اللغة والهوية بين طموحات واندماجات المهاجرين الشرقية والمناهج التعليمية العربية

مقدمة

بنظرة يملؤها الأمل وتعصرها المآسي، يترك الفرد وطنه وأهله وأسرته وما له وما عليه في أرضٍ قضى فيها جُل سنوات حياته، مما يجعله لا يُفكر في حجم التحديات التي تواجهه في المستقبل جراء اتخاذه لقرار الهجرة، والرحيل عن الأرض والوطن، فبقلب تحجر مما رأى، وبعزيمة قوت مما نالها، وبإرادة ترسخت مما أصابها.
تعددت الأسباب، وكثرت التحديات فما كان من فرد يسعى لحياة كريمة سوى أن يرحل باحثاً عن هدفه، ومحققاً لطموحاته، ولكن من الطبيعي ألا يكون الطريق مُمهداً، والسماء صافية، والجو شاعريا، فيقابل الفرد اعوجاج الطرق، وأعاصير السماء، وتقلبات الأجواء كي يصل إلى ما يريد أن يسمو إليه.
ولكن من الأمور التي يجب أن نفكر بها جيداً عند الحديث عن هذا الأمر، هي اللغة في كوكب توجد به المئات بل والآلاف من اللغات واللهجات، كونها الطريق الأول لتقارب الشعوب والثقافات، كذلك يقبع في أولوية تلك الأمور الهوية؛ خاصة مع المهاجر الشرقي والعربي؛ فالهوية تعني الدين والوطن والعادات والتقاليد والقيم والضوابط التي يمليها عليه ما يؤمن به من معتقدات.
يعرف الشخص كل ذلك قبل الهجرة، ولكن ظروفاً أخرى تجبره على أن يقبل تلك التحديات والمعوقات ويسعى لتخطيها والتعامل والتعايش معها. فنحن هنا بصدد تلك القضية لنصف واقعها ونضع لعملية اندماج الشرقيين في المجتمعات الغربية بعض النقاط التي تسهل عليهم الحياة الكريمة في بلاد غير بلادهم، حتى يحظوا بالتقدير والاحترام والدافع نحو مستقبل آمن.
من الضروري إذن أن نزاوج بين اللغة واللسان كونهما أقرب وأيسر الوسائل للقيام بعملية الاندماج مع الثقافات والشعوب المختلفة عن طبيعة الشعوب الشرقية، وعلى الجانب الثاني بين الهوية والوجدان كونهما تيسران عملية الاندماج من خلال احترام دين و وطن رحل عنه الشخص لكنه يعيش في وجدانه، وكذلك عبر تقديره لثقافة أخرى يحاول التعايش معها ويكيف وجدانه معها.
سوف نستعرض العديد من الأسباب التي دعت الأفراد في الشعوب الشرقية للتفكير في الرحيل والعيش في البلاد الأوروبية، ثم نعرض حجم التحديات التي تواجههم جراء هذا القرار، ونختم أخيراً بسُبل لتيسير عملية الاندماج مع الثقافات الغربية.

أسباب اتخاذ القرار بالهجرة إلى الغرب بين المشكلات والطموحات

ونُجمل بعض هذه الأسباب في الآتي:

المشكلات الاقتصادية والاجتماعية: معظم طبقات الشعوب الشرقية يعانون من تدنٍ واضح في متطلبات حياتهم، وتعيش نسبة كبيرة منهم تحت خط الفقر.

العدل: عدم شعور الفرد بتحقيق العدل في وطن هو ابن له يجعله يضحي بالغالي والنفيس، ليرحل إلى مكان آخر يجد فيه عدلاً وتقديراً لمكانته.

الارتقاء بمستوى المعيشة: فدائماً ما ينظر الشرقيون إلى الغرب على أن مستوى معيشتهم مرتفع للغاية لذا يسعون دائماً إلى الاحتذاء بهم في ذلك، ومع صعوبة إيجاد ذلك في بلادهم تدعوهم الظروف للرحيل حيث البلاد ذات المستويات المعيشية المرتفعة، دون أي مخاوف من حجم التحديات التي تواجههم.

التنعم بالسلبيات التي ترسخت في الأذهان نتيجة ما نُقل عن الغرب: فالكثيرون يرون الغرب حياة منفتحة في كل أمور الحياة، ويعتقدون أنه لا توجد ضوابط، ولأن الكثير يرغب أن يعيش بحرية أكبر، فإنه يفكر في الرحيل، في نفس الوقت الذي يجهل فيه الجميع أن الغرب يتقدم علمياً، وتنتقل السلطات فيه سِلمياً.

التقدير وتحقيق الطموح والأحلام: يعاني الشباب تحديداً من عدم التقدير لإمكانياتهم، وعدم قدرتهم على تحقيق طموحاتهم وأحلامهم، لذا يدفعهم الإيمان بها إلى الرحيل.

التحديات بين اللغة والهوية

مع التحول من بيئة وثقافة تربى الإنسان عليها وفهِمها جيداً إلى بيئة أخرى بأسس وثقافة مغايرة، يواجهه العديد من التحديات لها علاقة بالدين واللغة والهوية، ويمكن إجمال تلك التحديات وتوضيحها في الآتي:

اختلاف الدين: يخرج الفرد من وطن يدين بدين واحد أو اثنين إلى بلاد قد يجد في نفس الطابق في المسكن الذي يقطنه أُناسا تتعدد دياناتهم، قد لا يكون ذلك حاجزاً أمام الغربين بعضهم البعض، لكنه يشكل تحديا مهما للمهاجر الشرقي.

حاجز اللغة: يجد الفرد نفسه في مجتمع تتعدد لغاته، فيكون من الصعب الاندماج في حالة الجهل وعدم المعرفة بلغة البلد الذي يهاجر إليه، فإذا وُجدت اللغة ذابت معها العديد من الصعوبات التي من المؤكد أن تواجه الفرد في بلاد الغرب.

اختلاف أنظمة التعليم والتوظيف: فتجد تعليماً مغايراً لنظيره في الموطن الأصل، وأساليب توظيف أكثر عدالة، فيجد الفرد صعوبات في البداية لحين التأقلم على تلك الأوضاع المنضبطة والصارمة.

اختلاف الأنظمة والسياسات والقوانين الحاكمة: فيجد الفرد عاداتٍ وتقاليد أخرى، وقوانين حاكمة وسياسات أكثر صرامة من تلك التي كان يعيش فيها، وعليه الالتزام بها في الأخير.

اختلاف المفاهيم الثقافية والحياة الاجتماعية: فالثقافات الغربية التي تسعى إلى التقدم، والحياة الاجتماعية التي ترتقي معيشياً كل يوم، تجعل ذلك هدفاً أمام الشرقيين، فعند الهجرة يجدون بعض الصعوبات لحين التعود على تلك المفاهيم والطبائع الحياتية.

الانفتاح: وهذا الأمر الذي وإن لم يسعى الشرقي إلى أخذ الحذر والحيطة فيه لوجد نفسه ضحية للتقليد الأعمى والاندماج الفاسد في تلك المجتمعات المتقدمة علمياً واجتماعياً.

تسفير أسلوب الحياة: يسعى البعض لأن ينقل نمط حياته إلى حيث يرحل، ولكن ذلك في الغرب يُعد درباً من دروب الخيال، فالحياة في الغرب تُجبرك على الالتزام بأساليبها وأنماطها، لذا يعاني من يحاولون نقل محيط حياتهم معهم إلى الغرب.

الاندماج بين سُبل الدعم وطموحات الشرقيين

فمن الطبيعي أن تجد نفسك أمام نسبة ليست بالقليلة من الراحلين إلى بلاد الغرب، لذا وبعد العرض السابق حول الأسباب والتحديات كان من الضروري أن نضع بعض الحلول لمحاولة إدماج هؤلاء الشرقيين في تلك البيئات والثقافات واللغات الأخرى، وهي على النحو التالي:

ضمان الحق الإنساني: فلابد أن تحمي الشعوب والقوميات الغربية الحقوق الآدمية للإنسان أيا كانت ثقافته ولغته وديانته وهويته، حتى يشعر بالأمن ويعمل بتناغم معهم.

ضمان الحق في ممارسة الشعائر الدينية والاجتماعية: فتشعر الشعوب الشرقية بمزيد من الأمان إذا ما مارست شعائرها الدينية وطقوسها الاجتماعية بكل أمن وأمان، لذا من الضروري ضمان ذلك في بلاد الغرب حتى لا يشعر المهاجر بالاضطهاد.

روابط إسلامية وعربية تدعم الاندماج: من الجيد أن تنشأ منظمات ومؤسسات اجتماعية يكون هدفها هو العمل على تيسير اندماج المهاجرين في بلاد المهجر.

المرونة والاستيعاب والفلترة: لابد على الشرقي أن يكون مرناً، ويعمل على استيعاب طبائع الأمور التي تواجهه بشكل يومي في بلاد الغرب، ويفلتر تلك الأفعال وفقاً لما تقتضيه الضرورة الدينية، والقيم الأخلاقية الخاصة به.

التثقيف قبل الرحيل: فلابد أن يعرف الفرد قبل الرحيل طبيعة الشعب الذي سيعايشه ويتعلم لغته، ويتثقف ولو بالقليل حول أصول وأساسيات المجتمع الجديد.

إزالة حاجز اللغة: فيبدأ وهو في بلاد الغرب بتعلم لغة البلد التي يعيش فيها، وهذا ما يدعوه بكل سهولة وبمنتهى اليُسر إلى مزيد من الاندماج داخل المجتمع الجديد.

احترام الأقليات: قد يكون مبدأ لدى الغربيين ولكن هذا لا يمنع حدوث بعض التجاوزات، لذا من الضروري وضع قوانين للأقليات في البلاد الجاذبة للمهاجرين حتى يشعروا بالأمان.

طبيعة الشخص: فطبيعة الفرد المسافر إلى تلك البلاد تلعب دوراً هاماً في إمكانية الاندماج من عدمه، فالشخص المرن المثقف، الذي يحمي نفسه والآخرين يكون قادراً على تحقيق الاندماج الإيجابي مع تلك الشعوب.

مدى التوافق والتبادل الفكري بين الثقافات: فنجد أن العربي إذا رحل إلى بلاد العرب يكون الاندماج مع الشعوب العربية سهلا وميسرا، عكس البلدان التي تتحدث لغة أخرى وتتعامل بثقافة مغايرة، فكلما توافقت الثقافات وأسلوب الحياة والعادات والتقاليد كلما تيسرت عملية الاندماج.

عصر التعايش: نحن في عصر يجب فيه أن نتعايش مع كل ما هو كائن، وما سوف يكون، فيجب أن نعي تماماً التعددية الثقافية والفكرية والدينية، والتقدم التكنولوجي، حتى نستطيع أن نجابه كل التحديات، فالفرد القادر على التعايش يصبح قادراً على العيش في أي بلد مهما كانت لغته.

وجود المجتمعات الدافئة: ويقصد بها المجتمعات التي تقبل طبائع الآخرين بثقافاتهم المختلفة، فمثلاً على الغرب تقبل كرم العرب وعاداتهم وتقاليدهم ما دامت لا تتنافى مع أي قانون لديهم، فإذا حدث ذلك يشعر المهاجر بالدفء في تلك المجتمعات.

تطبيق الإسلام من المسلمين المهاجرين بمعناه الحقيقي: فيجب على مسلمي الخارج نقل الصورة الحقيقية للإسلام، لغة السماحة واليسر والسلامة، لغة التقدم والتحضر، حتى يبادلهم الآخرون من أهل البلد الأصليين العديد من السلوكيات الإيجابية، فيحدث بذلك اندماج روحي.

الالتزام والخضوع للقوانين “المواطنة الثقافية”: على المهاجر احترام كافة القوانين للبلد التي يعيش فيها، فنجد أن هذا يحدث ترابطات قوية بين المهاجر والسكان الأصليين.

لابد من طرفين: لن يحدث اندماج إلا بوجود دافع لذلك من طرفين هما المهاجر والساكن الأصلي.

التجنيس: فالهوس وراء فكرة التجنيس بجنسبة أوروبية قد يدفع الكثيرين إلى تعلم كل شيء عن ذلك البلد، كأنه يقنع ذاته بأنه من سكانها الأصليين، مما يؤدي إلى حدوث حالة من الذوبان داخل تلك الشعوب.

نظرة الغربيين للشرقيين: يتوقف الاندماج الفكري والثقافي على نظرة الساكن الأصلي للمهاجر، ومدى تعاونه معه، حيث يترسخ الشعور بالتقدير والاحترام المتبادل.

وجب التلميح في هذا الجانب إلى أن الاندماج لا يُعني ازدواجية الانتماء أو الذوبان والانصهار في الثقافات الأخرى، ولكنه يعني أن نتعايش ونتكيف، فالاندماج لا يحدث دون تنازلات، وعلى الإنسان تقدير حجم تلك التنازلات حتى تكون ذات أضرار ضئيلة.

المناهج التعليمية العربية

أمر محزن للغاية أن تخرج من أنظمة تعليمية كل هدفها في تعلم اللغات هو حفظ مجموعة من الكلمات والجُمل فقط، دون تعلم لغة الحوار أو أي أمور عن ثقافة تلك البلاد التي يتعلم الطلاب لغتها.
إن تعلم اللغات المختلفة لهو أمر ممتع للغاية، ولكن لدينا في الشرق وتحديداً الشعوب العربية يرسخ النظام التعليمي فكرة أن تلك اللغات هموم تقع على كاهل الطلاب، مما يؤدي إلى نفورهم من تلك المواد الدراسية، لأنهم ينظرون إليها وكأنها أمورا ليست ضرورية.
فيجب على تلك النُظم التعليمية أن تعي تماماً أن تعلم ثقافات الشعوب الأخرى أحد أهم دعائم الدولة للتقدم نحو الأمام، وأنه أمر قادر على أن يخرج لها جيلاً قادراً على التواصل والمشاركة والتفاعل مع البيئات والثقافات الأخرى، حتى يضمن حدوث عملية الاندماج بشكل إيجابي وفعال.
فما بين طموحات الاندماج مع الغرب، وتحديات الهجرة والثقافات، ومعوقات وضعتها النظم التعليمية قديماً في حياة الفرد، تقبع المشكلة، فتتلخص بين اللغة والهوية في تحقيق اندماج إيجابي قادر على تحقيق الأهداف والطموحات والوصول إلى الغايات المرغوب فيها لدى المهاجر الشرقي.
وفي النهاية نستعرض سؤالاً نرغب أن نجد له إجابات متعددة وليست إجابة واحدة فقط، وهو: ماذا لو تحدث العالم لغة واحدة؟

البحث في Google:





عن تامر الملاح

باحث و مطور في مجال تكنولوجيا التعليم و التربية، ومهتم بمشكلات التعليم، كلية التربية، جمهورية مصر العربية

تعليق واحد

  1. خياط يوسف

    المشكلة ظهرت وتظهر مع الجزائريين خاصة بحكم التاريخ المر .فهناك ذوبان تام لبعض الفئات رغم الجهود المبذولة ..لاحظناها عند بعض االلاعبين الممتازين في كرة القدم لايحفظ بل لايفهم معنى النشيد الوطني ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *