا فوق ساق في حضرة الكبار ولا يضع يده تحت ذقنه أو يسند رأسه بين يديه، جل هذه الأمور تدل على كسل من يفعلها.
  • آداب رياضة الجسم واللعب: إن العناية بالجسم من الأشياء الضرورية جدا، بل هي من الأمور الواجبة عند مسكويه، إذ لها فوائدها التي يتعود عليها الصغير، كما أن لها آدابها والتي ينبغي أن يتعلمها ويتبعها، ومن ثَم كان الاهتمام برياضة الجسم عند مسكويه من الضروريات الحتمية، وينصح بإتاحة الفرصة للصغير كي يلعب في بعض الأوقات المحددة لذلك، غير أن هذا اللعب ينبغي أن يدربه على المشي والحركة حتى لا يعتاد الكسل، على ألا يكون في هذا اللعب ما يرهق الصغير أو يؤلمه.
  • آداب الملبس، يبين مسكويه أن الصغير لا بد وأن ينشأ بالصورة التي يحسن أن يكون عليها أهل النبل والشرف، وذلك بأن يرتدى الملابس المناسبة له ويبتعد عن الملابس غير المناسبة له، وأنه يجب عليه ألا يلبس ما تلبسه النساء، وألا يلبس خاتمًا إلا وقت الحاجه إليه وألا يطيل شعره، ويمتد هذا ليشمل أيضًا عدم الافتخار بشيء يمتلكه والديه.
  • آداب الطعام والشراب لما كان الطعام لا يراد لذاته ولا للذاته الحسية، أو ينبغي أن يكون كذلك، فإن مسكويه يقدم مجموعة من النصائح يمكن القول إنها تصلح لشخص زاهد في الدنيا بالفعل، فيجب أن نتحكم في كمية الطعام التي تعرض على الصغير وان تقلل أنواعه أيضًا، وللأكل آدابه التي ينبغي أن تراعى، ومنها عدم الإسراع في الأكل وضرورة المضغ الجيد وأن يحافظ على الملابس من الانتساخ أثناء الأكل.

أما من الناحية الأخلاقية، فيذكر مسكويه مجموعة من الآداب التي يجب أن ينشا عليها الصغير كنوع من الفضائل الشخصية والتي تتعلق بمعاملاته مع الغير ومنها:

  • التشجيع على حسن الكلام وجميل اللقاء.
  • أن لا يحلف أبدًا سواء أكان صادقًا أم كاذبًا، إذ إن الاعتياد على ذلك يعتبر سلوكا قبيحا.
  • تقليل الكلام، إلا عند الرد عن سؤال موجه إليه شخصيًا.
  • الاعتياد على الاستماع إلى من هو أكبر منه.
  • الاعتياد على عدم نطق خبيث الكلام.
  • الامتناع عن السب واللعن ولغو القول.

ومن الضروري أيضاً أن يعود الصغير على طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم ويهابهم، وإذا حدث أنه تعرض للضرب من معلمه مثلاً، فمن الضروري أن يُعود الصغير على ألا يظهر ألمه فلا يصرخ ولا يستشفع بأحد.

ولا بد أيضًا من تعويد الصغير على خدمة نفسه ومعلمه وكل من كان أكبر منه، على أن أولاد الأغنياء والمترفين خاصة هم أولى الصغار بأن ينشأوا على هذا ويتعودوه.

ومع كل ما سبق الإشارة إليه، فإن على كل من يرعى الصغير ويقوم على تأديبه أن يمنحه الفرصة للراحة، كما عليه أن يبر الصغار ويكافئهم على الجميل بأكثر منه.

ومن الآراء التي أوردها وتؤكد على أنه قد فطن لأهمية المراحل المبكرة من النضج الإنساني، أو مراحل النمو المبكرة، حيث أنها من المراحل التي تنبني عليها صفات كثيرة في مستقبل الإنسان كما هو معلوم الآن.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يؤكد على أهمية السنوات الأولى في تنشئة الصغير وأثر البيئة التي يعيش بداخلها على أخلاقه تحديدًا، وفي ضوء حصاد خبرته الشخصية، يستدل على ما سبق ويتضح هذا في إشارته إلى ملوك الفرس من الفضلاء والذين كانوا لا يربون أولادهم وسط حشمهم وخدمهم وخواصهم خوفًا عليهم من أن يتأثروا بهم، ومن أجل هذا كان ملوك الفرس يرسلون أولادهم إلى النواحي البعيدة حيث كان يتولى تربيتهم أهل الجفاء وخشونة العيش.

ومعنى ذلك أن سنوات التربية الأولى، أو سنوات التنشئة كما يسميها مسكويه، هي السنوات الأساسية في حياة الصغير مما يتطلب الاهتمام بها ولهذا يقرر مسكويه من وجهة نظره أن الدين أساس التأديب والتهذيب، وبعد أن تُثبت دعائم الإيمان في نفس الصبى يمكنه النظر بعد ذلك في العلوم الأخرى مثل كتب الأخلاق ثم الحساب والهندسة، أو ما يمكن الاستدلال والبرهنة عليه بالبراهين العقلية.

ويرى مسكويه أن للتعامل مع الناس أهمية كبيرة، إذ أن هذا التعامل يؤدى إلى ظهور الفضائل التي لا تظهر إلا بالعشرة والمعاملة والتفاعل مع الغير مثل الشهامة والسعي نحو مساعدة الآخر والسخاء وغيرها من الفضائل.

أما إذا لم ينشأ الإنسان في هذا الوسط الإنساني، فإن هذه الفضائل لا تظهر ويفقد الإنسان أهم صفة تميزه عن باقي المخلوقات وهي الإنسانية، وفي أكثر من موقع يكرر مسكويه أنه، ولأجل هذا، قال الحكماء إن الإنسان مدنى بالطبع، أي أنه محتاج إلى  العيش داخل مدينة وإلى التعامل مع  الآخر برقي لتتحقق له السعادة الإنسانية.

خلاصة ما سبق: أن الهدف الأساسي للتأديب، والرياضة، وتحصيل العلم، والعمل به  عند مسكويه هو تهذيب النفس وتطهيرها مما أصابها، ومن ثم تحقيق كمالها في الدنيا، ثم بلوغ سعادتها في الآخرة.

إن الهدف الأساسي والنهائي هدف أخلاقي، فالوصول إذًا بالنفس إلى تحقيق السعادة القصوى هو الهدف الرئيسي عند مسكويه، والذ] سعى من خلال كتابته أن يبرزه ويجعله في مقدمة تفكيره.

لم يقتصر إنتاج مسكويه العلمي على مجال الفلسفة والأخلاق تحديدًا، بل إن له إنتاجه المتميز في العديد من المجالات الأخرى، منها على سبيل المثال مجال التاريخ، كما أنه اشتغل بمجال الكيمياء، ومجال الأدب وغير ذلك من المجالات، وهذا مما يؤكد على تعدد جوانب الثقافة  لديه بصورة تجعل منه مرآة لعصره الذي تميز بالثقافة المتعددة المنابع.

نؤكد في النهاية على فكرة التقاء كل الثقافات وتلاحم الحضارات العالمية وتأثرها بعضها بعض في معزوفة مستمرة للفكر الإنساني.

وسيظل الإنسان دومًا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج العلم والاستزادة منه ونقله إلى غيره والإضافة إليه وتجديده، مما يستوجب أن توجه له دومًا العناية بتعليمه وكما ذهب مسكويه لتهذيب أخلاقه.

قائمة المراجع

  • ابن النديم (1971)،كتاب الفهرست، إيران، طهران.
  • حسان محمد، نادية جمال الدين (1984)، مدارس التربية في الحضارة

 الإسلامية،القاهرة، دار الفكر العربى.

  • زكى مبارك (1968)،الأخلاق عند الغزالى،القاهرة،دار الكتاب العربى.
  • عبد العزيز عزت (1946)،إبن مسكويه، فلسفته الأخلاقية ومصادرها، القاهرة، مطبعة مصطفي الحلبى.
  • هشام نشابه (1988)،التراث التربوي الإسلامي في خمس مخطوطات، بيروت، دار العلم للملايين.

البحث في Google:





عن د. إيهاب ابراهيم السيد محمد

دكتوراه الفلسفة في التربية النوعية، كلية التربية النوعية جامعة عين شمس. تخصص تكنولوجيا التعليم زميل كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا - جمهورية مصر العربية

تعليق واحد

  1. د.بشير شعيب

    بعد تحية طيبة, وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تبين لي بكل وضوح وصراحة, أن هذه الشخصية هي موسوعة علمية يتباهى بها العالم الإسلامي، حيث ركز على تربية الروح وتزكية النفس من أجل الوصول نحو العل من الجنة , وهي وظيفة الانبياء والرسل، وهي مهمة طيبة . نشكر جزيل الشكر من قدم هذه الشخصية الفذة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *