أفضل التكنولوجيا التعليمية

هل التقنية عامل مساعد في المنهج أم أنها تزيد الأمور تعقيدا؟

المقدمة

إن تدريس المنهج قديما اعتمد -ولفترة تاريخية ممتدة- على الطرائق الكلاسيكية التقليدية التي حققت أهدافا متنوعة في التحصيل العلمي، لاسيما الشروحات، التي يتم إلقاؤها من طرف المدرس الذي كثيرا ما يبذل مجهودات مستمرة بهدف الوصول إلى التلقين الجدي للبرنامج التعليمي، إلا أن معطيات الثورة المعلوماتية وظهور التقنيات الحديثة أدت إلى تغيير هذا الدور، فمن الشرح والتحضير المستمر إلى التخطيط والتقييم، حيث أصبح تدريس المنهج يعتمد على مراحل مركبة تعتمد على التخطيط والتنظيم وتقاسم الأدوار بين الطالب والمعلم، حيث اُتيحت للطالب الفرصة للمشاركة في بناء المنهج و في إنجاح العملية التعليمية بمفهومها الحديث، من خلال القدرات التي أصبح يتمتع بها في مجال الاتصال والتفاعل مع التقنيات الحديثة وما توصلت إليه المعرفة في مختلف المجالات والتخصصات العلمية. ولكن هذا لا يعني التقليل من قيمة المعلم أو المدرس لأنه يعد محورا جوهريا في استخدام التقنيات الحديثة والتحكم فيها. وسأناقش من خلال هذه المقال التقنية و المنهج، و ما هو النموذج الأنسب لدخول التقنية بالمنهج، وإلى أي نظرية تعليمية ينتمي، وما هو الجانب المظلم بالتقنية، وهل ساهمت في مساعدة  المنهج  أم زادت الأمور تعقيدا؟

العرض

كانت بداية دخول الفكر التقني للمدارس عندما تبنى كل من فرانكلين بوبيت   Bobbit (1918) والود كبرلي   Elwood Cubberley (1916) عنصرين من عناصر الإدارة العلمية (التي تعود لفريدريك تيلور صاحب مصنع الحديد، وهما  التحديد المسبق للمهام والوقت المحدد للتنفيذ) في آرائهم بتصميم المنهج وطريقة استخدامه، وانتشرت آراؤهم آنذاك انتشارا  واسعا، حتى أصبحت عبارة  ” وفر الدقائق ”  شعارا في الصف الدراسي والمنزل والمصنع، كما تضمنت المدارس مفهوم الفعالية الفنية التقنية  فتحولت الصفوف الدراسية إلى مراحل منفصلة وقسم اليوم الدراسي إلى وحدات زمنية منفصلة ( دول، 1993 / 2016)

طور ادوارد ثورندايك Thorndike  إحدى نظريات التعلم القائمة على أساس علمي، حيث ركزت على المثير والاستجابة وهي رؤية تعليمية ميكانيكية إلى حد ما، وكثيرا ما يُنظر إليه بأنه أبو التقنية التعليمية وكانت النظرية السلوكية هي النظرية المستخدمة في التعليم آنذاك ( تيموثي وآخرون، 2014)

يعد نموذج رالف تايلر عام  1949 م بنظري أول نموذج يناسب دخول التقنية للمناهج حيث كان يعتمد على النظرية السلوكية. و دور المعلم في هذا النموذج يكمن فقط في عملية نقل المعرفة لعقول الطـلاب في ضوء معايير محددة وثابتة للمنتج التعليمي في كل مرحلة من مراحله يتحدد على أساسها مدى الإنجاز، حيث يكون من المتوقع أن يحقق جميع المتعلمين جميع الأهداف التعليمية والسلوكية بنفس الطريق (Wraga, 2017)، على أن يتم تقويم وتقييم عملية التعليم وفقا للأهداف التعليمية للتحقق من مدى تحققها بشكل فردي لكل متعلم.

وبشكل عام، لم تسمح التقنية المستخدمة في سياق التعلم التقليدي ( النظرية السلوكية ) للمتعلم ببناء المعنى الخاص به، وإنما أمدته فقط بتأويل ثابت عن العالم. وكذلك لم يتم تشجيع الطلاب على اكتساب مهارات التأمل والتقييم الذاتي وتقــــويم ما يتعلمونه لتحديد مدى أهميته وكيفية توظيفه في الحياة الواقعية العملية. فأصبح نتاج التعلم هو مجرد معلومات شفهية لا يستطيع الطلاب تطبيق معظمها (Aqda, Hamidi and Ghorbandordinejad, 2011).

ارتبطت التطورات التكنولوجية والتقنية في التعليم بنظريات التعلم، وكان الانتقال بينها انتقالا تدريجيا وفق متطلبات التغيير. ومع ظهور التكنولوجيات التعاونية Collaborative technologies، تم التأكد من عدم قدرة النماذج التعليمية التقليدية ( النظرية السلوكية ) على التكيف مع بيئات التعليم والتعلم المعاصرة. وبرزت البنيوية كنظرية تدعم كون التعلم عملية قائمة على تدعيم أولوية التفكير العقلي للفرد والفهم وتطور المعنى، بدلا من مجرد حفظ واستذكار المعلومات والحقائق (Brown, Collins and Duguid, 1989)، ومن هنا نشأ التوافق بين اتجاهات التعلم باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المعاصرة والبنيوية.

يعتقد وايتهد أن الفعالية الفنية التقنية تقود إلى التبلد والضعف، ويذكر أيضا ان المرء يستطيع أن يفهم كل شيء عن الشمس وكل شيء عن دوران الكرة الأرضية، ومع ذلك يفقد جمال وتألق غروب الشمس الشيء الذي نبحث عنه، ويذكر أيضا أن تذوق التنوع اللانهائي من القيم الحية التي ينجزها الإنسان في ظروفه الطبيعية الصحيحة هو الاحساس بالقيم الحية بالتنوع الفكري الذي يتجاوز العقلية التقنية الفنية . ( دول ، 1993 / 2016)

و تعد فلسفة وايتهيد ذات أهمية كبيرة للمناقشات المعاصرة، لأنها تتساءل عما يعنيه الحديث عن الفاعلية والعلاقة والحيوية في عالم يتألف من أحداث عملية بدلاً من الأشياء. و القيام بذلك يزيد من حساسياتنا تجاه العمليات غير البشرية للتغيير الوجودي، ومن ثم تتبلور مخاطر الجانب المظلم من التقنية. ) 2014، Roberts)

أتفق شخصيا مع العالم وايتهيد من ناحية أن للتقنية جانب مظلم يتمثل في إهمالها لمهارات عقلية أخرى كان يتم اكتسابها تقليديا كالمهارة الحسابية ومهارة الكتابة والإملاء، فضلا عن تعزيز التقنية للانعزالية والانحلال الأخلاقي بالدخول لمواقع غير مناسبة، وتحديات أخرى مرتبطة بضعف الكفاءة التقنية للمعلمين من أصحاب الخبرة وللطلاب، بالإضافة إلى غياب البنية التحتية اللازمة وعدم نضج تجربة التعليم الإلكتروني المعتمد على التقنية في العديد من المناطق وعدم كفاية التدريب والتطوير ومخاوف مرتبطة بالخصوصية وتحديات الأمان الفكري والثقافي للمعلمين والطلاب. (عبد القادر، 2018)

ولكنني أختلف معه من  ناحية أخرى حيث أن للتقنية آثارا  إيجابية في التعليم، فقد أثبتت الدراسات التربوية والبحوث  آثارها الإيجابية، فلها أثر في زيادة الدافعية نحو التعلم، وتسمح بالتكرار والمرونة وتمنح الطلاب أدوات إنتاجية تعليمية من خلا ل توظيف برمجيات التعليم المبتكرة في إنجاز المشاريع والتجارب المختلفة بالإضافة إلى القدرة على تعزيز التفكير النقدي من خلال تدعيم التعليم التعاوني الذي يركز على الطالب ويقدم له البيئة المناسبة للتعلم، وتراعي الفروق الفردية و تســــمح له بالاستفادة من بيئات التعليم الإلكتروني المختلفة،  فأصبح التعليم مجالا يضم مهارات وكفايات نوعية واتجاهات لدى مخططي التعليم وصناع القرار ( خميس ، 2003 ).

أما من ناحية الإجابة على السؤال: هل التقنية ساهمت في مساعدة المنهج أم زادت الأمور تعقيدا؟ فتختلف الإجابة من مستخدم لآخر حسب احتياجه للتقنية في فهم المنهج. ومن ناحية الدراسات التربوية والبحوث العلمية فبعضها أفاد بأهمية استخدام التقنية في المناهج الدراسية كدراسة الدبوس (2001م) حول تكنولوجيا المعلومات وأثرها في تطوير المنهاج، حيث أشار إلى أن المناهج الإلكترونية تجعل المتعلم يرى ويسمع ويطبق ما تعلمه من المحتوى التعليمي، وهذا له أثر في فهم وبقاء المعلومة في ذهن المتعلم؛ والبعض الآخر أفاد بأنها لم تساعد المنهج بل زادت الأمور تعقيدا كدراسة ( زيدان ، 2015 )  حيث أفادت بأن نسبة المشكلات التي تواجه تطبيق التكنولوجيا في منهج اللغة العربية جاءت مرتفعة. وأما من ناحية رأيي الشخصي  فقد دونته في خاتمة المقال.

الخاتمة

أكدت الأزمة الراهنة لتفشي فيروس كورونا رغم التحفظات إلى أهمية التقنية في العملية التعليمية والذي لم يكن اسـتخدامها خلال هـذه الفترة اختياريا أو تفاخرا تقنيا أو تطورا مطلوبا بل أصبح ضرورة للحياة. فالواقع الراهـن الآن يشير إلى الجانب المضيء للتقنية، فقد ذكرت مجلة (independent arabia ، 2020 ) بأن عدد الطلاب الذين اضطروا إلى الانقطاع عن الدراسة بلغ حول العالم نحو بليون و 344 مليون و 914 ألف طالب وطالبة في نحو 138 دولة، منهم 83 مليون طالب بالدول العربية. وقد فرض هذا الواقع القيود على التعليم التقليدي وأدواته الكلاسيكية فغدت الرقمنة  و التقنية و العالم الافتراضي هو البديل الوحيد المتاح لاستمرار العملية التعليمية، وبذلك فإنني أرى أن التقنية ساهمت في مساعدة المنهج مساهمة إيجابية ولم تزد الأمور تعقيدا، وقد لمسنا ذلك بأنفسنا خلال هذه الفترة، على الرغم من عدم اعتماد تعليمنا بالمملكة للتقويم الإلكتروني في التعليم العام  نظرا لعدم جاهزيته من ناحية البنى التحتية والكفايات التقنية، و لم نلتفت للجانب المظلم الذي ذكره العالم وايتهيد  وتسببت به التقنية.

المراجع

  • خميس ، محمد عطيه ( 2003) عمليات تكنولوجيا التعليم. القاهرة، دار الكلمة.
  • عبد القادر، أشرف (27 – 07 -2018) استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تحسين التعليم والتعلم من https://www.new-educ.com
  • جريدة independent arabia عدد (25 مارس 2020) “كورونا” يختبر التعليم في العالم العربي… عن بعد، من https://www.independentarabia.com (https://0i.is/g2e0 )
  • زيدان ، نصرت جياد ( 2015) . مشكلات استخدام التكنولوجيا في التعليم التي تواجه مدرسي اللغة العربية غي المرحلة الاعدادية بمدينة الرمادي العراقية من وجهة نظرهم. جامعة الشرق الاوسط.
  • دول ، وليام ( 2016) . المنهج في عصر ما بعد الحداثة ( خالد عبدالرحمن العوض مترجم ) ، العبيكان للنشر ، الرياض. ( العمل الاصلي نشر 1993)
  • تيموثي ج ، دونالد أ ،جيمس د، آن أو تينبريت ، جيمس ( 2014). التقنية التعليمية للتعليم والتعلم ( سارة ابراهيم العريني مترجم ) . دار جامعة الملك سعود للنشر ، الرياض.
  • الدبوس، جواهر. (2001). تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات عبر المنهج المدرس ، تضمينات لتطوير المناهج الدراسية بدولة الكويت، حولية كلية البنات للآداب والعلوم والتربية . مصر
  • Wraga, W.G. (2017) ‘Understanding the Tyler rationale: Basic Principles of Curriculum and Instruction in historical context’, Espacio, Tiempo y ducación, 4(2), pp. 227-252.
  • Roberts, Tom (2014). From things to events: Whitehead and the materiality of process, Environment and Planning D: Society and Space 2014, volume 32, pages 968– 983
  • Aqda, M.F., Hamidi, F. and Ghorbandordinejad, F. (2011) ‘The impact of constructivist and cognitive distance instructional design on the learner’s creativity’, Procedia computer science, 3, pp. 260-265.
  • Brown, J.S., Collins, A. and Duguid, P. (1989) ‘Situated cognition and the culture of learning’, Educational researcher, 18(1), pp. 32-42.

 

 

البحث في Google:





عن د. طارق السواط

حاصل على دكتوراه الفلسفة في تقنيات التعليم بجامعة القصيم ومشرف عام الحاسب بوزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *