البيداغوجيا اللاتوجيهية التعلم الاجتماعي العاطفي الأنظمة التمثيلية

ما هي البيداغوجيا اللاتوجيهية ؟ وما علاقتها بالتربية الحديثة ؟

التربية الحديثة و البيداغوجيا اللاتوجيهية

يَرتبط اصْطلاح ” التربية الحديثة ” بدعوة الفيلسوف ستانسيو، في كتابه “المدرسة والمذاهب التربوية في القرن العشرين” (1995) إلى ممارسة الحرية واسْتعمال العقل في التربية، بواسطة المناهج التَّربوية التي تّهتم بوحدة الشَّخصية وتَنميتها بمجالاتها المختلفة، المجال العقلي، الانْفعالي والنفس حركي (ديوي، 1972) بهدف تحقيق السَّعادة والتوازن للمتعلم، بدلًا من التَّوجيه الآلي بواسطة المناهج التي تركز على التعليم النَّظري للمادة. كما أسهم العديد من العلماء والفلاسفة والمُربين في تحقيق هذه التربية، أمثال سكنر، جون ديوي ومونتيسوري.   تعتمد التربية الحديثة على نتائج الأبْحاث في علم النَّفس وعلم الاجتماع، و تتصف بالديناميكية التي تتلاءَم مع الحياة.

لقد أسهمَ المُعالج النَّفسي الامريكي كارل روجرز (1902-1988)، بواسطة “نظرية الإرشاد العلاجية”، التي اكتشفها  خلال  أبحاثه في مَيدان العلاج النَّفسي واشْتغاله بالعلاج المُمركز حول العميل Client-centered therapy non-directive، بتطوير ” البيداغوجيا اللاتوجيهية “. لتحقيق التربية الحديثة بصورة تدريجية، وهذه التربية تعتبر من التيارات المعاصرة.

نظرية الذات Self theory

ظهرت ” نظرية الذات ” كردةِ فعلٍ على سيطرة نَظرية التَّحليل النَّفسي والنَّظرية السُّلوكية مُنذ بدايات القرن الماضي على نظريات الشَّخصية،  سُميت كذلك بالنَّظرية اللامباشرة والنَّظرية الشَّخصية، وتستند الى المفاهيم الأساسية التَّالية: الإنسان، الذات والمجال الظَّاهري (روجرز، 1959). عرف روجرز هذه المفاهيم كالآتي:

 – الإنسان: هو كلٌ منظم يَسلك بشكلٍ كُلي في المجال الظَّاهري، من أجل تّحقيق الذَّات والسُّلوك المقصود لتَّحقيق النُّمو والتَّطور، كما أن روجرز يَرى بأن الإنسان خَيِّر بطبْعِه ولا ضَرورة للتَّحكم به والسيِّطرة عليه.

-الذَّات: عبارة عن مُدركات وقِيم، تَنشأ من التَّفاعل بينَ الفردِ والمُجتمع. وهي في حالةِ نّمو وتغييرٍ مُستَمرين وتُحافظ على سُلوكِ الفرد.

– المجال الظَّاهري: المقصود به، الواقع المُحيط بالفرد، والفرد يَختار استجاباتَه على أساس ما يُدركه وليسَ على أساس الواقع. لذلك تَستند نظرية روجرز على الأُسس التالية:

1) كلُّ فَرد يَمتلك حقائق مُختلفة لأنه موجودٌ في عالمٍ مُتغير من الخبرات، هذه الحقائق يُسميها روجرز بالإطار المَرجعي الدَّاخلي للفرد.

2) الطَّريقة الصَّحيحة لفهم الفرد هي معرفة طَريقة إدْراكه للعالم المُحيط به.

3) فهم الذَّات يَكون بحالةِ نموٍ مُستمرة عن طَريق التَّفاعل بين الفرد والبيئة.

4) الذات كل مُنظم يُعبر عنها الإنسان باستخدام ضمائر المُتكلم.

تَنتمي طريقة العلاج المتمركز حول العميل، للمدرسة الإنْسانية في علم النفس، و تركز على استبصار ( Insight ) الفرد بذاته وبخبراته التِّي شَوهها، حَرفَها أو أنكرها، في محاولة لإدماج أو تقريب بين الذَّات وهذه الخبرات،  مما يُهيئ الفرصة لنُّمو الشَّخصية أو كما يقول روجرز التَّحول  إلى ذات جديدة ( روجرز، 1959).

إن المُشكلة حسب ما تَراه هذه النَّظرية، هو الصِّراع بين تحَقيق الذات، لأنه حاجةٌ غريزية ودافع ٌداخلي، وبين التَّحقيق الإيجابي للذات، أي تحقيق الذات وفقاً للمعايير الاجتماعية والأخلاقية القائمة والمُنتشرة في المُجتمع (روجرز، 1959). يصل العميل إلى مرحلة الفهم والاسْتبصار بأسباب مشكلته، اذا اسْتطاع أن يَفهم ذاتَه الحقيقية، ويَتعرف عَليها أثناء اللقاءات الإرْشادية من خلال الإمكانيات، القدرات والظروف التي يُشير إليها في هذه الجَلسات. أما الهدف من هذا العلاج ( الفهم والاستبصار )، هو مساعدة المسترشد\العميل لكي يصبح قادرًا على الأداء والإنجاز الكامل ومساعدته في حل مشكلاته بواسطةٍ الكشفٍ عن الذَّات الحقيقية له وتُصبح لديه القناعةُ والقدرةُ لعدم الانْصياع الآلي لتَّوقعات الآخرين وبهذا يَصل الفرد لتحقيقِ ذاتِه وهذا الشَّخص يتميز بالصفات التَّالية:

يكون منفتحا على الخبرات، يمتلكُ الثقة بالنَّفس، يَمتلك القدرة على التَّقييم الذَّاتي ويَمتلك الاستْعداد للتَّحول والتَّغيير بصورة عَقلانية مع استعمال التفكير.

يعتقد روجرز، أنَّ الإنسان لديه دافعٌ فطري لِتحقيق ذاتِه، وأن الفَشل أو الإحباطات التي تَعترضُ طريقَ تَحقيقِ ذاتِه، تؤدي إلى ظهورِ الأعراضِ أو المُشكلات المَرضية لَديه (الزيود، 1998).

ترتبط نظرية  “الذات” بدراسات أبراهام ماسلو (1908-1970) الذي اهتم بدراسة الأفراد الذين يعملون في مجالات مختلفة ويعانون من مُشكلاتٍ نتيجة عَمَلهم.

لقد قام ماسلو بعدة  دراساتٍ، أجراها  عَلى  الشَّخصيات المَشهورة والمُبدعة، من أجل  معرفة الكيفية  والنَّوعية التِّي يُحققون بها الإنْجازات في مجالات أعمالهم. فتوصل إلى أن السَّعي لتحقيقِ الذَّات Self- actualization، هو العُنصر الذي يؤثر في هذه الإنْجازات، كما أشار ماسلو(1943) إلى أن الشَّخص الذي يُحقق ذاتَه هوَ الشَّخص الذي لديه دافعٌ للإبداع واسْتخدام جَميع إمكانياتِه في عمله، مِهنته ووظيفتِه.

أما جان جاك روسو  مؤسس “الفلسفة الطبيعية ” فيرى أنَّ التَّوجيه في التربية يَرتكز على العَطف والتَّوجيه غير المباشر، ويرى في التَّعليم عَملية طبيعية هَدفها دفع الفردِ للنُّمو الطَّبيعي، كما أن معرفة ميولِ الطفل تُسهل تحقيق هذا الأمر، أما وظيفة المُعلم فهي الإشْراف والتَّوجيه للطالب لينمو نُموًا طبيعيًا وسليمًا، دون ضغطٍ أو إجبار.

آمن روجرز بان الفرد قادرٌ أن يصلَ إلى فهمِ ذاتِه بشرط أن َتتوفرَ الظُّروف الملائمة والجو الدافئ الذي يسمح له بحرية الكلام، ويقوم المرشد المُعالِج بإظهار عبارات كانَ قد نطق بها المُعالَج يرددها ويشدد عليها، مع عدم التوجيه، النصح والتفسير والإرشاد المباشر.  وبهذا الأسلوب الكلامي، يصل المعالج لفهم لطبيعته ويساعد في تحقيق الذات وحمايتها وتعزيزها Actualize, maintain and enhance the self.

كما يُسهم هذا الفهم، في تكيفه مع البيئة وأبعاد القيم والاتجاهات الدخيلة على شخصيته التي لم تَتولد من خبراته المباشرة، إنما هي من البيئة المحيطة من الوالدين وجماعة الأقران، هذه الخبرات الدخيلة تؤدي الى حالات من الصراع القلق وشخصية تعاني من الانقسامات والصراع، لذلك البيداغوجيا اللاتوجيهية تتسم باكتشافِ الفرد لمشاعره مما يُسهم في بناء شخصيته بشكل إيجابي.

لقد انتشرت نَظرية الذات لعدة أسباب أهمها: سهولة استعمالها، حيث أنها تتلاءم مع الأسلوب الديمقراطي، وتعطي الحرية للتعبير البَناء عن الرأي، وتَحرصُ على تَغيير الشَّخصية أكثر من نظرية التَحليل النَّفسي، ولهذا تعتبر نّظرية تفاؤلية (العامري، 2000).

أما ساندر، فيعتقد أن هذه النظرية من الصَّعب تطبيقها مع المُسنين، منخفضي الذكاء والذين يعانون من اضطرابٍ في الكلام، أما دولارد وميللر فقد اعتبراها، نَظرية تَعلمٍ لأنها تتناول النُّضج النفسي (الزيود، 1988).

كما أن النَّظرية تَرتكز على العلاج المَشروط بتوفر التَّقبل الإيجابي والتَّعاطف، فإذا نقصَ واحدٌ من العنصرين فإن العلاجَ لن يَتحقق. (دولارد وميلر، 1950).

أُسس نظرية الذات وانْعكاسها على البيداغوجيا اللاتوجيهية

تنعكس هذه الأسس من خلال فحوى العلاقة بين المعلم والطالب، وهي:

– أن يستند المعلم على المَنطق، في المُمارسات والأدوات التي يَستعملها.

– أن يكون المُعلم مَوضوعيًا، لا يتعامل من خِلال قيمه واتجاهاته الخاصة، حتى يَندمجَ مع المتعلم.

– أن يحترم المعلم التلميذ بلا شروط مُسبقة.

– عدم استعمال التَّوبيخ أو الإطراء مما يَمنح المتعلم الشُّعور بالثقة.

– خلق علاقة وتواصل بين المعلم والمتعلم.

– تسليط الضوء على تَجربة المُتعلم لإخراجِه من المُشكلة وحلها، بهدف التأقلم مع الصعوبات المختلفة.

إن هذه الأسس نابعة من إيمان  روجرز بأن التربية تَرتبط بصفات المُعلم وقدراته الشَّخصية، اتجاهاته ومواقفه المشجعة للتَّعلم الحر للطالب، وليس على معرفتِه وقدرتهِ على استعمال تقنيات المعرفة. كما تُعطي البيداغوجيا اللاتوجيهية أهمية كبيرة لِفحوى العلاقة بين المُعلم والمُتعلم، فالمعلم لا يفرض على المتعلم عملا ما أو استعمال تقنية أو أداة، ولا يُمارس أي سلطةً أو هيمنة على المتعلم، وتَتلخص هذه العلاقة بما يلي:

– أن يتقبل المعلم التلميذ كما هو، وأن يتفهم المعلم الطالب ويدخل إلى عالمِه الشَّخصي.

– أن يستمعَ المُعلم للتلميذَ حتى تنْكشف  للمعلمِ جوانب شخصية التِّلميذ من خلال ألفاظِه بصورةٍ تلقائية Spontaneity، وأن يَمتلك المعلمُ القدرة على التعاطف “الشُّعور الوجداني”  Empathy  مع المتعلم، وهذا التَّعاطف يُؤدي إلى انفتاح الذَّات، إبداعها وتطورها، حيث يجب أن تكون علاقة المعلم بالمتعلم واضحة وواقعية وأن يَعكس المُعلم  أفكارَ المُتعلم من خلال فَهمه لهذه الافكار، ليعطيه فرصةَ التَّعبير الحر عنها.

إسهامات البيداغوجيا اللاتوجيهية التربوية                      

 تُسهم النَّظرية اللاتوجيهية في التربية، بتعزيز تَطور وبناء الشَّخصية، ونُموها وإبداعها، وهذا التطور يرتبط بعدة شروط:

– تنمية مفهوم الذَّات الإيجابي والواقعِي عند المُتعلم، لأن مفهوم الذات أهم من الذَّات الحقيقية في تقرير السلوك، أما الإحباط فيؤدي إلى عدم فهم الذات، وعدم إشباع الحاجات الأساسية لدى الفرد (زهران،1982).

– تحقيق الأمان النَّفسي للمُتعلم، هذا الأمان يَنبع من شُعور الفرد بانه ذو قيمة ولديه قدرات كامنة على الرغم من ظروفه وسلوكه، فهذا يؤدي بالمتعلم للبحث عن طرق لتحقيق الذّات بطرقٍ تلقائية وجديدة.

– توفير مناخ يَنْعدِم فيه التَّقييم الخارجي والأحكام مما يُشجع الفرد على التَّوازن والإبداع لشخصيته لأن الأحكام الخارجية تُعتبر تهديدًا للمُتعلم وتؤدي لاتخاذ موقفٍ دفاعي من قبل المتعلم.

– إعطاء الفُرص للمُتعلم، للتَّعبير بشكلٍ حر وهذا يؤدي الى انفتاح الشَّخصية وإبداعها.

استنادًا لهذه االشروط فإن مَناهج التربية الحديثة، تَرتكز على مجموعةِ من المبادئ، وهي:

– دراسة شَخصية الطفل من ناحية نَفسية واجتماعية.

– الاهْتمام والعناية بالبيئةِ التَّربوية للطفل.

– جَعل المُتعلم مسؤولًا في العَملية التَّعليمية التَّربوية.

– إعطاء المُتعلم القدر الكافي من الحريةِ الجسمية العقليةِ والتعبيريةِ، بهدف تَطَوير الطَّاقات الكامنة وانْطلاقها.

– اسْتثمار هذه الطاقات وتوظيفها في عملية التَّعلم.

– التَّعلم بالخبرة وتعلم الحياة من خلال الحياةِ نفسها.

– تحقيق الذات عند المتعلم.

خلاصة

تعتمدالبيداغوجيا اللاتوجيهية على الفرضية الأساسية، أن الطالبَ يَمتلكُ الرَّغبة بشكلٍ تلقائي في التَّعلم  دون إجبار، إكراه  أو أي عامل خارجي. استنادًا لهذه الفَرضية فإن التَّعلم عِند المُتعلم، هو نشاطٌ ذاتي وتجربة شخصية يُمارسها المتعلم نفسه. لذلك على المَدرسة  تَهيئة الجو التَّربوي المُناسب، الذي يؤدي إلى التَّعلم بصورةٍ لاتوجيهية ويَسمحُ للمتعلم أن يَتعلم بنفسه استنادًا لميولِه الطبيعية، وهذا الجو التربوي يُركز على تَسهيل مرحلة التَّعلم وليسَ على عمليةِ التعليم وحشو المعلومات في رأس التِّلميذ. لكن هل نستطيع، في هذا العصر، التعامل من خلال هذا النَّهج التَّربوي كليًا في العملية التربوية مع جميع فئات الطُّلاب وفي كل المجتمعات؟

 


المراجع

1)الزيود نادر، نظريات الإرشاد والعلاج النَّفسي، دار الفكر الاسلامي الحديث، 1988

2)العامري منى، فعالية الإرشاد النفسي العقلاني الانفعالي و العلاج المتمركز على العميل في علاج بعض حالات الإدمان .معهد دراسات و البحوث التربوية . القاهرة (2000)

3)  زهران عبد السلام، الصحة النفسية و العلاج النفسي، عالم الكتب، القاهرة:2005.

4) زهران، عبد السلام  التوجيه والإرشاد النفسي، الطبعة الثانية، القاهرة: عالم الكتب،1980م.

5)زهران، عبد السلام.. التوجيه والإرشاد النفسي. عالم الكتب. القاهرة، مصر1982

6) عبد الستار، إبراهيم .العلاج النفسي الحديث،عالم المعرفة.الكويت:1980 .

7)موسوعة “ذخيرة علوم النفس للدكتور” كمال دسوقي- المجلد الثاني-

 بالانجليزية

1)Dolard ,j  ;Miller, Neel, E. Personality  and Psychotherapy:analysis in terms  of learning , thinking  and culture.macgraw-hillpublications in psychology. (1950)New York:McGraw-Hill

Maslow, A. H. A theory of human motivation. (1943) Psychological Review.

2)McLeod, S. A. Maslow’s hierarchy of needs. (2018, May 21).  Simply psychology: https://www.simplypsychology.org/maslow.htm

3)Rogers, Carl. (1959). A Theory of Therapy . Personality and Interpersonal Relationships as Developed in the Client-centered Framework. In (ed.) S. Koch, Psychology: A Study of a Science. Vol. 3: Formulations of the Person and the Social Context. New York: McGraw Hill.

البحث في Google:





عن عطاف مناع صغير

مرشدة ومحاضرة في قسم التربية في الكلية العربية لإعداد المعلمين في حيفا، منذ سنة 1997 وحتّى الآن ، كما عملت في كليتي غرناطة (كفر كنا ) وكلية سخنين لإعداد المعلمين في السَّنوات ( 2004- 2006 ) بالإضافة لعملها في الكلية في حيفا. طالبة دكتوراه في علم النفس التربوي والتفكير. صدر لها العديد من المقالات في الإدارة التربوية والفلسفة باللغة العربية و اللغة العبرية. صدر لها العديد من الدواوين الشعرية. - فلسطين -

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *