جون ديوي

جون ديوي وفلسفته في التربية

من الجدير بالذكر أنَّ تاريخ العالم الغربي مُوغل منذ القدم بسلالة عظيمة من الفلاسفة والمُفكرين والعُلماء الذين اعتمدوا على سواعدهم في كسب لقمة العيش، حيث صارعوا الحياة الطبيعية حتى حصدوا منها الزرع المُثمر، واستخرجوا من باطنها المعادن الثمينة البارعة، ولم يعتمدوا على مال  أو أرض موروثة من آبائهم وأجدادهم، فهم دائمًا وأبدًا في صراع مع الطبيعة، يعتمدون في ذلك الصراع على أيديهم وعقولهم، وقد ورثت الأجيال المتأخرة عن رواد المهاجرين الجرأة والإقدام، والاعتماد على أنفسهم، والتحرر من التقليد الأعمى، واحترام الأعمال اليدوية في كسب معاشهم وقوت يومهم، واعتبار النجاح المادي الملموس دليلًا على صحة السُبُل المُتبعة، ومن هُنا نعد جميع الأمريكان براجماتيين باعتبار أنَّ البراجماتية تعبر عن الروح الأمريكية، كما أنَّ المثالية عنوان الروح الألمانية، ثم جاء المفكرون الذين اصطلحنا على تسميتهم بالفلاسفة، وهذا ما عرفه جون ديوي وأمثاله.

الميلاد والنشأة

ولد جون ديوي في العشرين من أكتوبر في مدينة برلنجتون بولاية فرمونت الواقعة في شمال الولايات المتحدة الأمريكية على مقربة من حدود كندا، وهو الإبن الثالث لأسرة من الطبقة الوسطى، فأبوه من نسل المهاجرين الذين وفدوا إلى أمريكا من بلاد الفلمنك فرارًا من اضطهاد الحكام، وكانوا يشتغلون بشتى الصناعات، كالغزل والنسيج والحدادة والزراعة، وقد أمضى ديوي تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة برلنجتيون العامة لا ينفك عن شراء الكتب والاطلاع عليها، وكان يحصل على المال اللازم لذلك من بيع صحيفة المساء التي تصدر في برلنجتون، ومن الاشتغال بترقيم الأخشاب التي ترد من كندا وتحفظ في فناء قريب من البحيرة، هذا مع أنه كان يشارك في أعمال البيت وفي أعمال الحقل حين يذهب عند أقارب أمه في الإجازة، وقد أثر كل ذلك في نشأته الأولى في فلسفته التربوية (الأهواني، 1959م، ص20).

أهمية التربية عند ديوي

لقد اهتم ديوي اهتمامًا كبيرًا بالتربية، ووضع تعريفات كثيرة تُركز عليها، وكان اعتقاده أن كُل تربية تقُوم على مُشاركة الفرد في الوعي الاجتماعي للجنس البشري، وتبدأ هذه المُشاركة لا شُعُوريًا مُنذُ الولادة، ثُم تتطور مع الوليد، ليصل الفرد إلى التُراث الفكري، ومن ثم يُشارك في التطور الحضاري لأُمته، أما المدرسة وهي المُؤسسة الاجتماعية المهمة، فهي في نظر ديوي أول مُؤسسة اجتماعية، وهي عبارة عن صُورة للحياة الاجتماعية التي تُساعد على تحقيق غايات المُجتمع، ولهذا يرى ديوي أنَّ التربية هي عملية من عمليات الحياة بل هي الحياة نفسها، وليست إعدادا لحياة المُستقبل؛ لذا يجب أنْ تُمثل المدرسة والتربية بشكل عام (الحياة الحاضرة)، فالماضي قد انتهى، والحاضر هو الحياة، والمُستقبل لا يعلم به أحد، ولكننا بهذا ورغم كل ذلك نقُول: إنَّ تربية اليوم (الحاضرة) هي رصيد المُستقبل القادم، فنحن نعد الجيل اليوم لمشكلات اليوم، وبإعدادنا هذا نكُون قد حصّنّاه ضد مشكلات المُستقبل، نحن نُعطيه طريقة العمل والبحث، وندله على أنْ يكتشف ويُوازن ويختار، ونُسلحه بسلاح المعرفة العلمية التي يُمكن أنْ يُطبقها في المُستقبل، ولكننا لا نعده لذلك المُستقبل، لا نقولبه في قالب مُعين، ونرسم له طريقه في حياته المُستقبلية، نحنُ نُعطيه مفتاح حياة اليوم؛ ليستعمله أنى شاء في مُستقبل حياته (ناصر؛ وطريف، 2009م، ص111).

ديوي والعملية التربوية

  1. ما دامت العلاقات الفعالة التي تقوم بين الإنسان وبيئته الطبيعية والاجتماعية هي التي تكُوّن قوام الخبرة، كان على المدرسة أنْ تُهيئ بيئة تتسم بالحيوية والواقعية، كما يُمكن أنْ يحدث فيها مثل هذا التفاعل، وحت التلميذ أنْ يكتسب نتيجة هذا التفاعل المعاني المُهمة اللازمة لزيادة خبرته وتعلمه. إنَّ رفض مدارسنا أنْ تكون أمكنة للحياة إنما هو بمثابة انتحار أخلاقي للمُجتمع الذي نعيش فيه خاصة وأنَّ عُلماء النفس يتفقون على أنَّ التعلم يستند إلى مبدأين مُهمين: أنَّ ما نتعلمه يجب أنْ نمارسه، وأننا لا نتعلم كل شيء نمارسه، فنحن نتعلم فقط الشيء الذي ننجح في أدائه.
  2. لقد لحق بأوجه النشاط المُختلفة في الحياة الاجتماعية اليوم من التغيُرات ما يجعل من اليسير النظر العلمي السليم إلى العمل، واعتباره الطريق الصحيح إلى التعلم والمعرفة، فقد أدى تغلغل العلم التطبيقي في كُل جانب من جوانب حياتنا، وما شهده من تطور سريع وعميق، بحيث تعددت المُخترعات والآلات والمُبتكرات، وتعقدت، وأصبحت طلب مقدرة لا يُستهان بها من العلم والبصر والذكاء والمهارة الفنية؛ مما أدى إلى عدم قصر ما يتصل باليد من الأعمال على العبيد والخدم كما كان قديمًا، وهذا يفرض على المدرسة أنْ تصطنع من الأعمال والخبرات ما يُعين الأجيال الناشئة على اكتساب الفهم والإدراك اللازمين في هذا العصر بالذات، ولا شكَّ أنَّ هذا يحتم على الأفراد بالتالي ألا يسيروا في أعمالهم كالعميان؛ بل يقوموا بأعمالهم مُستنيرين بهُدى الفكر وإرشاد الذكاء.
  3. إذا كانت طريقة العلم التجريبية قد أظهرت سخف ما كان شائعًا من فصل بين النظر والعمل، وبين الخبرة والمعرفة، فإنَّ من أهم الاعتبارات التي يجب أنْ تضعها التربية نصب عينيها، أنه لا وُجُود لمعرفة حقّه أو فهم مُثمر إلا أنْ يكُون نتاجًا للعمل، إنَّ هذا يعني أنَّ القياس الصحيح لمدى ما أحرزه التلميذ من تقدم في عملية التعلم لا يكُون بما يقُوم به من تسميع داخل الفصل، وإنما بمدى قُدرته على العمل والنشاط والسُلُوك القائم على البصر والذكاء.
  4. لا بُدً من التخلُص من هذه النظرية المُتعسفة التي تضع هوة بين خبرة التلميذ من ناحية، ومُختلف المواد الدراسية من ناحية أُخرى، على أساس أنهُما مُختلفان نوعًا، وكيفية ذلك تكُون بالعمل على أنْ تتمثل خبرة التلميذ في داخلها العناصر والأحداث والحقائق التي تدخُل في تشكيل المواد الدراسية، هذا من ناحية الخبرة، أما من ناحية المادة الدراسية فيجب تفسيرها على أنها قُوى لازمة لتنمية حياة التلميذ، واكتشاف الخُطُوات التي تلائم بين خبرته الحاضرة وما تتضمنه هذه الدراسات من نُضج أكثر غنى، وأخيرًا فإنَّ جُون ديوي لم يكُن مُعترَفًا به كأبرز المُفكرين الأمريكيين فقط، بل كان المُمثل الذي تجسدت فيه مُعظم الأُمُور التي نعدها أمريكية، ففيه مزيج من البراجماتية التي تُؤكد معيار النتائج العملية، والمنهج العلمي، والاختراعات التكنولوجية، والديمقراطية بوصفها شكلًا للحُكُومة، وطريقة للحياة على حد سواء، والروح الأمريكية الأُولى بما كانت تمتاز به من إيمان بأنَّ الرجُل المادي يستطيع أنْ يبني بالتعاون حضارة أكثر إنسانية (علي، 2010م، ص347-348).

فلسفة جون ديوي التربوية

تتمثل فلسفة جون ديوي في الآتي:

أولًا: ماهيّة التربية: كُل تربية تُقدم على مُشاركة الفرد في الوعي الاجتماعي للجنس البشري، وتبدأ هذه المُشاركة تقريبًا مُنذ الولادة بطريقة لا شعُورية، ثُم تظل تُشكل قوى الفرد بصورة مُستمرة بتغذية شُعُوره، وتكوين عاداته، وتهذيب أفكاره، وتنبيه مشاعره وانفعالاته، وعن طريق هذه التربية اللاشعورية يصل الفرد شيئًا فشيئًا إلى المُشاركة في التراث الذي نجحت الإنسانية في التوفيق بين جانبيه الفكري والخلقي، وبذلك يُصبح الفرد وريثًا لِمَا جمعته الحضارة من رصيد، وتنشأ التربية الصالحة المُثمرة من إثارة قُوى الطفل نتيجة شُعُوره بما تتطلبهُ المواقف الاجتماعية التي يُواجهها، فتُنبهه هذه المطالب إلى العمل كعضو في وحدة، وإلى الانبثاق والخُروج من مُحيط سُلُوكه وشُعُوره الضيق إلى إدراك نفسه من جهة صالح الجماعة التي ينتمي إليها. وللعملية التربوية جانبان: جانب نفسي، وآخر اجتماعي، ولا يُمكن أنْ يخضع أحدهُما للآخر، كما لا يُمكن إهمال أحدهما وإلا أضرّ ذلك بالعملية التربوية، والجانب النفسي أساسي، لأنَ غرائز وقُدُرات الطفل هي الركيزة ونُقطة البداية التي تعتمد عليها تربيته، ولذلك فإنْ لم تتصل مجهودات المُربي ببعض مناشط الطفل، فإنَّ التربية تُصبح ضغطًا من الخارج، ويُؤدي هذا إلى إغلال شخصيته أو وضع العراقيل أمام نموه الطبيعي، ولمّا كان الجانبان النفسي والاجتماعي مُتصلين عضويًا، فلا يُمكن أنْ ننظر إلى التربية بوصفها أنها توفيق بينهما، أو أنها تغليب أحد الجانبين على الآخر.

ثانيًا: في مادة التربية: يعتمد تدريب ونمو الطفل على الحياة الاجتماعية التي تُقدم لجهود الطفل وغاياته، إننا كمُربين نرهق طبيعة الطفل، ونجعل من الصعب عليه أنْ يُحقق نموه الخلقي الصالح عندما نهجم عليه فجأة بمواد كالقراءة أو الكتابة أو الجغرافيا؛ مما يكُون بعيد الصلة عن هذه الحياة الاجتماعية، وليس المركز الصحيح للربط بين المواد الدراسية هو العلم أو الأدب أو التاريخ أو الجغرافيا، بل النشاط الاجتماعي الخاص بالطفل، ولا يُمكن أنْ تتوحد التربية بدراسة العُلُوم، أو ما يُسمى بدراسة الطبيعة، فالطبيعة نفسها وحدة، بل هي عديد مُستغرق من الأشياء في المكان والزمان، وحين نُحاول جعلها مركزَ العمل بذاتها فإنما نتقدم بمبدأ إشعاع لا بمبدأ تركيز، وكذلك لا يُمكن أنْ نجعل الأدب أساسًا للوحدة، ولو أنه ثمرتها، وليس للتاريخ قيمة تربوية إلا بمقدار ما يعرض من أوجه الحياة الاجتماعية ونُموها، وعندما يدرس على أنه مُجرد أحداث الماضي، فإنه يُلقى في أغوارها ويُصبح ميتًا بغير حركة، أما حين يُدرس على أنه سجل لحياة الإنسان الاجتماعية وتقدُمه فإنه يُصبح زاخرًا بالمعاني، ولا يُمكن أنْ ندرس التاريخ إلا إذا اتصل الطفل اتصالًا مُباشرًا بالحياة الاجتماعية، ويجب أنْ نجعل الطفل قادرًا على أداء أنواع النشاط التي حققت للحضارة ما هي عليه، فلا يُوجد أي تتابع في الدراسة في المنهج المدرسي المثالي، وإذا كانت التربية هي الحياة، فلكُل حياة مُنذ البداية جانب علمي وجانب فني وثقافي، وجانب خاص بطرائق الاتصال بين الأفراد، فلا يُمكن أنْ يكون صحيحًا أنَّ الدراسة المُلائمة لفصل مدرسي هي مُجرد القراءة والكتابة، وفي فصل أرقى هي الأدب أو العُلُوم، ليس التقدم في تتابع الدراسات، ولكن في نمو الاتجاهات والاهتمامات نحو الخبرة، ويجب أنْ نُدرك أنَّ التربية مُستمرة للخبرة، وأنَّ عملية التربية وغايتها صُنوان.

ثالثًا: في طبيعة التربية: يسبق الجانب الإيجابي السلبي في نمو طبيعة الطفل، فالتعبير يظهر قبل الانطباع الواعي، ويسبق النمو العضلي النمو الحسي، والحركات سابقة للإحساسات الشُعُورية، والحالات الشُعُورية تميل إلى إظهار نفسها في حركة، وإنَّ إهمال هذا يُلقي بالطفل في أحضان اتجاهات السلبية، ويجعلهُ فردًا مُستقبلًا مُستوعبًا لِما يُلقى عليه، وفي هذا ضياع لوقت ومجهود المدرسة، وتنشأ الأفكار في العمل وتتطور من أجل سيطرة أفضل على العمل، وفي مُحاولة تنمية قوى الاستدلال وقوى الحُكُم يجب تنظيم واختبار وسائل العمل الصالحة، وإلا واجهنا الأطفال برموز لا تعني شيئًا لهم؛ لأنها فرضت عليهم من الخارج، بل يجب أنْ تُقدم لهُم في معنى، ويجب أنْ يُشجع الطفل نفسه على  تكوين المُدركات والمفاهيم؛ لذا يجب على المُربي مُلاحظة اهتمامات الأطفال على أنها مظهر لحالة النمو التي بلغها الطفل، إنها تتنبأ بالمرحلة التي سوف يختارها، ومن خلال المُلاحظة المُستمرة لاهتمامات الطُفُولة يستطيع الراشد أنْ ينفذ إلى حياة الطفل، ويعرف مدى استعداده واتجاه تشوقه.

تُؤكد الباحثة: أنَّ أعظم شر يُصيب التربية بعد الجُمُود والروتين هو العاطفية، فالعاطفية نتيجة الحتمية لمُحاولة الفصل بين الوجدان والعمل، حيثُ إننا لو تمكنا من غرس العادات الحسنة في العمل والفكر التي  تعتمد على الحق والخير والجمال؛ لسارت الانفعالات من تلقاء نفسها في الطريق السليم.

رابعًا: في المدرسة والتقدم الاجتماعي: يعتقد ديوي أنَّ التربية هي الطريقة الأساسية للتقدُم والإصلاح الاجتماعي، وكُل إصلاح لا يعتمد إلا على قُوة القانون، أو الرهبة من بعض العُقُوبات، أو التغيير في التنظيم الخارجي أو الآلي، فهو إصلاح عابر لا قيمة له، والتربية تنظيم لعملية المُشاركة في الوعي الاجتماعي، وتوافق نشاط الفرد على أساس أنَّ هذا الوعي الاجتماعي هو الطريقة الوحيدة المُؤكدة للتجديد الاجتماعي، هذه الفكرة تلحظ بعين الاعتبار كُلًا من الناحيتين الفردية والاجتماعية، فهي فردية؛ لأنها تعترف بتكوين خلق مُعين على أنه الأساس الصحيح الوحيد للحياة الصالحة، وهي اجتماعية؛ لأنها تعترف بأن هذه الحياة الصالحة لا تتكون بالتعاليم والمُثُل والنصائح فحسب، بل بتأثير بعض صُور الحياة الاجتماعية، وحياة المُؤسسات في الفرد، وأنَّ الكائن الاجتماعي عن طريق المدرسة بوصفها مُؤسسة اجتماعية قد يُحقق نتائج أخلاقية، وفي المدرسة المثالية يتم التوفيق بين المُثل الفردية والاجتماعية، وبالتربية يستطيع المُجتمع أنْ يصُوغ أغراضه الخاصة، وأنْ يُنظم وسائله وموارده، ومن مهمة كل شخص يُعنى بالتربية أنْ يُوجه النظر إلى المدرسة بوصفها أساسية وخطيرة في اهتمامها بالتقدُم الاجتماعي والإصلاح، كي يفتح المُجتمع عينه ليرى منزلة المدرسة، وما تقُوم به من عمل، ويتنبهُ إلى ضرورة منح المُربي الحاجات الكافية لأداء مُهمته بنجاح، إنَّ التربية على هذا النحو عنوان على أكمل وأصدق اتحاد بين المُعلم والفن يُمكن أنْ نتصوره في الخبرة الإنسانية، وأرفع الفُنون هو ذلك الفن الذي يُشكل قوى الإنسان ويُلائم بينها وبين الخدمة الاجتماعية، فنمو الخدمة النفسية التي تضيف إلى بصيرتنا معلومات أغزر عن التكوين الفردي وقوانين النمو، ومع نمو الاجتماعي وعلمه الذي يضيف إلى معارفنا التكوين الصحيح للأفراد؛ يُمكن استغلال جميع الموارد العلمية لتحقيق أغراض التربية (الكسواني وآخرون 2003م، ص80-84).

ترى الباحثة: أنّ مهمة المُعلم ليست مجرد تدريب الأفراد، بل تكوين الحياة الاجتماعية الصحيحة؛ لذلك  يجب أنْ يعرف كُل مُعلم كرامة مهنته، إنه خادم اجتماعي انفرد بحفظ النظام الاجتماعي الصحيح، وبتأمين النمو الاجتماعي الصادق، وعن هذا الطريق فالمُعلم دائمًا وأبدًا هو الرسُول الحق والهادي إلى مسلكه.

أهم ما نادى به ديوي في عالم التربية والتعليم في كتاب المدرسة والمُجتمع

يتمثل ذلك في صُور عديدة، منها:

  1. لعل أول الأُمور التي اهتم بها ديوي هي ربط المدرسة بالمُجتمع، وإنه على الرغم من أنَّ هذه الفكرة ليست جديدة في التربية فإنَّ ديوي أكد عليها من جديد، ووضح أنَّ المدرسة جزء لا يتجزأ من المُجتمع، وأنها ينبغي أنْ تكون مُجتمعًا مُصغرًا مشذبًا من الشوائب التي نجدها في المُجتمع الكبير، وإضافة إلى ذلك، فإنه نظر إلى أنَّ دور المدرسة في المُجتمع هو النظر في الثقافة بمعناها الواسع؛ أي: بآدابها وعُلُومها وفُنُونها وعاداتها وتقاليدها ونواحيها المادية والتكنيكية، وإعادة بنائها، حيث إنَّ المدرسة تؤدي دورين أساسيين في خدمة المُجتمع الذي تنشأ فيه؛ أولهُما نقل التراث بعد تخليصه من الشوائب، وثانيهُما ما ينبغي إضافته لكي يُحافظ على حياته.
  2. يرى ديوي أيضًا أنَّ عملية التربية والتعليم ليست عملية إعداد للمُستقبل؛ بل إنها عملية حياة، وقد تظهر هذه العبارة غامضة لغير المُشتغلين بالتعليم؛ لذا فلا بُدَّ من توضيحها أولًا لكي يسهل على رأي جون ديوي في هذا الأمر.
  3. كذلك اهتم ديوي بالعمل كعملية تربوية، ودعا إلى ضرورة العناية بالأعمال اليدوية والمهنية في المنهج المدرسي، وعدم الإقلال من شأنها، كما دعا إلى مبدأ الفعالية في الحُصُول على الخبرة والتعلم، ولا يبدو الاهتمام بالنواحي العملية بالنسبة لمُربي وفيلسُوف براجماتيكي كجون ديوي بالأمر الغريب، دام أنَّ التجربة هي التي تظهر صدق آرائنا وفرضياتنا أو خطئها، فالتربية العملية بمُختلف أشكالها هي التي ينبغي أنْ تكون لها الأسبقية في المنهج، إنَّ هذا الرأي طبق بأشكال عدة في المدارس التي أخذت بتعاليم جون ديوي، ومن أبرز هذه الأشكال؛ رفع مكانة الموضوعات المهنية والعملية والنظر إليها على قدم المُساواة مع المُوضوعات النظرية التقليدية، أما فكرة الفعالية في التربية التي دعا إليها ديوي فقد تبلورت فيما سُمي بطريقة المشروع، وخُلاصة هذه الطريقة أنَّ المواضيع تدرس على أساس نفسي وليس على الأساس التقليدي، فجون ديوي يُبرر هذا الأُسلُوب التعليمي بأكثر من سبب ويُفضله على الأُسلُوب التقليدي الذي يعتمد على المواضيع الجاهزة والمُصنفة تصنيفًا منطقيًا إلا أنه تصنيف مُصطنع، ونجد في طيّات كتاب المدرسة والمُجتمع ما يجعل هذا الأُسلُوب مفضلًا عند جون ديوي.
  4. ربط جون ديوي بين التربية والديمُقراطية ربطًا قويًا، ولعلّ عنوان كتابه التربوي الأول “الديمقراطية والتربية“، خير مُمثل لنزعته هذه، والديمُقراطية عند جون ديوي كما هي عند غيره من المُفكرين المُحدثين أُسلُوب في الحياة، وليست مُجرد تطبيق سياسي لمفهوم قديم يرجع عهده إلى اليونان في العُصُور القديمة، وقد قال ديوي في هذا الصدد: “فليست الديمقراطية مُجرد شكل للحُكُومة، وإنما هي في أساسها أُسلُوب من الحياة المُجتمعية والخبرة المُشتركة المُتبادلة”، وعلى هذا الأساس فالديمقراطية عند ديوي أشكال عدة، فهي مُساواة بين الأفراد في تهيئة فُرص مُتكاملة لهم دون أي تمييز بينهم، وهي تكافل اجتماعي، وهي علاقات إنسانية تتسم بالأخذ والعطاء وتغليب الذكاء البشري والخبرة في حل الخلافات والمُشكلات، ولو أردنا أنْ نُترجم هذه المفاهيم إلى مواقف وسُلُوك وفعاليات في المدرسة وخارجها لاحتجنا إلى قائمة طويلة جدًا، ولكن يكفي أنْ نقُول أنَّ المدرسة الديمقراطية يعيش فيها المُتعلمُون والمُعلُمون والعاملُون الآخرون كلهم زملاء متُعاونون لتحقيق هدف مُشترك، وإنَّ الهدف المُشترك يخدم الأغلبية الساحقة إنْ لم يكن يخدم جميع أعضاء المدرسة.

الآراء التربوية لجون ديوي

  1. ربط المدرسة بالمُجتمع.
  2. التربية عملية حياتية، وليست عملية إعداد للمُستقبل.
  3. الاهتمام بالموضوعات العملية والمهنية وبمبدأ الفعالية بصورة عامة.
  4. العلاقة بين الديمقراطية والتربية.

إنَّ آراء ديوي هذه وغيرها صادفت عند كثير من المُربين والمُعلمين في الولايات الأمريكية المتحدة وفي خارجها من بلدان العالم الأُخرى، وقد كانت المجتمعات التربوية التي أسست على نطاق عالمي، واسمها رابطة التربية الحديثة تضم الدعاة للتربية الحديثة التي نبّه ديوي إليها الأذهان، ودعا إليها، وقد كان مقر هذه الرابطة في لندن، وكان لها فروع في كثير من بلدان العالم، أما فرعها في الولايات المُتحدة فكان يسمى بجمعية التربية التقدمية، وكان لرابط التربية الحديثة فرع في القطر المصري كما كان لها فرع في القطر العراقي، وقد كانت حركة التربية الحديثة بنشاط في كثير من بُلدان العالم لإعادة النظر في نُظم التربية، وجعلها تُساير العصر الحديث، كما نشطت هذه الحركة عن طريق أعضائها أو غيرهم، بتعريف مُؤلفات جون ديوي إلى كثير من اللُغات، وقد كان حظ اللُغة العربية غير قليل من نقل آثار ديوي إليها.

 


المصادر والمراجع

ديوي، جون. (1978). المدرسة والمجتمع، (ترجمة د. أحمد حسن الرجيم)، ط2، بغداد: مكتبة فرانكلين للطباعة والنشر.

ديوي، جون. (د.ت). نوابغ الفكر الغربي، (ترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني)، ط3، بيروت: دار المعارف.

علي، سعيد. (2010). أُصُول التربية، ط2، عمان، الأردن: دار المسيرة النشر والتوزيع والطباعة.

الكسواني وآخرون. (2003). مدخل إلى التربية،  ط1، عمان، الأُردن: دار قنديل.

ناصر، إبراهيم؛ وطريف، عاطف. (2009). مدخل إلى التربية، ط1، عمان، الأردن: دار الفكر.

البحث في Google:





عن رجاء صلاح صندوقة

باحثة بدرجة الدكتوراة، قسم المناهج وطرق التدريس، كلية التربية، الجامعة الإسلامية – غزة، فلسطين

3 تعليقات

  1. محمد عبدربي

    شكرا الاستاذة رجاء صالح صندوقة على مقالك القيم و المكتوب بلغة سلسة وممتعة و الذي عرفنا على اعمال هذا المفكر الكبير جون ديوي. مزيدا من التالق و التوفيق في مسارك المهني و الاكاديمي.

  2. شكرا جزيلا
    مهم التذكير بمبادىء فلسفة التربية

  3. موضوع مهم جدا والرجوع اليه يعد محطة ضرورية في عصرنا لما له من أهمية خاصة تناوله للتربية كمؤثر من مؤثرات التغير الاجتماعي. ارجو تزويدنا بنسخة من المقال على صيغة PDF

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *