التقويم التربوي

التقويم التربوي من مدخل منظومي – الجزء الأوّل

 

هذا المقال هو الأوّل من سلسلة مقالات عن المدخل المنظومي في التربية، ينشرها الدكتور أحمد محمود عبد الباقي، حصريا على صفحات تعليم جديد.

مقدمة:

يشهد العالم عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة، الأمر الذي يفرض على النظم التربوية تحديات كبيرة، تتمثل في إعداد جيل قادر ليس فقط على التكيّف الإيجابي مع هذه الثورة المعرفيّة، بل قادر على المشاركة في صناعتها، وهذا لن يكون إلا بالتعليم الجيد الذي يضمن تزويد الطلبة بمهارات القرن الحادي والعشرين، مثل مهارات التفكير، والعمل الجماعي وتحمل المسؤوليّة، إلى جانب القيم التي تضبط السلوك.
فالتقويم التربوي هو الذي يكشف عن مدى تحقّق غايات وأهداف “التعليم الجيّد” ودوره في بناء الشخصية المتكاملة معرفيا وجسديا ونفسيا واجتماعيا، وتنبع أهمية التقويم من دوره في المراجعة المنهجية للأنظمة التربويّة بما يضمن جودة مخرجات التعليم، من خلال الإجابة عن أسئلة من قَبيل: هل نحن نسير في الطريق الصّحيح؟ وما مقدار الانحراف؟ وكيف يمكن أن نصحّح المسار نحو تحقيق غاياتنا؟

جدلية المفاهيم: التقييم أم التقويم؟

التقويم هو الحُكم على ظاهرة أو شيء، أو تقدير قيمة معينة له، باستخدام أدوات القياس، واتخاذ القرارات المناسبة في ضوء المعايير المحددة، وبذلك فإن التقويم التربوي يشمل عمليتي القياس والتقييم، ويقوم على مراحل ثلاث كما هو موضّح في الجدول الآتي:

ويتّضح مما سبق أنّ التقييم يتوقّف عند إصدار الحكم، وتحديد مدى تحقّق الأهداف، بينما تأتي عملية التقويم لاحقة لتتضمن اتخاذ القرارات المناسبة بشأن تحسين وتطوير الأداء التربوي. ونظرا لأنّ التقويم يتضمن التقييم أيضًا؛ فقد أعتاد بعض التربويين على استخدام أحد المفهومين للدلالة على الآخر.
وعلي صعيد آخر، فقد حسم مجمع اللغة العربية بالقاهرة الجدل اللُّغوي حول كلمة “تقييم”، حيث أجاز المجمع استخدام هذه اللفظة من باب اشتقاق الفعل من الاسم الجامد (قيمة)، جاء في المعجم الوسيط: ” قيّم الشيء تقييمًا: قدّر قيمته” (المعجم الوسيط 799:2011)

المدخل المنظومي وتطبيقاته التربوية:

المنظومة في جوهرها تعني وجود بنية ذاتية التكامل تترابط مكوناتها ببعضها البعض ترابطاً بينياً في علاقات تبادلية حركية التفاعل قابلة للتعديل والتكيف، ويعني ذلك أن المنظومة بنية مفتوحة وليست مغلقة، وأنها بنية متطورة، وليست جامدة، كما أنها عنكبوتية التشابك، وليست خطية التتابع. (النمر 39:2004)
وهذا الوصف ينطبق تماما على المنظومة التعليمية، التي تتكوّن من عناصر ومكونات متداخلة ومتشابكة ومتفاعلة، وكل عنصر منها يؤثر على باقي العناصر ويتأثر بها.
أما المدخل المنظومي في التربية فهو النظرة الشاملة والمنظمة لعملية التربية، والتي تشمل جميع العوامل المؤثرة فيها مثل الطلاب والمعلمين والمناهج والمنشآت التعليمية والمجتمع المحيط والعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية. ويهدف المدخل المنظومي إلى تحليل هذه العوامل وتفسيرها وتقييمها، وتحديد كيفية تأثيرها على عملية التربية وتحسينها، وبذلك يشجّع المدخل المَنْظُومي على التفكير الشمولي وتحليل العناصر التي تبدو متباعدة لإيجاد العلائق بينها، مما يتيح فهمًا أفضل لديناميكية المنظومة.
ويُعد المدخل المنظومي جزءًا هامًا من النظريات التربوية الحديثة، ويستخدم في تطبيقات مختلفة مثل تطوير المناهج وتحسين العملية التعليمية وتطوير السياسات التعليمية.
تتكون المنظومة التعليمية من: مدخلات وعمليات ومخرجات وتغذية راجعة، حيث تشمل المدخلات ثقافة المجتمع وقيمه، ورؤية المؤسسة التعليمية ورسالتها، والموارد البشرية والماديّة، وجميع المعلومات والبيانات اللازمة للعملية التعليمية التربويّة، أمّا العمليات فتحوي الأنشطة والإجراءات التي تعمل في اتّساق تام لأجل تحويل المُدخلات إلى مخرجات، بينما تُمثّل المخرجات تحقيق النتائج المطلوبة، وينبغي أن تتطابق تلك النتائج مع أهداف التعليم وأن تتصف بالتنافسية والتميّز.
ومما يضمن اتّساق مكوّنات المنظومة التعليمية وتطويرها التغذية الراجعة، وانسياب المعلومات وتدفّقها بين مكوّنات المنظومة، مما يتيح لصانعي القرار التدخّل لتصحيح الانحرافات وسد الفجوات في المنظومة.

تقويم المنظومة التعليميّة:

تعدّ مخرجات التعلّم المحصّلة النهائية للمدخلات والعمليات في المنظومة التربويّة، ويمكن تعريف مخرجات أو نواتج التعلّم بأنها ” ما هو متوقّع من المتعلّم معرفته وفهمه وما سوف يكون قادرًا على أدائه من مهارات، وإظهاره من تصرفات بعد اكتمال عملية التعلّم” (التركي 2021: 260).
وبالنظر إلى تعريف مخرجات التعلّم نلحظ أنها تشمل المعارف، والمهارات، والقيم والاتجاهات التي يكتسبها المتعلمّون نتيجة خبرات التعلّم في المنظومة التربويّة، ورغم اشتمال مخرجات التعلّم على جوانب متعددة إلّا أن التقويم التربوي التقليدي يركّز في الغالب على تقويم المستويات الدنيا من المعارف وبعض المهارات، ويتجاهل قياس القيم والاتجاهات ومهارات التفكير العليا.
وعلى الرغم من الأبحاث التربويّة التي تدعو إلى شمولية التقويم، لتشمل المنظومة التربوية كافّة، إلّا أنّ كثيرًا من النظم التعليمية تعتمد على نتائج الطلبة في تقييم المدارس والمعلمين، فقد أشار التقرير العالمي لرصد التعليم 2018 والصادر عن منظمة اليونسكو إلى أنّ: مساءلة المدارس بسبب نتائج الامتحانات لا تؤدي إلى تحسين التعلم، بل يؤدي ذلك حسب الدراسات إلى لجوء المدارس إلى إعادة تصميم التدريس من أجل الاختبارات والاهتمام بالحفظ والتلقين والتنميط، لذلك فقد ألغت بعض الدول الاختبارات الوطنية الموحّدة، مثل إنجلترا وبعض مقاطعات كندا. (اليونسكو 2018)
ويتبنّى المدخل المنظومي تقويم كل العوامل المؤثرة في جودة المخرجات، من مدخلات وعمليّات المنظومة التعليمية، مثل: فلسفة النظام التعليمي، ومناهج التعليم، وعمليات التعليم والتعلّم والبيئة المدرسيّة وممكّنات النظام التعليمي، كلّ ذلك في ضوء نظريّات اقتصاد التعليم التي تولي اهتماماً كبيرًا لتكاليف التعليم ومردوده وبما يقي من الهدر التعليمي، فكثير من الأنظمة التربوية التي تبدو ناجحة في ظاهرها هي في الحقيقة تستنزف الاقتصاد وتهدر موارد ضخمة بسبب المخاطرة العالية في اتخاذ القرارات دون الاستناد على تقويم جيد، أو بسبب تفسير نتائج التقويم تفسيرات خاطئة أو غير دقيقة.

خاتمة وخلاصة:

  • التعليم منظومة متكاملة تتكوّن من المدخلات والعمليات والمخرجات، وهي مكوّنات تتفاعل فيما بينها ويؤثر كلّ منها على الآخر ويتأثر به.
  • أنجع حركات إصلاح التعليم هي التي تنطلق من مدخل منظومي، يعمل على تحليل مكوّنات المنظومة التربوية وإيجاد العلائق بينها، لاتخاذ قرارات الإصلاح وفق بيانات شاملة.
  • التقويم المنظومي التربوي عملية شاملة، فالتقويم الجيد يؤدي إلى تعليم جيّد.
  • المساءلة التربويّة القائمة على نتائج الامتحانات لا تؤدي إلى تحسين التعلم، بل تشجّع على إعادة تصميم التدريس من أجل الاختبارات والاهتمام بالحفظ والتلقين والتنميط.

 


المراجع:

  • خالد إبراهيم علي التركي.(2021). نموذج مقترح قائم على المدخل المنظومي لتنمية مهارات التدريس عن بعد لدى معلمي اللغة العربية، مجلة الجامعة الإسلامية للعلوم التربوية والاجتماعية. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد (3).
  • مجمع اللغة العربية.(2011). المعجم الوسيط. ط (5)، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية.
  • محمد عبد القادر علي النمر. (2004).أثر استخدام المدخل المنظومي في تدريس حساب المثلثات على التحصيل الدراسي والمهارات العليا للتفكير لدى طلاب الصف الأول الثانوي، رسالة ماجستير، غير منشورة، كلية التربية، جامعة المنوفية.
  • منظمة اليونسكو. (2018 م). التقرير العالمي لرصد التعلّم. https://cutt.us/WJwwS

 

البحث في Google:





عن د. أحمد محمود عبد الباقي

حاصل على درجة الدكتوراة في أصول التربية – مدرّب دولي معتمد- مهتم بقضايا التدريب والتطوير التربوي، يعمل بوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي بدولة قطر.

تعليق واحد

  1. موضوع هام جدا
    شكرا جزيلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *