الوجه البارز لحركة التربية الجديدة ماريا مونتيسوري

الوجه البارز لحركة التربية الجديدة ماريا مونتيسوري

هذا المقال بعنوان: ”الوجه البارز لحركة التربية الجديدة ماريا مونتيسوري” هو الثالث من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية الأجانب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد.، تجدون المقال الثاني ”طاغور : مؤسس النهضة التربوية الهندية”  من هنا.
المقال الأول: “مؤسس الأكاديمية الأولى أفلاطونمن هنا

ماريا منتسورى الوجه البارز لحركة التربية الجديدة، هذه الحركة المميزة التي سعت جاهدة إلى إقرار مجموعة جديدة من المبادئ التربوية الشاملة، و التي مارست تأثيرًا واسعًا وقويًا جدًا في هذا المضمار، قلما مارسته حركات أخرى.

ركزت مونتيسوري جهودها في الطور الأول من أبحاثها على صغار الأطفال ولم تفسح مجالاً إلى مجال آخر لبحوثها إلا في وقت متأخر من حياتها، فشمل حقل تقصياتها الأطفال الأكبر سنًا والأسرة ككل.

فالطفولة الأولى كانت تمثل من وجهة نظر مونتسوري المرحلة الأساسية في تطور الفرد، والتي ترسى عليها الأسس المتينة  لكل نمو يلحق بالطفل فيما بعد، ولذا كانت تعطى قيمة شمولية عالية ومركزة للملاحظات التي تتناول هذه المرحلة من حياة الطفل.

كذلك تميزت مونتسوري بميزة تفردت بها عن سائر التربويين في ذلك العصر بسعيها الدائم إلى الجمع بين النظرية والتطبيق.

فبيوت الأطفال التي أقامتها والأدوات التعليمية التي قامت بتطويرها شاهدة على هذا المسعى، وما من تربوي آخر في قائمة أتباع حركة التربية الجديدة استطاع تطبيق نظرياته على مثل هذا النطاق الواسع الذى طبقته مونتسوري، كما أن البرنامج المنُوع الذى أطلقته على المستوى الدولي ليس له مثيل.

إن الجهد الذى قامت به مونتيسوري كان مثمرًا للغاية، فقد كانت أحد الوجوه الأصيلة للتربية الجديدة على المستوى الإقليمي والمستوى الدولي، والحال أن الإصلاح الذى تصورته مونتسوري لم يكن يقتصر على مجرد استبدال طرائق قديمة بطرائق جديدة، يفترض أنها أفضل، بل طرق جديدة على التربية تعتمد في طياتها على النظرية وتطبيقاتها بشكل فعلى وفعال.

ليس من اليسير تحديد موقع مونتيسوري بين سائر أتباع التربية الجديدة، فالمفهوم الأساسي وراء أعمال مونتيسوري التربوية قائم على فكرة “أن الأطفال بحاجة إلى بيئة ملائمة يستطيعون فيها العيش والتعلم” وهذا الاتجاه لم يسلكه أحد غيرها بهذه البراعة.

أما الخاصية الأساسية لبرنامجها التربوي فهي ” أن هذا البرنامج يولى أهمية بشكل متساو للنمو الداخلي والنمو الخارجي”،على نحو متوازن بحيث يكمل واحدهما الآخر.

بيد أن الاهتمام المولى للتربية الخارجية، التي كان الفلاسفة الأوائل وتربويون المدرسة المثالية يعتبرون أنه مجرد نتيجة لنجاح التربية الداخلية للطفل، إنما يشهد على التفرد العلمي لبرنامجها.

كانت بيوت الأطفال أطر حياة منظمة خصيصًا لتلبية حاجات الأطفال، وكان في وسع  الأطفال تغييرها وتحسينها عن طريق ترسيخ مفهوم الإحساس بالمسئولية لدى الأطفال.

في بيوت الأطفال، كل شيء كان يتلاءم مع خصائص هؤلاء الأطفال، ليس فقط  الأساسات مثل الخزائن والطاولات والمقاعد، بل أيضاً الألوان والأصوات والهندسة المعمارية.

وكان ينتظر من هؤلاء الأطفال أن يعيشوا ويتحركوا في هذه البيئة كأشخاص يشعرون بالمسئولية التامة وأن يشاركوا بفاعلية مع فريق العمل الذى كان يقوم بإدارة هذه البيوت جنبًا إلى جنب حتى في أعمال الإدارة وأعمال التسيير، بحيث  يتدرجون في تسلق سلم المسؤولية وذلك التشارك رمزية تقود إلى تحقيق الذات.

وفي بيوت الأطفال كان عنصرا الحرية والنظام متوازيين متلازمين، فلا يمكن اكتساب الأول من دون الثاني، ولم يكن النظام، منظوراً إليه من هذه الزاوية فقط، بل كان بمثابة تحد ينبغي اتباعه لاستحقاق الحرية.

ومما أشارت إليه مونتيسوري في هذا الصدد “إن الشخص المنضبط المحترم للنظام هو شخص سيد نفسه، وقادر بالتالي على إتباع قواعد الحياة والنجاح فيها بشكل كبير”.

إن الفكرة المركزة للانضباط الذاتي القائلة “بأن الحرية غير ممكنة إلا إذا أخضع المرء نفسه لقوانين وسنن اكتشفها وتبناها” غير مصاغة صراحة في أعمالها.

بيد أن مونتيسوري ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد تعهدت قطعًا النتائج المنطقية لأفكارها بالتطبيق العملي المحكم، أي أنها سهرت على تطبيقها وتنفيذها في أوضاع الحياة اليومية، وهو جانب في العادة ما ينحيه المربون جانبًا.

وكان المنهاج الذي وضعته مونتيسوري لهذه الغاية، يتضمن “تمارين في أغلب أوضاع الحياة اليومية” أو” تمارين في الحياة العملية “.

وقد تضمن المنهاج الذي قامت بوضعه مونتيسوري على سبيل المثال تمارين في الصبر والأناة، وفي الدقة والمراجعة ، بهدف تعزيز القدرة على التركيز، وكانت هذه التمارين تجرى كل يوم في سياق “مهمة” حقيقية، وليس على شكل ألعاب ترفيهية فقط.

وما انفكت مونتيسوري تركز في كتاباتها، على أهمية النهج الهادف إلى تنمية المواقف بدلاً من الاكتفاء بتلقين مهارات فقط.

فهي ترى أن النشاط العملي يجب أن يخلق موقفاً، وذلك بفضل الاستغراق والتأمل، فتقول: “والموقف يتحول إلى سلوك منضبط” وتلك من وجهة نظرها، المهمة الرئيسية التي ينبغي أن تقوم بها بيوت الأطفال.

إن قوام بناء الشخصية هو هذا العمل الحر، المتوائم مع الحاجات الطبيعية للحياة الداخلية، وبالتالي فإن العمل الفكري الحر هو الأساس الفعلي للانضباط  الداخلي، فلإنجاز الأهم والأكبر لبيوت الأطفال هو تنشئة أولاد منضبطين.

وتستند مونتيسوري في تأكيدها هذا على مقارنة مع التربية الدينية، فتقول” إن هذا يذكرنا بالإرشادات التي يعطيها الدين للحفاظ على قوى الحياة الروحية “،أي فترة التركيز الداخلي.

وهذا التركيز تتوقف عليه إمكانية الارتقاء في ما بعد إلى القوة المعنوية، فعن طريق التأمل المنهجي إنما تكتسب الشخصية المعنوية صلابتها ومناعتها التي بدونها لا يستطيع الرجل الداخلي، الشارد والمختل، أن يمتلك نفسه وأن يسعى إلى غايات نبيلة.

وتتفق مونتيسوري مع روسو على اعتبار أن ” مساعدة الضعفاء والشيوخ والمرضى” واجب مهم ينبغي الاهتمام به خلال طور النمو الشخصي، حيث أن هذه المساعدة تقوم بتقوية الروابط الأخلاقية بصورة عملية وتلك الروابط الأخلاقية تحدد وتميز بدء حياة جديدة بشكل ممتاز.

وتعتبر مونتيسوري أن الفترة الحساسة للطفولة الأولى توفر فرصة فريدة لتشجيع النمو الحقيقي، وكانت تعتبر أيضًا أن التنشئة الاجتماعية عنصر مهم في هذه المرحلة الأولى طالما أن الاستقلال الذاتي ينبغي أن يتم توجيه من جانب الغير كي يتمكن الفرد من بلوغ الكمال ككائن اجتماعي.

كانت وظيفة الأدوات التعليمية هي مساعدة الطفل على أن يتمتع بسلام وطمأنينة كي يكسب حسًا رفيعًا بالمسؤولية، وتلك الأدوات التي كانت تشكل أحد عناصر البيئة المهيأة لبيوت الأطفال، كانت مصممة على نحو منهجي متقن، بحيث أن الولد الذى اختار بحرية أن يهتم بأحد الأشياء يجد نفسه في وضع محدد مسبقاً، وبحيث يوجه دون معرفة منه، نحو هدفه العقلي.

وأفضل مثال على ذلك هو التمرين الذى كان يطلب فيه من الأطفال إدخال أسطوانات من أحجام مختلفة في الفتحات المقابلة لها، علماً بأنه لا يوجد سوى حل وحيد ممكن لكل أسطوانة، وهكذا يستطيع الطفل إدراك خطأه بسرعة وتلقائية عندما تتزحلق الأسطوانة من يده ويتعذر إدخالها في المكان المخصص لها، وهنا يبدل الطفل المكان بسرعة ويدرك خطأه.

إن أحد المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها استخدام الأدوات التعليمية هو “حتمية تنسيق الأنشطة على نحو منهجي”، كي يتمكن الأطفال من تقييم أدائهم ودرجة نجاحهم.

فقد كان يطلب منهم مثلاً المشي على دوائر كبرى مرسومة على الأرض، تشكل سلسلة من رسوم الأطفال الشيقة الممتعة، وهم  ممسكون بيدهم قدحًا مملوءًا بالحبر الأزرق أو الأحمر حتى نهاية القدح، فإذا طفح الحبر، عرفوا أن حركاتهم لم تكن على درجة كافية من الاتساق، وبالطريقة نفسها، كانت تنمى جميع الوظائف الجسدية في الجسم.

وبالنسبة إلى كل من الحواس الخمس، كانت هناك تمارين يمكن معها زيادة فعالية تلك الحواس عن طريق تعطيل سائر الوظائف الحواسية، وأذكر على سبيل المثال، تمرين التعرف باللمس على أنواع مختلفة من الخشب، وهو تمرين كانت تعصب في أعين الأطفال، وكانت هذه التمارين تتم جماعيًا وتعقبها جلسة مناقشة، مما كان يعزز فائدتها من حيث الجوانب الاجتماعية لتربية الأطفال.

وهكذا كانت الأنشطة المختلفة تتكامل ويدعم بعضها بعضًا، كما قالت مونتيسوري: “لكى يتقدم الطفل بسرعة، ينبغي أن تُشرك الحياة العملية والحياة الاجتماعية على نحو حميم في ثقافته”.

كان على الأدوات التعليمة أن تعمل كالسلم على حد تعبير مونتيسوري، فكانت تسمح للأولاد باتخاذ المبادرة وبالسير قدمًا على طريق تحديد الذات.

والأدوات الحواسية يمكن اعتبارها من وجهة النظر تلك على أنها “تجريد متجسد” فعندما يجد الطفل نفسه أمام الأداة، يستجيب هنا بعمل مركز جدى يبدو أنه نابع من افضل ما في وجدانه، حتى يمكننا القول أن الأطفال أخذوا يحققون أعلى إنجاز يستطيع عقلهم بلوغه.

كانت مونتيسوري إحدى الأوائل الذين حاولوا تأسيس علم حقيقي للتربية، وقد قام نهجها على إقرار “علم الملاحظة” فكانت تعرض على المربين وجميع المشاركين في العملية التعليمية، أن يتلقوا تدريبًا على هذه الطرائق، وأن تجرى العملية التعليمية ذاتها في إطار يتيح المراقبة والتدقيق العلمي.

إن فن الملاحظة، الذي اعتبره روسو المهارة الأهم المطلوبة للتعليم، يتطلب دقة الإدراك والمراقبة، وقد تصورت مونتيسوري “مربيًا من نمط جديد، فبدلاً من الكلام عليه أن يتعلم الصمت وبدلاً من التعليم عليه أن يراقب”.

وهذا النوع من الملاحظة الدقيقة عن بعد ليس استعدادًا طبيعيًا فطريًا، بل مهارة ينبغي تعلمها، لأن معرفة الملاحظة والمراقبة هي الطريق الحقيقي المؤدي إلى العلم.

ولا يمكن أن تنجح هذه العملية إلا إذا حصلت في حرية، والحرية لا تستقيم بدورها إلا إذا ترافقت مع النظام والمسؤولية، إن للأولاد فهمًا حدسيًا بديهيًا لأشكال النمو والتفتح عبر النشاط المستقل.

وفي معظم الأمثلة التي تقدمها مونتيسوري لدعم هذه الفكرة تتكلم على الرضى  العميق الذي يبديه الأطفال حيال التطور الذي يحققونه على وجه مستقل، وتخلص إلى أن هذا الوعي المتزايد يساعد على النضوج، فإن أعطينا الطفل الإحساس بقيمته الذاتية فإنه يشعر بأنه حر ويقبل على العمل بمتعة واندفاع.

وها نحن قد وصلنا إلى ما قصدته مونتيسوري ب” العقل المستوعب” الذي يشكل إلى جانب روح “التقنين” أحد المفاهيم الأساسية لنظامها، فبحسب مصطلحاتها المستوحاة من علم الطب، كانت تسمي الطفل “جنينًا فكريًا” مشيرة بذلك إلى سلوك الأطفال  في طريق النمو وإلى كون النمو العقلي والنمو الجسدي يسيران معًا بشكل متواز.

إن تربية الأطفال ينبغي أن تتم من البداية على نحو متوازن، وإلا فإن الانطباعات الأولى تنتج أنماط فهم وسلوك مشوه، مرشح إلى أن يستمر في المستقبل.

هذه الانطباعات الأولى لا تبقى محفورة في عقل الطفل فحسب، بل تنجم عنها أيضًا بنيات نمو وتصورات تحكم كل التجارب اللاحقة في حياته المستقبلية.

إن الاهتمام المستمر الذي تثيره أعمال مونتيسوري ينبع من روح التقصي والبحث، نظرًا لجاذبية شخصيتها من جهة، وهي جاذبية ما زالت تفعل فعلها حتى يومنا هذا وتضفي على أفكارها سحرًا خاصًا، ونظرًا للهدف الذى حددته لعملها، من جهة ثانية، ألا وهو إعطاء تربية الأطفال أولوية قصوى خاضعة باستمرار للتجربة.

 

قائمة المراجع

1- Agazzi,R(1932)Guida pe educatrice dell,infanzia
Brescia.
2- Bohm,W(1991)Maria Montessori ,Hintergrund und Prinzipien ihres Padagogischem,Denkens.
3- Fribourg ,(1972) Das Kreative Kind.
4- Fribourg ,(1976) Schule des Kinds.

البحث في Google:





عن د. إيهاب ابراهيم السيد محمد

دكتوراه الفلسفة في التربية النوعية، كلية التربية النوعية جامعة عين شمس. تخصص تكنولوجيا التعليم زميل كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا - جمهورية مصر العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *