بورديو

بيير بورديو و أطروحة إعادة الإنتاج الاجتماعي

1- مقدمة:

احتلت أعمال بيير بورديو Pierre Bourdieu مكانة متميزة في علم الاجتماع وعلاقته بالتربية، هذا ما أجمع عليه العديد من الباحثين، كما كان لها تأثير مهم في مجرى البحوث و توجهاتها النظرية، فطَرح بيير بورديو يندرج أساسا في اتجاه ما بعد البنيوية، و إن كان قد اعتمد أسس التحليل البنيوي، إلا أنه عمل على تجاوزها « لا نستطيع القول إطلاقا أن نظرية بيير بورديو تختصر المبادئ البنيوية، بل يمكن اعتبارها أنها قد تكونت عن طريق الاعتناء بهذه المبادئ وفي الوقت نفسه عن طريق نقدها»1.
يأخذ بيير بورديو موقفه من الصراع العام بمقاربته للنظام التعليمي، كمجال مرتبط بالنظام الاجتماعي ككل. و هكذا يمكننا اعتبار كتاب ” معاودة الإنتاج “ كمحاولة لإقامة و تأسيس نظرية للنظام التعليمي. إن بورديو ليس برجل تربية، ولكن يتخذ الميدان التربوي كموضوع لدراسته، واهتمامه يتمحور أساسا على دراسة العلاقات المتبادلة بين العمليات التربوية الجارية في المجتمع و بين النظام التعليمي المرتبط بتشكيلة اجتماعية معينة، ضمن بحوث ميدانية و تطبيقية من خلال تحليله لبعض الجامعات و المدارس العليا.
اهتمت أعمال بيير بورديو على الخصوص بدراسة النظام التعليمي من الداخل عن طريق التركيز على دراسة المسارات التي تجري داخل النظام التعليمي و الأولويات البيداغوجية الانتقائية. سنعرض ثلاث تصورات لبيير بورديو تتمثل في نسق المواقف، ومفهوم الأبتوس و أطروحته حول إعادة الإنتاج.

2- الأبتوس Habitus:

إذا كانت عبارة ما بعد البنيوية تبدو مفيدة بوصف وضعية ابستمولوجيا بورديو، فإن ذلك حاصل بشكل خاص بفضل إدخال هذا التصور عن الأبتوس، و بفضل التطورات التي طرأت على هذه القضية التصورية. وقد أشار بورديو إلى أنه بإدخال هذه المقولة و بالتعريف الذي أعطاه لها أراد أن يقاوم التوجيه الأولي للبنيوية.
يعتبر مفهوم الأبتوس بمثابة حجر الزاوية التي تقوم عليها سوسيولوجيا بورديو، لكونه يحتل مكانة مركزية خلال مشروعه الفكري برمته، ولم توضح معالم هذا المفهوم إلا في منتصف الثمانينيات مع بورديو في كتابه “الحس العملي”.

ويمكن تعريف الأبتوس على أنه نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم.

ويتوسط الأبتوس العلاقات الموضوعية و السلوكات الفردية باعتباره مجموعة من الاستعدادات المكتسبة « بين نسق الضوابط الموضوعية و نسق التصرفات القابلة للملاحظة المباشرة يتدخل دائما طرف آخر كوسيط، ألا و هو الأبتوس مركز الالتقاء الهندسي للحيثيات و تحديد الاحتمالات و الخطوط المعيشة، للمستقبل الموضوعي و المشروع الذاتي الطابع»2.

فمفهوم الأبتوس يفسر لنا كيف أن عمليات التعلم الاجتماعي تكون و تقلل نماذج الإدراك و السلوك عند العملاء الاجتماعيين، و يساهم في ذلك و بشكل جلي الأنساق التربوية.
فالأشخاص إذا ما وجدوا في ظروف اجتماعية مختلفة فإنهم سوف يكتسبون تبعا لذلك استعدادات مختلفة، و ذلك حسب وضعهم التاريخي و موقعهم في نسق اجتماعي معين، حيث يؤكد بورديو في هذا السياق أن أبتوسات أفراد ينتمون لنفس الطبقة تبقى أكثر تشابها من أفراد طبقة أخرى، لأن ممارسات الأفراد تؤطرها مجموعة من الشروط الموضوعية خارجة عن إرادتهم ووعيهم.

واستعمال مفهوم الأبتوس هو دعوة إلى التقريب بين الحتمية الاجتماعية من جهة و بين الفردانية من جهة أخرى، إذ يجمع بين البنيات الموضوعية و الذاتية، و يسعى إلى كشف ما هو خارجي فيما هو داخلي، باعتبار البنيات الداخلية و البنيات الاجتماعية الخارجية صورتان لحقيقة واحدة، لتاريخ مشترك ذلك التاريخ المنقوش في الذات و في الأشياء.
و مقولة الأبتوس، تضمنت أيضا عنصرا جديدا من أشكال إعادة الإنتاج الاجتماعي.

3- أطروحة إعادة الإنتاج:

عمل بيير بورديو من خلال تحليله السوسيولوجي إلى الوصول إلى مبدأ أساسي هو التفاوت في النجاح الدراسي للأطفال المنحدرين من طبقات اجتماعية مختلفة، فالأصل الاجتماعي يعتبر المميز الأساسي الذي يتحكم في النجاح المدرسي. فبخصوص الرأسمال اللساني مثلا، نلاحظ عدم تكافؤ بين أفراد الطبقات العليا و الدنيا، مما يزيد من حظوظ أفراد الطبقات العليا في النجاح الدراسي، وهنا يقول بورديو أن:

« التوزيع اللامتكافئ للرأسمال اللساني ذو المردودية النسبية، بين مختلف الطبقات الاجتماعية يشكل إحدى التوسطات الخفية و التي تتأسس خلالها العلاقة بين الأصل الاجتماعي و النجاح المدرسي»3.

وبخصوص تعلم اللغة، نورد مثالا طرحه بورديو في كتابه “إعادة الإنتاج”، فالمتعلمون الذين يريدون ولوج التعليم العالي يخضعون لانتقاء صارم وفق معيار القدرة اللسانية، و معايير تصحيح المشرفين بخصوص المعرفة النظرية و التطبيقية التي تتطلبها المادة التعليمية، لأن فهم اللغة و طريقة استعمالها تشكلان النقطة الأساسية التي يقيم وفقها المعلم، و عليه فالرأسمال الثقافي لا يتوقف عن التأثير، فاللغة ليست فقط آلة للتواصل، و لكنها تؤسس معجما دلاليا و نسقا تصنيفيا غنيا أو فقيرا إلى حد ما، يظهر في طريقة القراءة وفي طريقة استعمال البنيات المعقدة، سواء كانت منطقية أو جمالية، و كل هذا يتعلق بنوعية اللغة السائدة داخل الأسرة. فالمدرسة حسب بورديو تعمل على تهميش لغة الطبقات الشعبية التي لا تتوافق مع لغة المدرسة، ووحده الانتقاء الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفردية في اللغة وفق الأصل الاجتماعي، يمكن من توضيح المتغيرات المرتبطة بالقدرات اللسانية بدلالة الطبقة الاجتماعية الأصلية، و خصوصا العلاقة بين الرأسمال الثقافي الموروث و درجة النجاح. و يضيف بورديو إلى هذا شيئا أساسيا ينبغي أخذه بعين الاعتبار، هو أن الأصل الاجتماعي لا يتحكم بكيفية آلية في النجاح المدرسي، لأن اللغة الملقنة تأخذ معناها الكامل من الوضعية البيداغوجية مع فضائها الاجتماعي و العاداتي و الزماني، و باختصار كل ما يكون النسق البيداغوجي. وعليه فاللغة لا تكون مشتركة بالضرورة بين المتلقي و الملقي لأن اللغة الجامعية تكون بعيدة عن اللغات التي تتكلم بها مختلف الطبقات الاجتماعية.

من خلال هذا المثال حول الرأسمال الثقافي تتضح لنا آراء بورديو حول النظام التربوي و السلطة الرمزية التي يفرضها هذا الأخير، و تتحدد السلطة الرمزية بوصفها سلطة لبناء الواقع، ووجودها يتحدد كبنية رمزية ذات وظيفة معرفية هي فرض السيادة و إعطاؤها صفة المشروعية لضمان هيمنة الطبقة المسيطرة في المجتمع، و العنف الرمزي لا يمارس داخل الهيكل السياسي فحسب، بل يصيب البنية الاجتماعية بشتى مجالاتها و حقولها، فعند تشريع نظام معين فإنه يمثل ممارسة موضوعية للعنف الرمزي، فالنظام التربوي مثلا يهدف إلى المحافظة على النفوذ الثقافي للطبقة المهيمنة حيث يقصي الطبقة الاجتماعية الدنيا، و يضفي المشروعية على الثقافة المسيطرة، فالتربية المدرسية تعتبر بمثابة عنف رمزي، لأنها تفرض ثقافة الطبقات المهيمنة و ترسخ شرعيتها لإعادة إنتاج النظام القائم، فالتربية لا تنتج عن المجتمع ككل، و الثقافة ليست واحدة و موحدة، بل هناك ثقافات متعددة و متصارعة، بتعدد القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع، لأن المجتمعات الحديثة مجتمعات طبقية، « فإذا كانت النظريات التقليدية، تفصل الإنتاج الثقافي من وظيفته التي تتجلى في إعادة الإنتاج الاجتماعي… و كما نجده عند دوركايم الذي يرى أن الثقافة موحدة في المجتمع، إذ يماثل بين وضع الثقافة في المجتمعات التقليدية و المجتمعات الحديثة، فالرأسمال الثقافي عادة في المجتمعات التقليدية يكون غير منقسم، إذ يمثل ملكية مشتركة بين أعضاء القبيلة، وفي المجتمعات الحديثة نجد انقساما ثقافيا، باعتبارها مجتمعات طبقية، هنا يمدد دوركايم التصورات الإيثنولوجية الخاصة بالمجتمعات التقليدية و يطبقها على الظواهر النوعية للمجتمعات المعاصرة»4.

في حين أننا نجد داخل المجتمع الواحد ثقافات متعددة، لتقوم المدرسة بعملية انتقاء ثقافة بنية اجتماعية معينة، وغالبا ما تكون ثقافة الطبقة المهيمنة، لتكرس الاستغلال و السلطة التعسفية لهذه الطبقة داخل الحقل التربوي، وتصبح الثقافة المدرسية بذلك أقرب إلى ثقافة النخبة، ليتمكن أبناء الطبقات البرجوازية من الاستفادة من المواد المقررة، لأن رأسمالهم الثقافي يجعلهم متفوقين داخل المدرسة على أبناء الطبقات الدنيا.

« التلاميذ المنحدرون من أصول بورجوازية يدرسون الآداب القديمة ولغاتها منذ المرحلة الثانوية، بالإضافة إلى أن وسطهم العائلي يمكنهم من إتقان اللغة، وامتلاك استعدادات و عادات ثقافية و مهارات فكرية و شخصية مشروطة اجتماعيا، تجعلهم أكثر استعدادا للتفوق المدرسي، إضافة إلى الدور الذي تلعبه شروط الحياة الداخلية، كالمسكن و الملبس و وسائل الترفيه و الإمكانات المادية من الرفع من مستوى التفوق»5.

أما المتعلمون المنحدرون من الطبقات الدنيا فإنهم يختارون « شعبا لا تؤدي إلى نجاح اجتماعي مضمون كشعب الآداب»6، ويبحثون عن دراسات مختلفة خارج نطاق البرامج الدراسية لأن الثقافة الحرة تؤِدي إلى النجاح الجامعي في مثل تلك الشعب، أما أطفال البرجوازية الصغيرة «فهم مولعون بالقيم المدرسية في حين يتميز أعضاء الطبقات الوسطى عن الطبقات الدنيا بمعرفتهم الواسعة بالثقافة»7، كل هذه الأشياء تكرس عنفا رمزيا.

وتتجلى وظيفة المدرسة في ترسيخ ثقافة فئات الطبقة المهيمنة على شكل أبتوس مستنسخ يجسد التعسف القانوني و يضمن إعادة إنتاجه، و لا يتوقف بورديو عند هذا الحد، حيث يرى أن:
« نجاح أي تربية مدرسية و بصورة عامة، نجاح كل عمل بيداغوجي ثانوي، يتوقف أساسا على التربية الأولية التي تسبقه، و خاصة حينما ترفض المدرسة هذه الأولية في إيديولوجيتها و ممارستها، وذلك بجعل التاريخ المدرسي تاريخا بدون تاريخ قبلي»8، فالنظام المدرسي لا يمكنه النجاح إلا إذا كان هناك تعسف ثقافي في الأسرة كذلك، أي في الجماعة الأولية للفرد، حيث أنه كلما وجد توافق بين العمل البيداغوجي داخل الفصل، و العمل البيداغوجي داخل الأسرة، كلما كانت عملية إعادة إنتاج نفس النسق سهلة.

إن قوة التعسف الذي تمارسه الطبقات السائدة تضطر الطبقات المسحوقة إلى الاستسلام لما فرض عليها، و لا تجد بدا من الاعتراف، عن اقتناع أو دونه، بشرعية الثقافة السائدة و بالتالي شرعية التعسف الثقافي، و كنتيجة لذلك اعتبار أن ثقافتهم غير شرعية لذا يجب عدم التفكير فيها، و التمسك بما هو أرقى وأضمن ألا وهو الثقافة السائدة.

و بهذا يمكن أن نفهم محاولة الفئات المسحوقة في أن تنجح في السلم التعليمي و أن تعيد تربية ذاتها طبقا لثقافة الاستبداد، و بالتالي أن تكدس ما أمكن من ” الرأسمال الثقافي” المشروع. ويعتبر هذا منطقيا في الوقت الذي ترتبط أنواع الثقافة بقوانين السوق. فالثقافة الناتجة عن الأعمال التربوية و عبرها عن التعسف الثقافي تعتبر رأسمالا ثقافيا معترفا به و تعطى له قيمة اقتصادية و رمزية أعلى خصوصا في سوق العمل، هكذا يمكن أن نتفق أنه « لابد أن نعترف أن هناك ضغطا بمنتهى القوة يدفع باتجاه معاودة إنتاج ” التعسف الثقافي” الذي يتمتع بأعلى قيمة بصفته رأسمالا ثقافيا. وهكذا تحافظ هذه المعاودة على نظام معين و تصونه هو النظام الذي تجد فيه الصفوة أن من أسهل الأمور عليها إعطاء نفسها صفة الديمومة»9.

4- خلاصة:

من خلال سردنا لتصورات بورديو، يتضح أن هناك عنفا تمارسه المؤسسة المدرسية من خلال ترسيخها للتعسف الثقافي و فرضها للأبتوس المطابق لترتيب الطبقات الاجتماعية و بالتالي تعيد إنتاج التنظيم الاجتماعي القائم. ويلعب الرأسمال الثقافي دورا حاسما في عمليتي تحديد و إعادة إنتاج الواقع و الأدوار الاجتماعية. ففي رأي بورديو الأصل الاجتماعي أهم عامل في التمييز، إذ أن العوامل الثقافية أكثر فاعلية من أي عامل آخر، و عموما يرى بيير بورديو أن الأهداف الضمنية للمدرسة تخدم التكامل بينها و بين الطبقة المسيطرة مما يجعل أبناء هذه الأخيرة أطفالا ناجحين دراسيا، أما أبناء الطبقة الدنيا فيكون مصيرهم هو الفشل، و ذلك بسبب انعدام التكامل بين النظام المدرسي و الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.

 


مراجع:

1- بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ترجمة نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، الطبعة 1، 1992، ص 27.

2- عبد الجليل بن محمد الأزدي، بيير بورديو الفتى المتعدد و المضياف، المطبعة و الوراقة الوطنية، مراكش، طبعة 1، 2003، ص 55.

3- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 144.

4- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 25

5- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 11.

6- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, Ibid, p 23

7- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, Ibid, p 38

8- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, Ibid, p 151.

9- مجلة الفكر العربي، العدد 24، السنة 3 دجنبر 1981، ص 353.

البحث في Google:





عن امحمد أعويش

أستاذ حاصل على إجازة في علم الاجتماع و إجازة مهنية في المساعدة الاجتماعية بالمملكة المغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *