الكتابة العربية

من وحي الفكر اللغوي: فضل اللغة العربية ومكانتها

يدخل هذا الموضوع في إطار التعاون بين مدونة تعليم جديد والدكتور محمود علي محمد شرابي، وهو الأول من سلسلة “من وحي الفكر اللغوي. تُنشر حصريا على صفحات الموقع.

تمتاز اللغة العربية عن غيرها من اللغات بكونها لغة القرآن الكريم، دستور الدين الإسلامي، ولغة العبادات والعلوم والآداب الإسلامية كلها منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. لقد نزل بها الوحي الإلهي، دون بها الحديث الشريف، وعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها والسيرة النبوية والتاريخ، وغيرها من العلوم الإسلامية. ولا شك أن العربية لم تكن لغة القرآن ودين الإسلام صدفة أو عبثاً، فهي إن لم تكن أفضل اللغات في وقتها، فقد أصبحت كذلك بعد أن شرفها الله بنزول القرآن الكريم.

إن ارتباط اللغة العربية بهذا الدين، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان قد وفر لها أسباب النمو والاتساع والشمول، ما يميزها عن غيرها من اللغات من النواحي اللغوية والدينية والفكرية والثقافية. وإن ارتباطها بالقرآن الكريم، بشكل خاص، قد هيأ لها أسباب القوة والبقاء، وسخر لها علماء خدموها خدمة جليلة، وكشفوا عن أسرارها ودقتها في التعبير؛ خدمة للنص القرآني الذي ارتبط به جميع علوم المسلمين.

وقد ورد في فضل العربية وتفضيلها على سائر اللغات روايات وآثار كثيرة، منها أن العربية لغة أهل الجنة، وأنها لغة آدم ولغة غيره من الأنبياء، وأن الله أوحى اللغة العربية لأنبيائه وحياً، بدءاً بأبي الأنبياء آدم عليه السلام وانتهاء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الناطق بهذه اللغة، وغير ذلك من الروايات التي تداولتها كتب اللغة والأدب والتاريخ. غير أن معظم الروايات في هذا الموضوع لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة ولا حسنة؛ لهذا آثرنا عدم الاستشهاد بها، إلا ما صح سنده، وثبتت روايته، ورأينا في آيات القرآن الكريم ما يكفي ويشفي بل إن نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم باللغة العربية، ووعيه الكامل لكل ما أنزل عليه ولو لم يكن بلغة قومه قريش؛ دليل على أن الله قد ألهمه هذه اللغة إلهاماً. وسوف نعرض في الأسطر التالية ما ورد في كلام الأئمة من آراء، ثم نختم ذلك بما ورد عن غيرهم من الأجانب، ونعتقد أن هذا كاف لتغطية هذا الجانب.

ورد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) رحمه الله في وصف اللغة العربية وتفضيلها على سائر اللغات قوله: “لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعمله يحيط بجميع عمله إنسان غير نبي”. يعلل الإمام الشافعي ذلك بقوله: “.. لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه”. وورد عنه- رحمه الله- في تفضيل العربية على سائر اللغات قوله: “فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع. وأولي الناس بالفضل في اللسان من لسانه النبي، ولا يجوز- والله أعلم- أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد… وما ازداد من العلم باللسان الذي جعل الله لسان من يختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيراً له”.

وقد افتتح اللغوي المفسر، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (467- 538هـ) كتابه (الفائق) بمقدمة امتدح بها العربية بأنها أفصح اللغات، وذكر أن الله ألهمها نبيه إسماعيل إلهاماً، فقال: “الحمد لله الذي فتق لسان الذبيح بالعربية المبينة والخطاب الفصيح، وتولاه بأثرة التقدم في النطق باللغة التي هي أفصح اللغات، وجعله أبا عذر البلاغة التي هي أتم البلاغات”. وقد ذكر الزمخشري كلاماً نحو هذا في معجمه (أساس البلاغة).

كما ورد عن أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213- 276هـ) اللغوي المعروف، وصفاً للغة العربية يحتوى على تفصيلات محددة لما تميزت به اللغة العربية بفضل هذا القرآن، حيث يقول: ” إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع عمله، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات؛ فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتساع المجال ما أوتيته العرب خصيصي من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده إلى إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه”.

ويوضح أبو عثمان سعيد بن محمد المعافري السرقسطي (ت410هـ) شرف العربية وتفضيلها على سائر اللغات، معللاً ذلك بأنها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة، فضلاً عن فصاحتها وبلاغتها فيقول: ” وإن أشرف ما عني به الطالب بعد كتاب الله عز وجل لغات العرب وآدابها، وطرائف حكمها؛ لأن الله تبارك وتعالى اختارها بين اللغات لخير عترة، وأشرف أمة، ثم جعلها لغة أهل دار المقامة في جواره ومحل كرامته، فهي أفصح اللغات لساناً، وأوضحها بياناً، وأقومها مناهج، وأثقفها أبنية، وأحسنها بحسن الاختصار تألفاً، وأكثرها بقياس أهلها تصرفاً”.

أما الإمام أبي الحسين أحمد بن فارس (329- 395هـ) اللغوي المعجمي، فهو أوضح العلماء رأياً في العربية، وأكثرهم صراحة في تفضيلها على سائر اللغات. فقد عقد باباً في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)، عنوانه: (القول بأن العربية أفضل اللغات وأوسعها)، أورد فيه عبارة عربية، ذكر أنه لا يجوز نقلها إلى غير العربية؛ لصعوبة ترجمتها. وعقد باباً آخر عنوانه: (باب القول في لغة العرب، وهل يجوز أن يحاط بها؟)، افتتحه بقول بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي، ثم عقب عليه قائلاً: ” وهذا كلام حري أن يكون صحيحاً. وما بلغنا أن أحداً ممن مضى ادعى حفظ اللغة كلها …”. كما عقد باباً آخر بعنوان: (في ما اختصت به لغة العرب)، ذكر فيه من تلك الخصائص: الإعراب والشعر والعروض.

وتبع ابن فارس في ذلك الإمام جلال الدين السيوطي (849- 911هـ) الذي عقد في كتابه (الزهر في علوم اللغة وأنواعها) باباً سماه: (معرفة خصائص اللغة)، لخص فيه ما ذكره ابن فارس من خصائص اللغة العربية، بلغت ستاً وأربعين، ذكر منها: كثرة المفردات، والتعويض الذي هو إقامة الكلمة مكان الكلمة؛ كإقامة المصدر مقام الأمر والفاعل مقام المصدر، وفك الإدغام وتخفيف الكلمة بالحذف، وعدم الجمع بين الساكنين والتفريق بين المعاني بالحركات، وغير ذلك مما سوف نعرض له في موضع لاحق من هذا الكتاب.

أما أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي (ت 350هـ) صاحب ديوان الأدب، فقد فضل العربية على سائر اللغات، معللاً ذلك بأنها كلام أهل الجنة، وأنها مترهة عن كل نقيصة وأنها اختصت بالإعراب وحسن التأليف. يقول الفارابي في معرض حديثه عن المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم: “… وأما اللسان فهو كلام جيران الله في دار الخلد، وهو المتره من بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى عن كل خسيسة، والمهذب عن كل ما يهجن أو يستشنع فبني مباني بها جميع اللغات؛ من إعراب أوجده الله له، وتأليف بين حركة وسكون خلاه به؛ فلم يجمع فيه بين ساكنين، أومتحركين متضادين، ولم يلاق بين حرفين لا يأتلفان …”.

ويرى أبو العباس القلقشندي (756- 821هـ) في كتابه: (صبح الأعشى في صناعة الإنشا)، أن العربية هي اللغة التامة الحروف، الكاملة الألفاظ. يعلل ذلك بأنه لم ينقص عنها شيء فيشينها نقصانه، ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادته، وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة في رأيه إلى الحروف الأصيلة، وأن سائر اللغات فيها حروف مولدة ينقص عنها حروف أصلية.

هذه هي آراء علماء العربية من سلف هذه الأمة، أوردنا بعضاً منها، وتركنا البعض الآخر رغبة في الاختصار. بيد أن مدح العربية، وذكر فضائلها، وبيان خصائصها؛ لم يقتصر على العرب والمسلمين حسب، بل تعدى ذلك إلى علماء ولغويين من غير العرب، ومن غير المسلمين أيضاً. من هؤلاء المستشرق الفرنسي آرنست رينان Ernest Reanan (1823- 1892م) صاحب كتابي: موسوعة التاريخ المسيحي، وتاريخ اللغات السامية، المعروف بتعصبه الشديد. فقد لاحظ رينان خصوصية العربية في نشأتها ويسرها وثباتها وغناها، وذكر أنها اللغة التي بدأت فجأة على غاية من الكمال، وأن هذا- في نظره- أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب تفسيره.

ومن هؤلاء العالم الفرنسي مارسي، الذي يقول: “من السهل جداً تعلم أصول اللغة العربية؛ فقواعدها التي تظهر معقدة لأول نظرة هي قياسية ومضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يصدق؛ فذو الذهن المتوسط يستطيع تحصيلها بأشهر قليلة وبجهد متعدل”.

ومن هؤلاء أيضاً المستشرقة الألمانية آنا ماري شميل، التي وضعت مقدمة للترجمة الألمانية للقرآن الكريم، تقول فيها: ” واللغة العربية لغة موسيقية للغاية، ولا أستطيع أن أقول إلا أنها لغة أهل الجنة”.

من هؤلاء أيضاً روفائيل بي (1901- 1956م) الكتاب السرياني العراقي المعروف الذي قال عن اللغة العربية: “إنني أشهد من خبرتي الذاتية أنه ليس ثمة من بين اللغات التي أعرفها لغة تكاد تقترب من العربية، سواء في طاقتها البيانية، أو قدرتها على أن تخترق مستويات الفهم والإدراك، وأن تنفذ بشكل مباشر إلى المشاعر والأحاسيس تاركة أعمق الأثر فيها”

ومن هؤلاء اللغوية الألمانية المعروف يوهان فك Johann Fuch، صاحب كتاب (العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب)، الذي درس اللغة العربية دراسة علمية، وعرفها عن قرب، يقول: ” إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قامت في جميع البلدان العربية وما عداها من الأقطار الداخلة في المحيط الإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، ولقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها  زحزحة العربية الفصحة عن مقامها”.

أخيراً يقول المستشرق الألماني المعروف، كارل برو كلمان C. Brockelman (1868- 1933م) صاحب كتاب (الأدب العربي): “بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلاتهم … وبهذا اكتسبت العربية منذ زمان طويل مكانة رفيعة فاقت جميع اللغات الأخرى التي تنطق بها الشعوب الإسلامية”.

البحث في Google:





عن دكتور محمود علي محمد شرابي

أستاذ مناهج وطرق تدريس اللغة العربية المساعد - معهد تعليم اللغة العربية. مستشار مركز اللغويات التطبيقية. وأمين عام الجمعية الدولية لمعلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها / كلية الدراسات العليا التربوية، جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

9 تعليقات

  1. أبو فراس

    أسال الله لنا ولكم كل توفيق وسداد وإلى العلا والأمام دائما

  2. أبو فراس

    اللهم أفض علينا من علمك وحكمتك وجميل رحمتك

  3. عمر عبد الهادي

    ” وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ “

  4. د. محمود أبو فنه

    أحيّي د. محمود علي محمد شرابي على مقالته التي تظهر قدسيّة
    اللغة العربيّة وجمالها وغناها ومرونتها ودورها في الحضارة العربيّة الإسلاميّة
    والعالميّة، وحبّذا لو عرفنا – نحن الخلف – هذه المكانة المرموقة للغتنا الخالدة،
    وأوليناها من الدراسة والرعاية والإتقان ما تستحقّ!

  5. دكتور محمود علي شرابي

    فائق تقديري لكم أستاذنا الحبيب سعادة الدكتور محمود ابو فنه لكل الجهود المبذوله ومزيدا من العطاء والتميز وفقكم الله لكل خير ودمتم ارفعة العربية واهلها .

  6. دكتور محمود علي شرابي

    كل الشكر والتقدير استاذنا الحبيب سعادة الدكتور محمود ابو فنه لمروركم الكريم وعذوبة كلماتكم واسلوبكم
    ونبذل جهدنا لتطوير لغتنا وتيسيرها لعشاق العربية والراغبين في تعلمها.

  7. think you

  8. أبو فراس

    اللهم ألهمنا العلم والحكمة واجعلنا من عبادك المخلصين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *