مؤسسات ثلاث مؤثرة في الطفل..

“…وإن من يضيق بفترة الطفولة لا يدرك أن النوع البشري كان حريا أن يهلك لو لم يبدأ الإنسان طفلا… فنحن نولد ضعافا، في حاجة إلى القوة ونولد مجردين من كل شيء، في حاجة الى العون. ونولد حمقى، في حاجة إلى التمييز. وكل ما يعوزنا حين مولدنا ونفتقر إليه في كبرنا، تأتينا إياه التربية”.[1]

نعلم جميعا أن مرحلة الطفولة تتميز بحيز كبير للأخذ وبناء الشخصية من جميع جوانبها، وأنها مرحلة مهمة وحساسة تنبع نتائجها في مراحل متقدمة، فالطفولة مشروع مجتمع ناشئ، قلب نابض في حاضره ووسطه الأسري ومستقبل الوطن المشرق.

فإن الصبي مهما أُهْمِل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سَروقا نماما لَحوحا ذا فضول وضحك وكِيادٍ ومَجانةٍ. وتعتبر ذكريات الطفولة مؤسسات للشخصية وذات أثر دائم في تصرفات وحياة الإنسان…

لهذا هناك مجموعة مؤسسات مؤطرة للطفل ومرافقة له في مرحلته الطفولية ترتكز على مقومات وأهداف تربوية بنائية ترفض السلوك السلبي وتصححه وتقومه وتنوه بالسلوك الايجابي وتطوره.. مؤسسات مجتمعية لها فضاء محتضن وفاعلون مؤهلون وبرامج وأهداف مسطرة مؤثرة في شخصية الطفل تتكامل أدوارها وتتداخل تربية وتدريبا وتعليما.

الأسرة

يقول الأحنف بن قيس:

” أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصُول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك وُدهم، ويحبّوك جهدهم، ولا تكن عليهم قُفلا فيتمنّوا موتك ويكرهوا قُربك ويملّوا حياتك “

كلام جامع شامل سلوكا وعقلية في التعامل مع الأبناء، حيت ينبغي أن تكون نظرتنا لهم نظرة إيجابية مشجعة، وأن نغمرهم بحبنا وعطفنا وحناننا، بدلا من الصراخ في وجوههم، وإعلان الثورة عليهم لأتفه الأسباب، وهذا حتى لا يكتسبوا منا سلوكا غير مرغوب فيه يؤثر فيهم مدى الحياة.

تختلف التعاريف في مفهوم الأسرة ويتفق الجميع على أهميتها ومركزيتها وتأثيرها.

الأسرة هي الخلية الأساس ضمن المجتمع، حجر الزاوية والمركز والمحتضن الأول الذي يفتح فيه وعليه المولود-الطفل عينيه ويترعرع فيه، يوفر له كل الاحتياجات والحاجيات الضرورية المادية والمعنوية والعاطفية، ينعكس عالمها وأجوائها على شخصيته وتصرفاته مدى الحياة…

روى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه. كما تُنتَجُ البهيمة بهيمة جمعاءَ. هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء!” الحديث.

الأم والأب هما محركا مؤسسة الأسرة ومركزا دائرتها كيف لا والأبوان يؤثران على دين الإنسان وتوجهه يمجسان أو ينصران أو يهودان، فكيف لا يكونان ضمن أسرة تؤثر في تنشئة جيل متميز وصناعة المستقبل الأفضل لهذه الأمة.

ثبت علميا أن الطفل يتأثر بما يحيط به تأثرا كبيرا ويترسخ فيه بقية حياته وعمره أثرا على الجانب الصحي والنفسي، وكما هو معروف لدى علماء التربية أن الطفل يولد معتمدا على أسرته في اكتساب سلوكياته، وتنمية شخصيته؛ لأن الأسرة هي المحضن التربوي الأول الذي يرعى البذرة الإنسانية منذ ولادتها، ومنها يكتسب الكثير من الخبرات والمعلومات والمهارات، والسلوكيات والقدرات التي تؤثر في نموه النفسي -إيجابا وسلبا– وهي التي تشكل شخصيته بعد ذلك وتبنيها.

تبدأ هذه المؤسسة بالزواج وإنجاب الأطفال أو تبنيهم وفيها يهتم الأبوان برعاية الأطفال وتوفير حاجياتهم فنحن أمام عظم مسؤولية الإنسان عن ذريته، تصلح إذا عمل على إصلاحها وتفسد إذا لم يحسن تنشئتها. الأسرة القوية تعتبر عماد المجتمع القوي والأم المربية المصلحة عماد الأسرة الصالحة.

وتبقى الأسرة دائمةَ التأثير والبناء وما يأتي بعدها من مؤسسات أخرى مؤثرة فهي تكمل عمل الأسرة ويرتكز عملها في بناء وتعليم الطفل على دعم الأسرة واستقرارها الجيد، والدليل على ذلك أن أي خلل في هذه المؤسسة الأم ينعكس سلبا على مؤسسة المدرسة والمسجد.

يقول الشاعر أبو العلاء المعري:

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا                  عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ

وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن              يُــــــــــعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ

لكن من أكبر التحديات التي تواجه الفرد والأسرة هي تنشئة الأبناء تنشئة صحيحة تليق بالمقام. ومن أهم الأسئلة التي تُطرح بهذا الصدد: كيف نُعِدّ أبناءنا إعدادا وسطيا، متوازنا وشاملا يرضي الله تعالى؟ وما هي المبادئ التي تلخص الطريقة المثلى في تربية “عماد ظهورنا”؟

ونترك هذا إن شاء الله تعالى إلى موضوع تفصيلي يتناول آراء أهل التخصص والميدان والتجربة من نواح عدة إن شاء الله تعالى.

المدرسة

بعد فترة الحضانة والرعاية لفترة معينة تدخل إلى عالم الطفل مؤسسة مؤثرة مؤطرة لا تقل أهمية عن الأولى -الأسرة- ألا وهي المدرسة…

تعتبر المدرسة عبارة عن مؤسسة اجتماعية، بمعنى آخر عبارة عن مجتمع مصغر يعيش به الطفل ويكتسب ويعطي فيه.

هذه المؤسسة لها التأثير الكبير على الطفل ومهمتها الأساسية التعليم والتربية على أساس يهيئ الطفل ويجعله قادرا على أن يندمج بشكل صحيح ويكون فاعلا بشكل إيجابي، والأكثر من هذا أن يكتسب المناعة الأخلاقية ويلقن قواعد التعلم الذاتي والحصانة ضد ما يفسد ما اكتسبه.. ولا يمكن أن تحقق مؤسسة المدرسة هذه الأهداف إلا إذا كانت هي في حد ذاتها تتوفر على نظام وجو وأطر منسجمة تصنع وتوفر بيئة مناسبة ينمو فيها عقل وجسم الطفل وخلق توازن بين الأمرين.

تستمر مهمة المدرس على مدى ثلاث مراحل: المرحلة الابتدائية ست سنوات، والإعدادية ثلاث سنوات، والثانوية ثلاث سنوات، أي ما مجموعه اثنتي عشرة سنة بمعنى أن المدة مدة مهمة وكافية للثأثير بشكل كبير وخاصة في فترة عمرية حساسة جدا وتربتها خصبة ينمو فيها كل زرع سواء فاسد أو صالح، ويفسد الزرع الصالح إذا لم نحسن رعايته وسقايته…

وتظهر أهمية المدرسة كونها تعتبر امتدادا لما بدأته الأسرة في التربية والتنشئة بحيث تعتبر البيئة الثانية التي يتواصل فيها نمو الطفل وإعداده ودمجه في إطار الحياة الاجتماعية، وهذا يستلزم أن تكون ” المدرسة مؤسسة تربوية مكونة ومؤهلة وحاضنة مبنية على قواعد وأسس اجتماعية وثقافية وإنسانية صحيحة وأصيلة، تربط بين كافة الفاعلين وتوحد رؤاهم وتصوراتهم واستراتيجيتهم لخدمة التلميذ وبناء المجتمع…”[2]

المسجد

للمسجد مكانة ودور محوري في حياة الإنسان وأثر تربوي وتعليمي كبير جدا، فقبل أن نتحدث في زمن من الأزمان عن مدرسة اليوم التي تقوم بدور التربية والتعليم، لم تكن هناك مؤسسة تقوم بهذا الدور من غير المسجد.

ومن منا من ليس في ذاكرته أثر طيب وذكريات جميلة عن ذهابه للمسجد، إما للكتاب للحفظ والتعليم أو رفقة احد الأقارب والوالدين للصلاة وخاصة أهل البادية الذين يعتبرون المسجد أول مؤسسة للتربية والتعليم بالنسبة للطفل، ففيها يتعلم الأدب والأخلاق ويختلط بالناس ليتشرب معاني التعايش وحسن المعاملة ويتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن الكريم ويحسن ترتيله.

وهذا إن دل إنما يدل على الأثر الكبير والوقع القوي للمسجد في تربية الأطفال وتعليمهم وتكوينهم، ففي المسجد يتعلم الطفل مبادئ النظام من خلال الالتحاق في وقت معين ومن خلال الصلوات الخمس والتراص في الصفوف.

كما أن أول ما يدخل الى جوف الطفل مند نعومة أظافره الكلمات القرآنية النيرة ليس لمعناها فقط، ولكن لنورانيتها فتطلق لسانه وتنير قلبه وتهذب أخلاقه وترسم ابتسامة الأدب والاحترام والبشاشة على وجهه.

المسجد علاج نفسي وتحصين خلقي ورفع للإيمان وتثبيت للعقيدة خاصة في مرحلة المراهقة، وبهذا يكون للمسجد على الطفل أثر كبير جدا يجعله يكتسب العلم والتربية ويكون قادرا على مواجهة المشكلات الشخصية والاجتماعية ويساهم في بناء شخصيته المتوازنة القوية.

ورسالتي إلى الآباء أن أنشئوا أولادكم في رياض القرآن ورحاب المسجد إلى جانب دور الأسرة المركزي والمدرسة، فإن زلت بهم الأقدام يوما أو تاهوا أو مالوا عن الطريق الصحيح ساعة فإن النور الذي بداخلهم والخير الذي سرى في دمائهم سيكون سببا في ردهم بحول الله.

 


[1] جون جاك روسو ’’’

[2]  الأستاذ أحمد أسرار(مقال)

البحث في Google:





عن عبد الفتاح حاجي

فاعل سوسيو تربوي، مدرب في الحساب الذهني، ومهتم بتطوير ذكاء الأطفال وتتبع صعوباتهم ، منشط ثقافي - المملكة المغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *