يُشكل تنمية التفكير بمختلف أنواعه محورًا أساسيًا في توجهات النظم التعليمية المعاصرة، إذ لم يعد التعليم يقتصر على نقل المعرفة، بل أصبح يركز على تمكين المتعلم من توظيفها بفاعلية في مواقف الحياة المتنوعة. لذلك نجد انه من واجب وزارة التربية والتعليم الفلسطينية أن تولي اهتماما خاصا بتنمية مهارات التفكير لدى الطلبة، وهو ما يجب أن يتجلى بوضوح في المناهج الفلسطينية وذلك لبناء جيل قادر على التفاعل الإيجابي مع تحديات القرن الحادي والعشرين، بل تحدد أيضًا السياسات والممارسات التي ينبغي اتباعها لتحقيق هذا الهدف، من خلال ربط المحتوى التعليمي بالأنشطة المحفزة للعقل.
وتعتبر المناهج الدراسية هي الوثيقة والأداة التي تعكس رؤية ورسالة الوزارة لتحقيقها، فوظيفة المنهاج تقديم نموذج للفرد الذي يمتلك المعارف والمهارات بما ينسجم وعصر المعرفة، وتنمية استعداده وميوله نحو الإبداع والابتكار.(وثيقة الإطار العام للمناهج الفلسطينية المطورة، 2016: 5).
يُعدّ مبحث التكنولوجيا ميدانًا خصبًا لتنمية مهارات التفكير وتحفيزها وإثارتها؛ إذ يهتم بدراسة التكنولوجيا باعتبارها نشاطًا إنسانيًا متكاملًا، من خلال تحليل النظم وعناصرها الأساسية، والتي تشمل الأدوات والمواد والمعرفة والمهارات والطاقة والوقت ورأس المال، إضافة إلى تتبع تطور هذه النظم وطرق استثمار الموارد في حل المشكلات العملية، فضلًا عن دراسة آثار التطور التكنولوجي على الأفراد والمجتمعات والبيئة (محمد، 2023). وانطلاقًا من ذلك، تحتل مهارات التفكير مكانة متقدمة ضمن أهداف تدريس التكنولوجيا، نظرًا لارتباطها الوثيق بعمليات العلم ومهاراته، وبناء المعارف العلمية والشخصية التي تُسهم في تنمية التفكير الفردي (حسن، 2022، ص38). وبالرجوع إلى الأهداف العامة لتدريس منهاج التكنولوجيا الفلسطيني (وزارة التربية والتعليم العالي، 2017)، نجد أن من أبرزها: تعزيز مهارات التفكير العلمي، وتنمية القدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات، من خلال التعلم التعاوني والتجريبي، وربط المعرفة التكنولوجية بمختلف مجالات الحياة اليومية، مع تمكين المتعلمين من توظيف هذه المعارف لحل مشكلات واقعية، وتهيئتهم لمتطلبات سوق العمل، وتشجيعهم على الإبداع والابتكار والريادة.
فلقد جاء في مقدمة كتب مبحث التكنولوجيا المطورة (2020 : 3) بأن “مبحث التكنولوجيا اللبنة الأساسية في تنفيذ المناهج الأخرى. كونه يهدف إلى بناء القدرات التكنولوجية لدى الطلبة، وينقلهم من التعلم النظري إلى التطبيق العملي، ويشجع العمل الجماعي؛ للانطلاق إلى المجتمع بروح بناءه. وهو يركز بمضمونه العام ونشاطاته على كفايات التصميم والتنفيذ، ويعزز النظرة التحليلية ويحفز طرائق متشعبة ومتنوعة في التفكير، وخاصة مهارة حل المشكلات”
ولأن المحتوى هو الوثيقة الرسمية لمنهاج التكنولوجيا والممثلة له نجد العديد من الدراسات التي تناولت تحليل المحتوى لمعرفة مهارات التفكير المتضمنة فيه فيقول ابراهيم (2005، 125) أنه “من منطلق أن المنهج هو وسيلة التربية الأساسية لتحقيق أهداف التربية المأمولة، وأيضا من منطلق أن المنهج له تأثيراته الضمنية غير المقصودة التي لا تقل فاعليتها عن دور المنهج المقصود، فإننا نجزم بدرجة كبيرة من الثقة أن المنهج الصريح والمنهج الخفي- على حد سواء- لهما دورهما الكبير في اكساب المتعلمين مقومات التفكير الدقيق، الذي يجب أن يتسم بالعملية الخالصة”
وبالرجوع للدراسات السابقة المتوفرة لمعرفة مدى تضمن منهاج التكنولوجيا للصفوف من الخامس حتى الثاني عشر لمهارات التفكير على اختلاف أنواعها كدراسة (حسن، 2022) التي أظهرت تضمن كتاب التكنولوجيا للصف الثامن لجميع عمليات العلم والتي وصفها بأنها ليست مجرد جمع وتصنيف الحقائق أو البيانات، وإنما هي أسلوب للتفكير في الحلول لكافة المشكلات، للوصول إلى تفسيرات دقيقة وصادقة، وكذلك أظهرت نتائج دراسة جيوسي وشديد (2022) تضمن محتوى كتاب التكنولوجيا للمرحلة الثانوية في فلسطين عدد كبير من مهارات التفكير المنطقي ، وأكدت كذلك دراسة شيخ العيد (2019) على توافر جميع مؤشرات مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات في محتوى كتب التكنولوجيا بنسبة إجمالية بلغت %61.14 من خلال دراستها لمدى توفر مهارات القرن الواحد والعشرين في كتب التكنولوجيا للمرحلة الثانوية. وتعقيباً على ذلك نجد ان للتفكير ومهاراته على اختلافها وتنوعها موقع ومساحة جيدة لا يستهان بها ضمن طيات الكتب وصفحاتها وتحتاج لميدان حقيقي للتطبيق فطبيعة منهاج التكنولوجيا الفلسطيني حسب خبرة الباحثة كمعلمة تكنولوجيا في المدارس الفلسطينية لما يزيد عن عشر سنوات قائم على الأنشطة والتطبيق العملي بحاجة ماسة لبيئة تدعم التعلم القائم على النشاط والمشروعات والتطبيق العملي .
فلقد أشار شلاكة (2012 :230 ) لدور البيئة الصفية في تنمية التفكير بقوله “هنالك أسباب عديدة تحتم على مدارسنا الاهتمام المستمر بتوفير البيئة الملائمة لتطوير قدرات التفكير وتحسينها لدى الطلبة بصورة منظمة وهادفة لمساعدتهم على التكيف مع متطلبات العصر حيث أن تعلم مهارات التفكير وعملياته تبقى صالحة متجددة لمساعدتهم على التكيف مع متطلبات العصر ولمعالجة المعلومات مهما كانت، وتمثل البيئة المدرسية والصفية الإطار العام الذي تنصهر داخله مكونات العملية التربوية وأن درجة الانسجام والتكامل بين هذه المكونات تتأثر مباشرة بالخصائص العامة للبيئة المدرسية والصفية بصورة تنعكس مباشرة على الاتجاهات العامة للمتعلمين والطلاب وأولياء الأمور نحو عمليات تنمية التفكير ” وقد أيدت الدراسات والبحوث التربوية ما سبق فكانت تشانغ وآخرون (2023) والتي أكدت على وجود تأثير ايجابي كبير على للشعور بالمكان في البيئة الصفية على الابداع ، ودراسة وان وونج (Kwan, Wong ، 2016) التي أظهرت وجود تأثير كامل وطردي على العلاقة بين بيئة التعلم البنائية والقدرة على التفكير النقدي. وبالنظر الى واقع البيئة التعليمية الفلسطينية من خلال قراءة أرقام الاحصاءات الخاصة بقطاع غزة الواردة في وثيقة الكتاب الإحصائي التربوي السنوي للعام الدراسي 2023-2024 (2024 :12) نجد معدل المساحة المخصصة لكل طالب 1.2 م ، ومعدل الطلاب لكل شعبة 38.7، ومعدل الطلاب لكل معلم 27.1، وبلغ التوزيع النسبي للمدارس التي تتوفر بها مكتبات 87.4، التوزيع النسبي للمدارس التي بها مختبرات علوم 87.6، والتوزيع النسبي للمدارس التي يتوفر فيها مختبر حاسوب 90.7، وبلغ معدل الطلاب لكل جهاز حاسوب 46.2 وتعتبر هذه المواصفات للبيئة التعليمية غير داعمة لتعليم التفكير وتنمية مهاراته فهي تحد من حرية المتعلم وقدرته على تنفيذ الأنشطة بفاعلية فنصيبه من الأدوات والأجهزة اللازمة لدعم التعلم يقل كلما زادت الكثافة الصفية وقلت المساحة المخصصة للحركة بالبيئة المدرسية.
على الرغم من قصور البيئة المدرسية على تحفيز التفكير وتنمية الابداع والابتكار .نجد سؤالا يطرح نفسه هل للمعلم من دور في تنمية التفكير وتحفيزه بالرغم من قصور البيئة التعليمية وقلة الموارد المادية الداعمة لتعليم التفكير
بالرجوع للدراسات السابقة نجد العديد منها أكدت على دور المعلم الفاعل في تنمية التفكير كدراسة علاونة (2024)، ودراسة مخلوف وصالح (2020) اللتان اكدتا على أن المعلم دور في تنمية مهارات التفكير على اختلاف انواعها .
ولكن نجد أن المتبصر للواقع التربوي يجد عمق الفجوة بين ما هو مأمول لتنمية التفكير وما بين الواقع الذي نعايشه اليوم حيث أن عملية التحول الرقمي للتعليم في السياق الفلسطيني تواجه الكثير من التحديات وهذا ما أوضحته دراسة شحادة وبرهان الدين(2025 )، والتي أكدت نتائجهم محدودية الموارد اللازمة للتحول الرقمي، وذلك بسبب سياسات التعليم الفلسطينية، والتحديات التكنولوجية، وضعف البنية التحتية الرقمية، والقيود الاجتماعية والسياسية التي تعيق التطبيق الفاعل للمناهج التطبيقية، ودراسة فراجيكي وآخرون (2015) التي اوضحت ان أسباب ضعف التعليم النقدي وضعف مهارات القرن الواحد والعشرين في سياق التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه فلسطين تمثلت في ضعف البنية التحتية الذي أدى الى قلة أجهزة الحاسوب وسوء اتصال الإنترنت في المدارس، والدور السلبي لبعض الإدارات المدرسية يؤدي للشعور بالإحباط، بالإضافة لشكوى المعلمين من المنهاج المكثف وازدحامه، وكثرة المتطلبات البيروقراطية وكذلك اتباع أساليب التقويم التقليدي التي تركز على قياس مدى حفظ المعلومات بدلًا من تقييم مهارات القرن الحادي والعشرين. كل ذلك أدى للحدّ من الوقت اللازم الابتكار عند المعلم والطالب على حدٍ سواء.
خاتمة القول نجد ان للتفكير في المناهج الفلسطينية بشكل عام ولمبحث التكنلوجيا بشكل خاص مساحة كبيرة ولكن نظرا لقلة الامكانيات والموارد المتاحة لتهيئة بيئة صفية مناسبة لتعليم التفكير تعيق عملية التطبيق بشكل كبير ، نجد أن المعلم يقع على عاتقه الكم الأكبر من العمل لتعليم التفكير اذا ما استطاع ان يوظف ما لديه من امكانيات بفاعلية لتحقيق ما تصبو اليه العملية التعليمية برمتها من بناء نظام تعليمي يسهم في ترسيخ القيم الأخلاقية الوطنية والإنسانية، ويشكل حاضنة للتفكير النقدي، ويطور أسس البحث والشغف والمعرفة، من خلال تمكين الكوادر التربوية المتميزة والقادرة على إحداث تغير إيجابي في العملية التعليمية، وتسهم مخرجات النظام التعليمي الجديد في تلبية متطلبات التنمية الشاملة، وإنشاء فرص اقتصادية واعدة تحقق أهداف المجتمع الفلسطيني المتنور الحديث”.(وثيقة الإطار العام للمناهج الفلسطينية المطورة، 2016: 9).
المراجع:
- ابراهيم، مجدي عزيز (2005). المنهج التربوي وتعليم التفكير .دار الكتب للطباعة والنشر والتوزيع ط(1) القاهرة
- جيوسي، مجدي وشديد، سهى (2022). تحليل محتوى كتب لتُكنولوجيا للمرحلة الثانويّة وفقاً للتّفكير المنطقي. مجلة جامعة فلسطين التقنية للأبحاث ،مج(10)، ع(1)، ص ص 50-76
- حسن، منير سليمان (2022). تحليل محتوى كتاب التكنولوجيا للصف الثامن الأساسي في ضوء عمليات العلم. مجلة الجامعة الاسلامية للعلوم التربوية والانسانية. ع(31) ص ص 37-57
- شلاكة، مرتضى حميد(2021). دور البيئة الصفية في تنمية التفكير ،مجلة البحوث التربوية والنفسية، جامعة بغداد ، ع(38) ص ص 229-252
- شيخ العيد ، سمية (2019). تحليل محتوى كتب التكنولوجيا للمرحلة الأساسية في ضوء مهارات القرن الحادي والعشرين، ومدى اكتساب طلبة الصف العاشر لها .رسالة ماجستير غير منشورة الجامعة الاسلامية غزة الكتاب الإحصائي التربوي السنوي للعام الدراسي 2023-2024 (إحصاءات المدارس ورياض الأطفال) (2024). وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
- علاونة، عبد المجيد نايف (2024). دور المعلمين في تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى طلبة المدارس الفلسطينية من وجهة نظر المعلمين أنفسهم (دراسة على عينة من المعلمين في محافظة بيت لحم) . المجلة الأكاديمة للنشر والبحث العلمي ، العدد (60)، ص ص 105-120
- مخلوف ، عيسى و صالح ، حامد (2020). دور المعلمين في تنمية مهارات التفكير الابتكاري لدى طلبة المرحلة الثانوية من وجهة نظر الطلاب ،مجلة المنارة العلمية ع(!). ج(1) ص ص 45 – 56
- فروانة ،أكرم (2018). إثراء مُحتوى مقرر التكنولوجيا للصف الثاني عشر في ضوء مَهارات التَفكِير المنّظومي .مجلة جامعة فلسطين ع (7). غزة
- وثيقة الإطار العام للمناهج الفلسطينية المطورة (2016). وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
- محمد، ايهاب ابراهيم السيد (2023). تعلم التكنولوجيا وعلاقته بتنمية التفكير. موقع تعلم جديد، تاريخ الزيارة 29/8/2025 https://www.new-educ.com/%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7(-%D9%88%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1
- Zhang Jianzhen, Yang, Yukun, Ge, Jiahao, Liang Xiaoyu & An Zhenni(2023). Stimulating creativity in the classroom: examining the impact of sense of place on students’ creativity and the mediating effect of classmate relationships, BMC Psychology
- Kwan Wan a, Wong Angela F.L.(2016). Effects of the constructivist learning environment on students’ critical thinking ability: Cognitive and motivational variables as mediators, International Journal of Educational Research Volume 70, 2015, Pages 68-79
- شحادة، محمد و برهان الدين، برهان الدين (2025). التحول الرقمي في التعليم: تنفيذ السياسات وتحدياتها في فلسطين، المجلة الدولية للتعليم القائم على البحث ، مج (7) ع(2)
- Fragkaki, Maria ,Sharif Mohamed, Fadel Suad (2015). ICT in Palestinian Education: Emancipatory Action Research towards 21st C. Skills , International Conference on Critical Education