التفكير الناقد

التفكير النقدي في التعليم

يعتقد في الغالب أن التفكير النقدي هو القدرة على التفكير بوضوح ومنطقية، ويبدو أن المفهوم يوحي بالضرورة بالتفكير المستقل العميق، وفي حقيقة الأمر تدين العديد من تعريفات التفكير النقدي بالكثير لتعريف “ديوي” للتفكير التأملي العميق الذي يؤكد على المعرفة والمعتقدات.

إن التفكير النقدي موجه نحو غايات بعينها، وطريقة تقدير منتظمة بذاتها، وتفرز التفسير، والتحليل، والتقييم، والاستنتاج، فضلاً عن التفسير القائم على التدليل، والتفكير، والمنهج، أو ما يعرف بالتقدير السياقي الذي يقوم عليه ذلك التقدير أو الحكم.

ويوصف التفكير النقدي بأنه ضروري بوصفه آلية للاستقصاء، وبذلك يعتبر التفكير النقدي قوة تحرر في التعليم، ومصدر قوة في حياة الطالب. وبالرغم من أن التفكير النقدي ليس مرادفاً للتفكير الجيد، فإنه يعتبر ظاهرة إنسانية لديها قوة الانتشار والقدرة على التصحيح الذاتي.

ويعكس هذا التعريف الاهتمام بتحديد المعايير الملائمة والدقيقة في صياغة الأحكام، وضرورة التوصل إلى أساس رشيد سليم للممارسات، بالرغم من أنه لا يحدد بدقة دور المعرفة.

إذن ليس التفكير النقدي ببساطة مسألة معلومات تراكمية، ومحتوى معرفي وربما لا يصيبنا الاندهاش من أنه في العقود الأخيرة من القرن الماضي، أصبح التفكير النقدي وتطوير مهارات التفكير أكثر ظهوراً في التعليم بسبب إدراك الناس للتغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا في علاقتها بكل من المعرفة والمعلومات.

وتذهب بعض الرؤى في التفكير النقدي إلى الأخذ بمنظور يدمج كل المهارات المذكورة من قبل على النحو الذي يمكننا من أن نخرج من التفكير في الذاكرة “أي القدرة على التذكر” إلى الإبداع.

وهناك سمة أخرى مهمة لأطر التفكير النقدي تتمثل في أن باحثين قليلين يحددون أنواعاً مختلفة من أهداف التفكير النقدي (مثل أهداف عالمية عامة، وأهداف محددة، وأهداف على المدى القصير) قد تؤثر بدورها على مدى ملائمة طريقة التفكير الضمنية، فمثلاً إذا رأيت شخصا يغرق أمامك في البحر، لا يتطلب قرارك بشأن ما تفعل تحليلاً كاملاً، وتأملياً عميقاً للخيارات الممكنة، وما تنطوي عليه من مزايا وعيوب، أو حتى توليد سلسلة من الفرضيات لاختبارها ومعرفة أبعادها، ولكن الأمر يتطلب تفكيراً سريعاً بشأن الخيارات، ثم اتخاذ الإجراء، وترتبط قيمة التفكير النقدي دوماً بجوهر أو بؤرة ذلك التفكير، فكلما زاد تعقد المشكلة كلما زادت قيمة التفكير النقدي في إيجاد الحلول أو الإجراءات الفعالة التي تؤدي إلى حل المشكلة.

إن التفكير بطريقة نقدية في شيء ما، هو التفكير بشأن المحتوى المعرفي المحدد بذلك الموضوع، وعلى أية حال بدون الخوض في تفاصيل بشأن محدودية الموضوع ومهارات التفكير العامة، يبدو أن هذا يمثل موقفاً شديد الجمود أو التزمت.

هناك جوانب من التفكير النقدي ربما تكون مفيدة للغاية في المجالات الأكاديمية، وفي الخبرات التي لا تنحصر في مجال التعليم أيضاً، أو ما يعرف بالسياق التعليمي، وربما تكون هذه المهارات مفيدة بشكل خاص لأن الطلاب يطورون من خلالها خبراتهم الخاصة.

علاوة على ذلك، يمكن القول أنه من منظور عمليتي التعليم والتعلم، قد يكون تقديم نماذج أو وسائل للطلاب لرؤية أوجه الشبه في تعلمهم، يمثل منظوراً مفيداً للتفكير، وعلى أية حال ينطوي استخدام مصطلح “مهارات التفكير” على إشكالية ما وبالرغم من استخدام الممارسين وصناع التعليم، لهذا المصطلح في أغلب الأحوال، نادراً ما ينخرط هؤلاء في البحوث وعمليات التطوير لأن كلمة “مهارات” قد تنطوي على مضامين سلبية، ويصعب تعليم مهارات التفكير بدون تطوير اتجاهات وميول تأملية ونقدية، وإدراج المعرفة المنصبة على موضوع معرفي ما بوصفها جزءا من تطور الطلاب، وهناك تعريف محدد آخر يتمثل في التركيز على الفرد وليس على السياق والثقافة، ويتطلب التفكير القائم على المهارات، من الطالب أن يفهم طبيعة التوقعات في سياق معين، وشكل النتيجة الناجزة.

إن التفكير النقدي ينطوي داخله على التفكير الـتأملي المنطقي القائم على تحديد من يمكن الاعتقاد في صحته وممارسته، وبالرغم من أنه يستحدث تصنيفاً ما نراه يشدد في التأكيد على أن العناصر أو المكونات قد لا تكون معيارية بالدرجة التى تجعل الأحكام والتقديرات تصاغ أوتوماتيكيا.

إن التعريفات الوصفية تميل إلى أن تكون سيكولوجية “نفسية” في الأصل، حيث تحدد المهارات المعرفية، والعمليات العقلية، والإجراءات الكامنة في جوانب التفكير المختلفة.

ويمكن الاعتقاد بأن كون الطالب جيداً في التفكير النقدي، يعني أنه يتمتع بالكفاءة في عمليات عقلية معينة، مثل التصنيف، والاستنتاج، والتحليل، والتقييم، وتشبه هذه الرؤية الواسعة والإجرائية (العملية) للتفكير النقدي، طريقة حل المشكلات، في أنها قابلة للتنفيذ من خلال مجموعة من الخطوات أو الإجراءات، ويمكن استخدام هذه الطريقة في معرفة تطور التفكير من منهج دراسي ما، وصياغة الخطط والتعليم على أساس الأفكار الرئيسية في هذه التصنيفات، ويمكن أن تسهم أيضاً في تحديد الأماكن التي يمكن فيها تعليم هذه الجوانب المختلفة من التفكير، والأماكن التي يحتاج فيها الطلاب إلى مزيد من الممارسة والتمرين.

وعلى النقيض من ذلك يطالب الفلاسفة باستخدام التعريف المعياري، الذي يقصدون به أن التفكير النقدي يرتبط بشكل متداخل بالقيم، ويعني بالأساس “التفكير الجيد” الذي يعكس القيم الثقافية والمجتمعية التي تعتبر”جيدة” ويرى هذا المنظور أن التفسير الوصفي المحض لا يقيم وزناً للقضية الجوهرية المتعلقة بجودة التفكير، فمثلاً لنتخيل أن أسرة تأخذ قرارا مشتركاً بشأن المشاركة في خطة محلية لتدوير القمامة، نجد أنه من المنظور الوصفي سوف يتضمن التفكير النقدي تحليل القضية، وتوليد الأفكار، وتقييم الحلول الممكنة، وجمع المعلومات معاً للوصول إلى قرار، ويمكنهم على أية حال تحليل القضية من خلال منظور ظاهري أو ملموس، مثل قضية مكان وضع سلال المهملات أو مشكلة إمكانية استخدام هذه السلال للأنواع المختلفة من الفضلات، ومن الممكن أيضاً تقييم بعض السلوكيات من منظور “متحيز” أي قائم على الأهواء، ولكن يتم ممارستها على نحو تقليدي أو نمطي، ومن ثم قد يكون هناك جدال بشأن أنواع السلال التي تحتاجها ربات المنازل المختلفة.

ويمكن لمجموعة متنوعة من المهارات الفكرية أن تحدد بسهولة وجود أو تكرار أو غياب الأنواع المختلفة من التفكير، ولكنها لا تحدد جودتها أو علاقتها بالقضية.

إن إدخال التفكير النقدي في المناهج الدراسية يتطلب مضامن معرفية، وبعض التوترات المترتبة على ذلك في تطبيق المصطلح، بتعدد واختلاف مفاهيم طبيعة المعرفة والتعليم، ويؤكد التفكير النقدي على قدرة الطالب على التأمل والتحليل في عملية التعلم أو محاولة المعرفة، وينطوي بالضرورة على اختلاف في جودة المعرفة، ويحقق الطالب التقدم من خلال النشاط الهادف الموجه، وهو يرتبط إلى حد بعيد بالرؤى الفلسفية لمفكرين عظام من أمثال “ديوي” بخصوص العلاقة بين المتعلم والمحتوى المعرفي الذى يتعلمه، أي أن المعرفة بمثابة تفاعل أو صفقة بين العارف والمعرفة.

ويتشابه الكثير مما تمت مناقشته حول التعليم في واقع الأمر مع كيفية حفظ الطالب للمعلومات التي تتأكد من خلال مهارات دراسية محددة، وعلى المستوى الفكري، أعتقد أن هذا تحد من نوع ما، لأننا نصف المعرفة المكتسبة بأنها معرفة بمجرد تطبيقها بفاعلية.

وثمة عامل مهم في هذه الميزة العقلانية للمعرفة، يتمثل في الحوار والتفاعل، أو في تطبيق الطالب لهذه الأفكار بشكل مبدع بالتعبير عما يفهمه من خلال المناقشة مع الآخرين.

أن هذا أيضاً لا يعد مفهوماً متكاملاً عن المعرفة، وفي ضوء هذا سوف يظل هذا النشاط شكلياً مصطنعاً، ويمكن تطبيق هذه المعلومات فقط، إذا أصبحت صالحة ومعتمدة في البحوث الهادفة لحل هذه القضية.

وهناك نظرة ترى المعرفة باعتبارها، لا هي مثالية نموذجية، أو غير سابقة الإعداد، ولكنها تكتشف في الممارسات الهادفة، وفي ضوء هذا المنظور توصف المعرفة دوما بأنها ممارسة مبدعة متجددة، ويشمل الإبداع بهذا المعنى كيفية تعلم الطفل للحبو، وكيف يلحن الموسيقار أغنية ما، ويمكن فهمه على أنه إبداع فردي، وإن لم يكن متأصلاً في الثقافة.

إن التعلم الفعال من خلال الممارسات الهادفة والتعبيرية لم يكن اقتراباً تدريجياً نحو مفهوم مثالي ما، أو أي فرضية مجردة، وتعتبر المعرفة، “معرفة” بهذا الشكل لأنها تشبه العلوم الفعالة المؤثرة، ولأنها تفتح الطريق أمام القدرات الإبداعية لطرق جديدة من فهم العالم، وللممارسات التي تتم فيه، وأيضاً يرتبط هذا المفهوم بتعريف الأشكال الأكثر تداخلاً وتعقيداً في التفكير، على أنها “فكر مبدع متجدد”.

وعلى أية حال يجب أن نلاحظ أن ثمة تغيراً كيفياً بين المعرفة المستنسخة (الناقلة) التي تتطور، أو تكتسب من خلال الفهم، والإدراك، والتذكر، والفهم الأساسي، وبين المعرفة المبدعة التي توجد معرفة جديدة للمتعلم من خلال التحليل، والتوليف، والتطوير، والفكر التأملي الإبداعي، وتبدو هذه الفكرة، عن المعرفة والتعلم، ملائمة إلى حد بعيد للعالم التكنولوجى المتغير باضطراد حيث تتوفر المعلومات على نطاق واسع، وهى أيضاً عملية تعلم من خلال التفكير النقدي التأملي والعملي، والسعي لتطبيق المعلومات، وكيفية تطبيقها بطريقة ناجزة وهادفة.

هذا بإختصار ما يميز السمة التربوية للمعرفة التى يراها المرء “مبدعة ومتجددة” ولا شك أن المهمة لا تزال تتمثل في البحث في العلاقة بين المهارات والمعرفة، والتقريب بينهما، ولا سيما في سياق العالم الرقمي، وتختلف طرق الوصول إلى المعلومات اختلافاً بيناً، ولكن يبقى السؤال المطروح وهو ماذا عن طريق تقديم هذه المعلومات وتوصيلها في ضوء العلاقة بين معرفة الفرد ومعرفة المجتمع بشكله الواسع؟.

إن ما يشغل التربويين في هذا التوقيت هو حجم المعلومات في الوقت الراهن، ونطاق التغيير الذي يجب أن ينعكس في تفاصيل المناهج وطريقة التربية في عصرنا هذا، ولا شك أن الطرق التى نتفاعل بها مع المعلومات أصبحت مختلفة بالنسبة إلى كم وكيف المعلومات بشكل خاص.

ولا سيما أنها أصبحت في المتناول، وليست المعلومات في حد ذاتها، معرفة بالمعنى نفسه، لأن المعرفة تعتمد على القدرات الشخصية التي تشمل التفسير والقدرة على تحديد المعاني.

وهذا بدوره يقتضي وجود غرض من وراء اكتساب واستخدام المعلومات، ويبقى السؤال هل نحن بحاجة إلى مناهج تنطوي على معرفة أقل تحديداً وتخصصاً بالشكل الذي يفسح المجال للتأكيد على المهارات بحجة أن المعلومات، ومن ثم المعرفة متاحة بالفعل، وسهلة المنال؟ أم هل نحن بحاجة إلى مزيد من المعرفة، بوصفها الأساس لتطوير خبرات أكثر والقدرة على صياغة أحكام وتقديرات معقدة قائمة على معلومات، يقينية اعتماداً على فهم أعمق لموضوع بعينه أو مجال ما؟.


 

 

قائمة المراجع

  • أحمد الحارثى، إبراهيم بن أحمد مسلم(2003): نحو إصلاح المدرسة في القرن الحادى والعشرين، مكتبة الشقري، الرياض.
  • أوتشيدا، دونا، مارفين سيترون،  فلوريتا ماكينزى (2004): إعداد التلاميذ للقرن الحادي والعشرين،  الدار المصرية اللبنانية،  القاهرة.
  • عبدالطيف الفاربى (2004): مقاربة جديدة في تناول المناهج وخطط التدريس، مجلة علوم التربية، دورية مغربية، عدد 26م.
  • كوثر حسين كوجك (2001): اتجاهات حديثة في المناهج وطرق التدريس والتطبيقات في مجال التربية الأسرية، ط2، القاهرة،  عالم الكتب.

البحث في Google:





عن د. إيهاب ابراهيم السيد محمد

دكتوراه الفلسفة في التربية النوعية، كلية التربية النوعية جامعة عين شمس. تخصص تكنولوجيا التعليم زميل كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا - جمهورية مصر العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *